من الذى يفسد الآخر.. هل الواقع هو الذى يفسد الدراما حينما يفرض عليها النزول إلى الشارع واستخدام مفرداته وعباراته حتى تبدو الدراما واقعية وصادقة ومقنعة، أم أن الدراما هى التى تفسد الواقع حينما تختار نماذج سيئة وحالات شاذة ومنبوذة اجتماعياً لتسلط عليها الأضواء، وتقدمها على الشاشة وكأنها ظاهرة عامة وموجودة بكثرة رغم أنها مجرد حالات فردية لا تمثل المجتمع ولا يمكن من خلالها الحكم عليه.
وهل الأفضل أن تُجمل الدراما الواقع، كما كان يفعل المخرج السينمائى الرائد محمد كريم، حينما كان يغسل «البقر والجاموس» بالماء والصابون ويكنس الشوارع ويركز فقط على المناظر الجميلة والبيوت البديعة والمشاهد المبهجة فى أفلامه، وخاصة تلك التى قام ببطولتها فنان الشعب يوسف وهبى وموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، وكان حريصاً فيها على أن تظل الصورة دائماً نظيفة وحلوة.
أم الأوقع هو تقديم العشوائيات والأحياء الفقيرة، ولكن ليس من خلال الرؤية السينمائية القديمة التى كانت تقدم تلك الطبقة الاجتماعية والاقتصادية من منظور «ابن البلد» الشهم الجدع، وسلوكيات أهل الحارة التى يغلب عليها روح التكاتف والتضامن فى مواجهة الأثرياء، والطامحين من الفقراء للانضمام إلى طبقتهم والتمرد على أهل الحارة وقواعدها وتقاليدها.
تلك الرؤية المتعاطفة مع الفقراء والمنتصرة لهم ولقيمهم، كما شاهدناها فى الفيلم الخالد «العزيمة» للمخرج كمال سليم، أو فى أفلام رائد الواقعية صلاح أبوسيف، ومنها «الأسطى حسن» الذى يتنكر فيه البطل «فريد شوقي» لأصله وحارته وناسه، فيقع فريسة لسيدة حى الزمالك «زوزو ماضي» وطبقتها الغنية الفاسدة، لتتغير سلوكياته ونمط حياته ويشاركهم اللهو وتعاطى الخمور ولعب القمار، حتى يتم اتهامه ظلماً بقتلها ولا ينقذه من حبل المشنقة سوى مساندة اهل حارته الطيبيبن واعتراف الزوج المشلول والمطعون فى شرفه وكرامته أمام القاضى بقتله لها.
وهذه الرؤية تختلف تماماً عن الرؤية التى تم تقديمها عن الفقراء وسكان الأحياء الشعبية، فى افلام من أطلقوا عليهم وصف مخرجى الواقعية الجديدة، مثل محمد خان فى «أحلام هند وكاميليا»، أو داود عبدالسيد فى «الكيت كات» أو خيرى بشارة فى «كابوريا»، مروراً بأفلام التسعينيات وأوائل الألفية الجديدة مثل «ابراهيم الأبيض» و«الفرح» و«كباريه» و«الشوق» ومعظم أفلام خالد يوسف، ووصولاً إلى أفلام مثل «الألماني» و«عبده موتة»، وهى رؤية تخلع عن أولاد البلد ثوب الشهامة والجدعنة، وتقدمهم كمجموعة من اللصوص والبلطجية والحشاشين.
والحقيقة أن الرؤيتين تحملان قدراً كبيراً من المبالغة، وتحرمان المشاهد من رؤية الصورة الحقيقية للحارة المصرية وأهلها، والتطور الذى طرأ عليهم نتيجة الأحداث المتعاقبة التى مروا بها، وحولتهم من طبقة اجتماعية محترمة لها قيمها وتقاليدها وطقوسها إلى عشوائيين يسكنون عشوائيات، نجحت الدولة مؤخراً فى معالجة مشكلتها عمرانياً ويبقى أن تعالجها ثقافياً وقيمياً.