فى يوم 23 يوليو 1952 كان طه حسين يقضى إجازة صيف فى قرية فى شمال إيطاليا، يومها تلقى اتصالا تليفونيا من السفير المصرى فى روما يبلغه بقيام «حركة الجيش المباركة»، وحين عاد إلى القاهرة كتب عدة مقالات فى جريدة الجمهورية يرحب فيها بالثورة ويقول إن هذه ليست مجرد حركة ولكنها «ثورة».
كان طه حسين مؤمنا بضرورة تغيير المجتمع المصرى وتحقيق خطوات كبرى للإصلاح الاجتماعى والعدالة الاجتماعية والمساواة فى الفرص، كان يكتب قبل الثورة عن تجديد المجتمع ونشر التعليم، وكتب كثيرا فى نقد الأوضاع التى كانت سائدة قبل الثورة بما فيها زيادة فقر الفقراء وزيادة غنى الأغنياء، ومع المقالات كتب رواية «شجرة البؤس» وكتاب «المعذبون فى الأرض» الذى منعت السلطات توزيعه وصادرت النسخ.
ومن المعروف أن جماعة الإخوان كانت تعادى طه حسين لأنه كان أقوى المعارضين لاستخدام الدين وسيلة لتحقيق أغراض سياسية أو اقتصادية لصالح أفراد أو لصالح فئة أو جماعة معينة، ولهذا حاولوا الإساءة إليه إلى درجة اتهامه بالكفر ومعاداة الأزهر على الرغم من تكرار قوله بأنه ابن الأزهر ومطالبته باستعادة دور الأزهر فى الإصلاح الدينى.
بعد مقاله الذى أطلق فيه اسم «ثورة» على «الحركة المباركة» استجاب «الضباط الأحرار» وتغير اسمها فعلا، واستمرت مقالات طه حسين المؤيدة للخطوات التى تحققها الثورة لتحقيق أهدافها فى القضاء على الاستعمار وأعوانه، والقضاء على الإقطاع والاستغلال وسيطرة رأس المال على الحكم.
كان طه حسين فى ذلك الوقت قد جاوز الثالثة والستين من عمره، أى أنه كان فى مرحلة توديع الكهولة واستقبال الشيخوخة، وهذا يؤكد أنه لم تكن له أطماع فى منصب أو مكسب، وفى عدد «الأهرام» يوم 2 أغسطس 1952 كتب مقالا بعنوان «صورة» أعقبه بمقالات أخرى فى الأهرام عبّر فيها عن ترحيبه بالثورة وطالب بثورة «ثقافية» إلى جانب الثورة السياسية والاجتماعية، وكتب رسالة إلى توفيق الحكيم قال فيها إن «الأدب» هو الذى هيأ لقيام الثورة ولابد أن يكون له دور فى التعبير عنها، وذهب إلى البندقية لحضور مؤتمر اليونيسكو فى الأسبوع الأول من سبتمبر ألقى فيه أول خطاب باسم مصر بعد الثورة، ويذكر المؤرخ الكبير الدكتور أحمد زكريا الشلق أن الصحف الإيطالية كتبت أن طه حسين «ملهم الثورة الاجتماعية والاقتصادية فى مصر»، لكن ذلك لم يمنعه من الكتابة عن رقباء الصحف، الذين كانوا يقفون للمقالات بالمرصاد وكيف أن الكتّاب كانوا يخشون السجن أو الاعتقال؟ مع أن الناس فى أوروبا يعرفون عن أخطاء وسيئات الحكم مثلما كان يعرف المصرى، وقد ردت الثورة لمصر كرامتها، وفى مقاله دعا الله أن يبارك الجيش فيما يفعل، وأن يبارك الله لمصر فى جيشها، وعندما عزل الملك فاروق، أشاد طه حسين بهذه الخطوة وبمصر التى ضربت للعالم مثلا رائعا بثورتها التى عزلت الملك وتركته يذهب إلى منفاه دون قطرة دم، وكتب يقول: «اسأل نفسى: أيتاح لى ولأمثالى من الذين طالبوا بتحقيق التضامن الاجتماعى الصحيح، وأنكروا على المترفين إسرافهم فى الترف، أن نرى مصر ذات يوم وقد أنصفت الدولة كل محروم؟»، وكتب يشيد «بقائدنا العظيم» الذى غيّر حياة مصر فى أيام قليلة، ورد إليها شرفها وكرامتها، ورأى أن مصر ينبغى أن تخلق خلقا جديدا، وأن تتغير نظمها المختلفة، وأن يتم توزيع الثروة توزيعا عادلا، وتمكين العاطلين من العمل، وتمكين الجاهلين من العلم، والانتصاف للضعفاء.
