افتتح الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف الدورة التدريبية الثانية المشتركة لأئمة وواعظات مصر والسودان اليوم الأحد، ب أكاديمية الأوقاف الدولية لتدريب الأئمة والواعظات وإعداد المدربين، بحضور عدد من قيادات الوزارة وعدد من الصحفيين والإعلاميين، وبمراعاة الإجراءات الوقائية والتدابير الاحترازية اللازمة والتباعد الاجتماعى.
وفى بداية اللقاء رحب الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف بالأئمة والواعظات من دولة السودان الشقيقة فى بلدهم الثانى مصر وبزملائهم من أئمة وواعظات جمهورية مصر العربية، مؤكدًا أن هذه الدورة تأتى استكمالا لسلسلة من الدورات بين الوزارتين الشقيقتين، مشيدًا بالتعاون المثمر بين وزارتى الشئون الدينية والأوقاف بالبلدين فى مختلف المجالات، مشيرًا إلى أن هذه الدورات لها أهداف عديدة منها التعرف عن قرب على تجربة جديدة من خلال المعايشة بين أئمة وواعظات مصر والسودان، وقديما قالوا ربما تعلم اﻹنسان من زملائه ما لم يتعلمه من أساتذته، وربما يتعلم من طلابه مالم يتعلم من أساتذته، شريطة ألا يكون هناك كبر أو حياء من التعلم فالعلم يضيع بين شيئين الكبر والحياء، أما الكبر فعندما يظن الإنسان أنه عالم وليس بحاجة للتعلم وقد تجاوز كل مراحله وعليه أن يتوقف وأنه ليس هناك من هو أعلم منه ليتعلم منه، وقد قالوا: الناس ثلاثة معلم ومتعلم وهما فى الأجر سواء والثالث الذى لا يعلم ولا يتعلم فلا خير فيه، وأما الجانب اﻵخر وهو الحياء بأن يستحى أن يسأل وقد قالت السيدة عائشة (رضى الله عنها): نِعمَ النِّساءُ نساءُ الأنصارِ لم يمنعهنَّ الحياءُ أن يتفقَّهنَ فى الدِّينِ، وقد قال العلماء العلم من المحبرة إلى المقبرة، والعلم من المهد إلى اللحد فيجب أن نطلب العلم على أيدى العلماء، فضلاً عن بركة مجالس العلم وما فيها من السكينة والبركة وقد قالوا: إن الناس يكتبون أفضل ما يعلمون، ويحفظون أفضل ما يكتبون، ويقولون أفضل ما يحفظون، ولذلك أخذنا مبادرة التدريب العلمى المنهجى التراكمى المستمر على كل المستويات للأئمة والواعظات، كما قمنا بعمل برامج علمية متخصصة للقيادات أيضًا.
كما أشار إلى أن الوزارة حرصت على أن يكون هناك نخبة من العلماء كل فى مجاله ليحاضروا فى هذه الدورة المشتركة من أساتذة الدعوة، والفقه، والطب، والإعلام، والاجتماع، وغير ذلك من العلوم الحياتية ليستطيع العالم أن يأخذ بأيدى الناس، فعالم الدين يحيا حياة طبيعية بين الناس كواحد منهم.
وأكد أنه على اﻹمام أن يكون على درجة عالية من الثقافة والعلم حتى يكون ممن قال الله تعالى فيهم: " يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ"، وممن قال الله تعالى فيهم: " قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ"، وحتى يصبح من أهل الذكر الذين قال الله تعالى فيهم: "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"، فيجب أن يجتهد العالم فى طلب العلم فالعلم لا يأتى بالرفاهية يقول الشاعر:
أأبيتُ سهران الدجى وتبيتُه
نومًا وتبغى بعد ذاك لحاقى؟!
