فى أواخر عام 2019 ظهر فيروس كورونا المستجد لأول مرة فى مدينة ووهان الصينية، ومنها انتقل لكافة دول العالم التى لا تزال تكافح للتخلص منه، وعلى الرغم من ظهور سلالات جديدة متحورة من كورونا ، إلا أن الصين نجحت فى القضاء على الفيروس بشكل كبير، حتى إن مدينة ووهان - التى كانت البؤرة الأصلية للوباء - شهدت اختفاء الفيروس بشكل كامل حوالى 15 شهرًا، ولكن الأمر المثير للقلق الآن أن سيناريو ووهان يبدو وكأنه سيتكرر مرة أخرى، مع استعادة «بؤرة كورونا» المتحورة نفس المشاهد السابقة، بعد تفشى فيروس «دلتا» فى المدينة، ومنها بدأ الانتشار لمدن صينية أخرى.
فى تكرار غريب للسيناريو، عادت مشاهد الرفوف الفــارغــة بمحـــلات السوبـــر ماركــت، مع تسابق السكان لتخزين المواد التموينية الرئيسية تحسبا لأى إغلاق شامل قد تفرضه سلطات المدينة.
ووفقًا لتقارير عديدة، فإن تحليل التاريخ الوبائى لمصدر الإصابة الأولى فى المدينة أظهر أن رجلًا زار المنطقة السياحية فى مدينة «تشانج جيا جيه» فى مقاطعة هونان جنوبى الصين، واختلط بمصابين قادمين من مدينة نانجينج شرقى الصين، وحين عودته إلى ووهان تنقل فى عدة مناطق، الأمر الذى جعل السلطات غير قادرة على حصر المخالطين له.
لم تقف السلطات الصينية صامتة حيال تلك التطورات المثيرة للقلق، حيث قررت إجراء فحص الحمض النووى لجميع السكان البالغ عددهــم نحو 11 مليـــــون نسمــــة، وبالفعل تم أخذ العينات من أكثر من 3 ملايين شخص، حيث أقامت المدينة 2820 نقطة لأخذ عينات الحمض النووى، ويشارك فى ذلك 18 ألفا من الطاقم الطبى والموظفين.
ولم تكتف السلطات بالفحص فقط، حيث قررت حكومة مدينة ووهان اتخاذ تدابير عاجلة لمنع اتساع رقعة انتشار متحور دلتا، حيث صنفت عددًا من المناطق وفق مستوى المخاطر المتعارف عليه محليا، بناء على تسجيل حالات فيها، وأغلقت عشرات المجمعات السكنية، كما بدأت السلطات المحلية بتطبيق سياسة الدخول فقط، وفرض إجراءات مشددة على الخروج من الأحياء السكنية، مع السماح لفـــرد من كل أسرة بالخروج لشراء المواد والاحتياجات الغذائية فى وقت محدد، كما فرضت السلطات المختصة رقابة صارمة على المركبات، باستثناء السيارات التى تعمل فى مجالات الطوارئ، كما قررت وقف عمل خطوط الحافلات العامة التى تصل لمناطق موبوءة أو قامت بتعديل مسارها.
السلطات الصينية قامت أيضًا بتشديد إغلاق الحدود، حيث أصدرت تعليمات جديدة بخصوص إدارة الحدود لمنع وصول حالات إصابة جديدة بكوفيد-19، وقال ليو هاى تاو، المدير العام لإدارة فحص وإدارة الحدود بالإدارة الوطنية للهجرة، إن الموظفين فى الموانئ البحرية لن يوافقوا على إرساء رحلات دولية ما لم يكن ذلك ضروريًا، وأضاف فى مؤتمر صحفى، أن حركة الأشخاص عبر الحدود غير الطارئة وغير الضرورية ستكون محدودة، ولن تُصدر الإدارة جوازات سفر أو وثائق دخول وخروج لأسباب غير جوهرية، كما طلبت وزارة الثقافة و السياحة من وكالات السفر عبر الإنترنت عدم إرسال مجموعات إلى مناطق ذات مخاطر متوسطة وعالية لكوفيد-19 أو استقبال مجموعات منها.
لم تكتف السلطات بالإجراءات الاحترازية، وإعادة فرض القيود، حيث قامت بفصل ومعاقبة أكثر من50 مسئولًا، بسبب عودة كورونا، وذكرت وكالة «أسوشيتد برس» أن أكثر من 50 مسئولًا صينيًّا تم فصلهم من العمل، أو تلقوا عقوبات بسبب اتهامات بأنهم فشلوا فى التعامل بشكل صحيح لاحتواء أحدث موجة من فيروس كورونا فى البلاد، ومن بين الذين تم فصلهم من العمل: نائب رئيس بلدية، ورؤساء أحياء ولجان صحية بالمدينة، وموظفين فى إدارة المستشفيات والمطارات وأقسام السياحة.
وبعيدًا عن تفاصيل الأحداث، يبقى التساؤل حول مدى فعالية هذه الاستراتيجية فى مواجهة المتحور الجديد من كورونا، فى هذا الإطار. ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية أن الحكومة الصينية لجأت إلى عمليات إغلاق صارمة واختبارات حازمة، حتى إنها منعت الناس فى بعض المدن من مغادرة منازلهم، لكن المسئولين الصينيين أقروا بأن القضاء على هذا التفشى سيكون أصعب بكثير مما كان عليه فى الماضى، فحتى الآن، انتشر الفيروس فى 15 من 31 مقاطعة ومنطقة ذاتية الحكم فى الصين، ونقلت الصحيفة عن «يانتشونج هوانج»، الباحث البارز فى شئون الصحة العالمية بمجلس العلاقات الخارجية، وهو مؤسسة فكرية أمريكية، قوله إن استراتيجية الصين «القائمة على الاحتواء» لن تنجح على المدى الطويل، وخاصة مع استمرار ظهور متحورات جديدة، وقال: «سيصبح الحفاظ على مثل هذا النهج مكلفاً للغاية».
وزعمت الصحيفة أن جزءًا من التحدى الذى يواجه بكين يتمثل فى أن اللقاحات صينية الصنع المستخدمة لتحصين البلاد ليست فعالة ضد متحور دلتا مثل اللقحات الأخرى.
وفى نفس السياق، نقلت «بى بى سى» عن «نانسى جيكر» أستاذة أخلاقيات علم الأحياء فى كلية الطب بجامعة واشنطن، قولها إن عمليات الإغلاق الجماعى تؤثر على الفقراء أكثر من غيرهم، كما أنها تؤثر على الصحة العقلية للسكان على المدى الطويل، وقالت: «إذا لم تتغير الصين بالسرعة الكافية، فإن الآثار ستكون أكثر حدة على جميع مستويات المجتمع». ودعت إلى اتباع نهج أكثر دقة، وإعطاء الأولوية لمجموعات معينة، مثل السماح للمدارس بالبقاء مفتوحة بينما تظل صالات الألعاب الرياضية والمطاعم مغلقة.
وقالت جيكر إن العالم سينقسم فى نهاية المطاف إلى مجموعتين: الأولى تواصل اتباع استراتيجية «صفر كوفيد»، وتلك التى تحولت إلى تخفيف القيود، وأضافت: «لكن فى نهاية المطاف قد لا يكون لدينا خيار سوى التعايش مع وجود الفيروس فى مرحلة ما بعد الوباء، حيث تنخفض الوفيات، لكن الفيروس قد يعاود الظهور سنويًا مثل نزلة البرد، وإذا كان هذا صحيحا سيتعين على الصين أن تتعايش معه».