يذكر الدكتور أحمد زكريا الشلق أن الثورة حين أسقطت دستور 1923 فى 13 يناير 1953 وأرادت أن يحل محله دستور جديد يتفق وأهدافها شكلت لجنة من خمسين عضوا من مختلف التيارات الحزبية ومن أساتذة القانون الدستورى والسياسيين المستقلين ورجال الاقتصاد والشخصيات العامة، واختير طه حسين ضمن أعضاء هذه اللجنة، وكتب طه حسين: «إننا يجب أن نرد الحق الأكبر إلى صاحبه وهو الشعب، فالدستور يوضع للشعب كله بتعاقب أجياله، والشعب هو صاحب الحق الأول فى أن يختار لنفسه نظام الحكم الذى يختاره، وأن من حق الأجيال المتعاقبة أن تغير هذا النظام بين حين وآخر لتلائم بينه وبين احتياجات الأجيال، على ألا يكون الدستور منحة من نظام الحكم الجديد إلى الشعب، وإنما الشعب هو الذى يعطى لنفسه هذا الدستور الجديد.
فى نفس الوقت كان طه حسين ينبه إلى خطورة العودة إلى حكم الفرد أو حكم الصفوة، وعندما أعلنت حكومة الثورة عن تشجيع الأجانب على استثمار أموالهم فى مصر كتب أن ذلك خير للبلاد ولكن لم لا تستثمر أموال المصريين فى مصر فى مشروعات الإصلاح.
ودعا طه حسين قادة الثورة إلى التفاوض مع الإنجليز أو الجهاد ضدهم للتخلص من جيش الاحتلال، وقال إنه يرى يوم الجلاء بات قريبا، وليكن القسم الذى نقسمه فيما بيننا وبين الله على أننا لن نخدع مرة أخرى كما خدعنا من قبل بهذا الحديث المعاد، حديث المفاوضات.
وحين أصدرت قيادة الثورة صحيفة «الجمهورية» فى ديسمبر 1953 أخذ طه حسين يوالى الصحيفة بمقالاته فى السياسة والأدب، وتولى رئاسة تحريرها فى أول أبريل 1960 ضمن ستة رؤساء تحرير، وعندما انفرد حلمى سلام برئاسة التحرير استغنى عن طه حسين فكتب: «لقد استغنوا عن خدماتى ضمن عدد من المحررين» بعد إحدى عشرة سنة من الكتابة شبه المنتظمة فى «الجمهورية» وكتب: «لقد بلغت والحمد لله من السن ما ينبغى أن يبرأ معه الإنسان من المطامع والمنافع، وإننى أكتب لوجه الله ثم لوجه الوطن لا يعنينى أن يرضى عنى الراضون أو يسخط علىّ الساخطون»، وقال إن أمنيته «بأن تظل ثورتنا كما بدأت نقية من كل إثم، بريئة من كل شىء.
وظل ينادى بضرورة وجود المفكرين إلى جانب الحاكم ليستفيد من أفكارهم وعقولهم، وعندما تعرض عبد الناصر لمحاولة الاغتيال التى نفذها الجهاز السرى لجماعة الإخوان كتب مقالا هاجم فيه هذه الجماعة التى تسعى إلى إشعال حرب داخلية بين المواطنين، وجمعت مقالات طه حسين مع مقالات محمد التابعى وعلي أمين وكامل الشناوى وناصر الدين النشاشيبى فى كتاب صدر عام 1955 بعنوان «هؤلاء الإخوان» وكانت هذه المقالات بمثابة «إنذار مبكر» لخطر الإخوان.
وحين كرمته الثورة ومنحته جائزة الدولة التقديرية ألقى خطابا رائعا مدح فيه الثورة وقائدها وطالبها بمزيد من الحريات وإلى زيادة الاهتمام بالفكر والثقافة والتعليم لتحقيق التكامل فى البناء الجديد للوطن، كان طه حسين يرى أن مسئولية المثقف أن يشارك فى بناء وترشيد النظام الجديد الذى كان يحلم به ويدعو إليه فى كتاباته.