وقال الشافعى رحمه الله:
أَخى لَن تَنالَ العِلمَ إِلّا بِسِتَّةٍ
سَأُنبيكَ عَن تَفصيلِها بِبَيانِ
ذَكاءٌ وَحِرصٌ وَاِجتِهادٌ وَبُلغَةٌ
وَصُحبَةُ أُستاذٍ وَطولُ زَمانِ
فعليك بمجالسة أهل العلم وأهل التقوى فقد أوصى الله تعالى نبيه فقال: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا"، مشيرًا إلى ضرورة إخلاص النية لله (عز وجل) فى الدعوة إلى سبيله.
وفى الختام استعرض وزير الأوقاف عددًا من إصدارات وزارة الأوقاف التى يتم تدريسها خلال الدورة التدريبية الثانية المشتركة لأئمة وواعظات مصر والسودان ومنها كتاب: (الكليات الست)، هى الدين، والوطن، والنفس، والمال، والعقل، والعرض، فالوطن لا يقل أهمية عن الكليات الخمس، لما للوطن من أهمية بالغة لتحقيق مقاصد الشريعة، فالدين لابد له من وطن آمن مستقر يحمله ويحميه.
ومنها كتاب (العقل والنص)، مبينًا أن الدين يسرٌ وفيه سعة، وهذا واضح بين العلماء، مبيناً أن الأصل فى الأشياء الإباحة ما لم يرد نص بالتحريم، حيث يقول الله تعالى: "قُل لَّا أَجِدُ فِى مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ".
ثم تكلم وزير الأوقاف عن كتاب (الجاهلية والصحوة)؛ مؤكدًا أن معركتنا مع الإرهاب والتطرف الفكرى لم تنته بعد، حيث صار استخدام الجماعات المتطرفة أحد أهم أدوات حروب الجيل الرابع، ولا سيما المسلحة منها التى تتخذ من استحلال الدماء والأموال منهجًا أيديولوجيًّا وواقعيًّا تتقوت منه أو عليـه.
وفى سبيل تحقيق أهدافها وأهداف من يدعمها ويمولها عمدت الجماعات المتطرفة إلى المغالطة ولى أعناق النصوص تارةً، واجتزائها من سياقها تارةً، وتحريف الكلم عن مواضعه تارةً أخرى.
وقد لعبت جماعات التطرف الدينى على عواطف الشباب من خلال مصطلحات زائفة، ظاهرها فيه شحذ الهمم وباطنها من قبله الفساد والإفساد والضلال والبهتان، ومن الألفاظ التى حمَّلها المتطرفون ما لا تحتمل "الجاهلية" و"الصحوة".
أما لفظ الجاهلية فقد حاولت الجماعات المتطرفة إطلاقه على بعض مجتمعاتنا المؤمنة المعاصرة ظلمًا وزورًا، وهو أمر مردود عليه شكلًا ومضمونًا، أما من حيث الشكل أو من حيث اللغة، فالجاهلية التى أُطْلقت على الفترة التى سبقت ظهور الإسلام ليست من الجهل ضد العلم، ولم يقل أحد إنها من الجهل نقيض الإيمـان أو الإسلام، إنما هى من الجهـل نقيض الحلم.
وأما من حيث المضمون، فمن يقول - مثلًا - عن مصر الأزهر، مصر المساجد والمآذن، مصر القرآن، مصر العلم والعلماء، مصر التى يدرس بأزهرها الشريف نحو مليونى طالب وطالبة، ويستضيف عشرات الآلاف من الطلاب الوافدين من مختلف دول العالم لدراسة صحيح الدين، بلد يطوف علماؤه وأئمته مختلف دول العالم لنشـر صحيح الدين، بلد يحتضـن القرآن الكريم وأهـله ويكرم حفظته، إنه مجتمع جاهلى، فلا يمكن أن يقول ذلك إلا حاقد، أو حاسد، أو جاحد، أو مأجور أو مُسْتغل من أعداء الدين والوطن.
وكذلك الحال مع سائر دولنا العربية والإسلامية التى حاول المتطرفون أن يتخذوا من وصفها بالجاهلية وسيلة لإفشالها أو إسقاطها أو هدمها أو تمزيقها.
وأما لفظ (الصحوة) فقد برز كمصطلح تنظيرى لجماعة الإخوان الإرهابية ومن سار فى ركابها من الجماعات المتطرفة.
والصحوة فى منظورهم هى صحوتهم هم، لكن ضد من؟ ضد أوطانهم!! قصد إضعافها وتمزيقها وتفكيك بِناها الوطنية، لأن هذه الجماعات لا يمكن أن يكون لها وجود ولا أن تحقق أغراضها وأغراض من يمولها ويستخدمها فى ظل دولة قوية صلبة متماسكة، فهى لا تقوم إلا على أنقاض الدول، ومصلحة الجماعة عندهم فوق مصلحة الدولة، ومصلحة التنظيم فوق مصلحة الأمة، وفوق الدنيا وما فيها، سلاحهم الكذب، وبث الشائعات، والزور والبهتان، وغايتهم الهدم والتخريب، فهم لا يحسنون سوى الهدم، أما البناء والعمران فهيهات هيهات، فضلا عن أنهم لا يؤمنون بوطن ولا بدولة وطنية.
ناهيك عن دعواتهم المتكررة إلى العنف، واستحلال الدماء، واستباحة الأموال والأعراض، ودعوتهم إلى هدم الأوطان، يخادعون العامة بمعسول القول ورقيق الكلام، مردوا على نفاق المجتمع، واعتبروا ذلك تقية واجبة ولازمًا من لوازم المرحلة، مما يستوجب منا مزيدًا من الفطنة والحذر، حيث يقول الحق سبحانه: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ الله عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}، ويقول نبينا (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): "لاَ يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ".
الصحوة الحقيقية هى صحوة الأوطان والأمم، عندما نعمرها بالبناء والتعمير، ونرى أمتنا فى مصاف الدول المتقدمة فى مختلف المجالات والعلوم والفنون.
فمقياس الصحوة الحقيقى هو فى مدى تقدم الدول علميًّا واقتصادًّيا، وامتلاكها أدوات العصر، وإسهامها فى إنجازاته. فلن يحترم الناس ديننا ما لم نتفوق فى أمور دنيانا، فإن تفوقنا فى أمور دنيانا احترم الناس ديننا ودنيانا.
الصحوة الحقيقية أيضًا هى صحوة الضمير، والقيم والأخلاق، عندما نُعمر الدنيا بالتسامح، والتراحم، والتكافل، والصدق، والأمانة، والوفاء، ومكارم الأخلاق، وترجمة أخلاق الإسلام وقيمه وتعاليمه السمحة إلى واقع ملموس فى دنيا الناس، فى سلوكنا وسائر شئون حياتنا، فالأمم التى لا تبنى على القيم والأخلاق تحمل عوامل سقوطها فى أصل بنائها وأساس قيامها.
الصحوة الحقيقيـة هى قوة انتمـاء الإنسان لوطنه، وحرصه على أمنه واستقراره، فالوطن عِرض وشرف، وهو أحد الكليات الست التى حرص الشرع الحنيف على إحاطتها بسياجات متعددة من الحفظ والرعاية.
كما أن العمل على تقوية شوكة الدولة الوطنية مطلب شرعى ووطنى، فكل ما يؤدى إلى ذلك هو من صحيح معتقدنا، وكل ما يؤدى إلى الهدم والتخريب وتقويض بنيان الدول أو تعطيل مسيرتها، أو تدمير بِناها التحتية، أو ترويع الآمنين بها، لا علاقة له بالأديان، ولا بالقيم، ولا بالوطنية، ولا بالإنسانية.
كما أكد أن الدين الحقيقى النقى لا يحيا فى الهواء الطلق، إذ لا بد له من دولة قوية تحمله وتحميه، ذلك أن المشـردين لا يقيمون دينًا ولا دولة، فالدين والدولة لا يتناقضان أبدًا، الدين والدولة يتعاضدان فى سبيل سعادة البشرية، فحيث تكون مصالح البلاد والعباد والأوطان المعتبرة فثمة شرع الله.
الدين والدولة يرسخان معا أسس المواطنة المتكافئة فى الحقوق والواجبات، وأن نعمل معًا لخير بلادنا وخير الناس أجمعين، أن نحب الخير لغيرنا كما نحبه لأنفسنا، الأديان رحمة، الأديان سماحة، الأديان إنسانية، الأديان عطاء.
الدين والدولة يتطلبان منا جميعًا التكافل المجتمعى، وأن لا يكون بيننا جائع ولا محروم ولا عارٍ ولا مشـرد ولا محتــاج ولا مكروب إلا سعينا فى قضاء حاجته وتفريج كربه.
الدين والدولة يدفعان إلى العمل والإنتاج، والتميز والإتقان، ويطاردان البطالة والكسل، والإرهاب والإهمال، والفساد والإفساد، والتدمير والتخريب، وإثارة القلاقل والفتن، والعَمالة والخيانة.
وإن من يتوهمون صراعًا - لا يجب أن يكون - بين الدين والدولة ويرونه صراعًا محتمًا إما أنهم لا يفهمون الأديان فهمًا صحيحًا، أو لا يعون مفهوم الدولة وعيًا تامًا، أو لا يعون طبيعة العلاقة بينهما، فالخلل لا علاقة له بالدين الصحيح ولا بالدولة الرشيدة، إنما ينشأ الخلل من سوء الفهم لطبيعة الدين أو لطبيعة الدولة أو لطبيعة العلاقة بينهما.
غير أننا نؤكد على ضرورة احترام دستور الدولة وقوانينها، وإعلاء دولة القانون، وألا تنشأ فى الدول سلطات موازية لسلطة الدولة أيا كان مصدر هذه السلطات، فهو لواء واحد تنضوى تحته وفى ظله كل الألوية الأخرى، وهو لواء الدولة الوطنية، أما أن تحمل كل مؤسسة أو جماعة أو جهة لواء موازيًا للواء الدولة فهذا خطر داهم لا يستقيم معه أمر الدين ولا أمر الدولة.
وأكد أن كل التنظيمات المتطرفة ولا سيما المتدثرة منها بغطاء الدين هى خطر داهم على الدين والدولة، وأن الصحوة الحقيقية تتطلب منا التفرقة بوضوح بين الثابت والمتغير، والنظر بعين الاعتبار فى مستجدات العصر ومتطلباته، ومراعاة ما يقتضيه فقه الواقع، وفقه الأولويات، وفقه المتاح، فى ضوء الحفاظ على ثوابت الشرع الحنيف.
وفى ختام اللقاء تناول معاليه كتاب من (أسرار البيان القرآنى) مؤكدًا أن القرآن الكريم كتاب الله المعجز الخالد الذى تحدى الله (عز وجل) به الثقلين، وهو فى أعلى مراتب البلاغة والفصاحة والبيان، فلا تجد لفظة تؤدى المعنى المراد أفضل من الواردة فى النص القرآنى، فكل كلمة فى القرآن الكريم قد وقعت موقعها، وما قُدم أو أُخر، أو ذُكر أو حُذف كان لغاية فى البلاغة والفصاحة والبيان، ومن هذا قول الله تعالى فى سورة مريم (عليها السلام) عن سيدنا زكريا ( عليه السلام): "قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّى آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً"، وفى سورة آل عمران: "قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِى آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا"، ففى هذا النص القرآنى الكريم عبر فى سورة مريم بـ(ثَلَاثَ لَيَالٍ)، وفى سورة آل عمران بـ(ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ)، ذلك أن فى أيام العرب وحسابهم الليل يسبق النهار، فالليالى سابقة على الأيام، وهنا فى سورة مريم (عليها السلام) نزلت فى مكة، وسورة آل عمران نزلت لاحقًا فى المدينة، فعبر فى سورة مريم بالليالى السابقة فى الزمن مع السورة السابقة فى النزول، وعبر فى سورة آل عمران اللاحقة فى النزول بالأيام وهى لاحقة فى الزمن، فجعل سبحانه السابق للسابق، واللاحق للاحق، فكل لفظة وقعت موقعها طبقًا لسياقها، وهذا من عظمة بلاغة القرآن الكريم.