تجديد الخطاب الدينى الذى نبحث عنه

مرت سنوات ونحن نتحدث عن تجديد الخطاب الديني، وطالب الرئيس عبد الفتاح السيسى أكثر من مرة المؤسسات الدينية بذلك فى أكثر من مناسبة، وبات أمر تجديد الخطاب الدينى أمرًا ملحًا فى السنوات الأخيرة لمواجهة الفكر المتطرف والمتشدد، إلا أن الأمر لم يتحقق ولم يكتمل.

وتحول الأمر إلى جدل حول هل نحتاج إلى تجديد الخطاب الديني؟ أم إصلاح الخطاب الدينى أم إصلاح المؤسسات الدينية، أم تطوير الخطاب الدينى لندخل دائرة جدلية لا تقدم للمجتمع ما يحتاجه لمواجهة الفكر المتطرف وجماعات الظلام والإرهاب.


ورغم أن بعض المؤسسات الدينية خلال الفترة الماضية تحدثت عن كونها استطاعت تحقيق إنجازات كبيرة فى هذا الملف، إلا أن النتائج على أرض الواقع لم تثبت ذلك.
ومازال الخطاب الدينى يحتاج إلى تجديد حقيقى يتوافق مع الواقع ومع متطلبات العصر وتطوراتها فى المجالات المختلفة.


لكننى سعدت كثيرًا بما تقوم به دار الإفتاء المصرية بشأن تلك المواجهة.
ففى يوم الإثنين الماضى عقدت الهيئة الوطنية للصحافة برئاسة المهندس عبد الصادق الشوربجى ندوة مهمة بعنوان "الدليل المرجعى الصادر عن هيئات الإفتاء فى العالم لمواجهة التطرف واستراتيجية المواجهة" حضرها الدكتور شوقى علام مفتى الديار المصرية وأدارتها الدكتورة فاطمة سيد أحمد عضو الهيئة الوطنية ورئيس لجنة تطوير وتقييم الأداء الصحفي، وحضرها الزملاء من رؤساء مجالس الإدارات ورؤساء تحرير الصحف المصرية.

عند وصولنا قاعة الندوة كان أمام كل منا مجلد ضخم حمل عنوان "الدليل المرجعى لمواجهة التطرف ـ مدخل عام فى فهم التطرف واستراتيجيات مواجهته".


بدأت الندوة وتحدث المهندس عبد الصادق الشوربجى مؤكدًا أهمية دور الإعلام فى مواجهة التطرف والإرهاب من خلال خلق حالة من الوعى لدى المواطن، ومشيدًا بدور دار الإفتاء المصرية فى هذا الشأن؛ ثم تحدثت الدكتورة فاطمة سيد أحمد عن أهمية الدليل المرجعى لكونه دراسة شاملة وافية ومرجعًا مهمًّا فى قضية التطرف، وجهدًا فريدًا من نوعه يستحق المزيد من الاهتمام والعناية، مطالبة بضرورة إقامة حلقات بحث كثيرة حول المرجع، ونقاشات متعددة، فهو مرجع متميِّز رصد كل حركات التطرف.


كما أشارت إلى أن الدليل المرجعى يعد أول دليل من نوعه يكشف عن الدور النفسى فى اختيار العناصر الإرهابية، بل وفرَّق بين التشدد والتطرف والإرهاب.
ثم تحدث فضيلة مفتى الديار الدكتور شوقى علام حول أهمية أن يقرأ المفتى أو مُصدِر الفتوى الواقع قراءة صحيحة قبل أن يصدر الفتوى وإلا كانت الفتوى مبتورة ومشوهة .
كما أن الفتوى يجب أن تؤدى إلى الاستقرار والنقل الكامل هو بمثابة لا وعي، مؤكدًا عبقرية التشريع ومشددًا على أهمية الحفاظ على الدولة الوطنية.
مستشهدًا بحديث عبد الله ابن عباس عندما ذهب إلى الخوارج فى عهد الإمام على بن أبى طالب كرم الله وجهه، عندما قال لهم: "جئتكم من عند أمير المؤمنين".
كانت الندوة ثرية ومهمة خاصة وأنها جاءت فى إطار معركة الوعى وضرورة مواجهة الفكر المتطرف بالفكر.


عقب انتهاء الندوة حملت معى "الدليل المرجعى لمواجهة التطرف" والذى أعدته الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم، وقدمه الدكتور شوقى علام مفتى الديار المصرية ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم.


لم أستطع تصفح خلال الندوة سوى الفهرس فقط، ولكن الفهرس جعلنى حريصًا على أن أقف احترامًا لمن قام بهذا الجهد الجهيد ليجمع هذا العلم، بدءًا من اختيار الغلاف الذى حمل جملة "You are a Prisone of Your Own Mind" وانتهاءً بالعرض الشيق لما يحتويه من علم فقد جاء المرجع فى 1066 صفحة.


يبين الدليل كيفية التصدى للأفكار الدينية المغلوطة والتفسيرات والتأويلات التى أصابها الشطط فدفعت بالبعض إلى التطرف وقذفت بالبعض الآخر إلى أتون الإرهاب.


جاءت كلمات فضيلة المفتى فى مقدمة الدليل كاشفة ما هو أخطر «فالمتطرف لم يعد كما كان سابقًا يطمح إلى حرق ناد أو تحطيم ملهى أو هدم ضريح، بل لم يعد يقف عند حد اغتيال مواطن له رأي، كل هذه الأمور وإن كانت تحدث، فإنما طموحات الإرهابيين قد توسعت إلى حد تلقى التمويلات وإقامة الجيوش واستقطاب الشباب وتدريبهم وإعاشتهم ودمجهم فى كيانات وميليشيات منظمة لهدم الدول».
ليؤكد أن أهم أساليب مواجهة هذا التطرف هو المواجهة الفكرية، وهو ما جعل الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء تعتمد على الأساليب العلمية فى الرصد للفتاوى التكفيرية والمتشددة وأثرها فى العالم من خلال متابعة ما يدور فى الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعى والمواقع والمنصات الإلكترونية للرد على شبهات هذه الجماعات بأساليب مختلفة.
بل وشنت مواجهة فى مجال الفضاء الإلكترونى باللغة العربية واللغات الأجنبية لتشخيص ومواجهة التطرف والإرهاب من خلال صفحة «داعش تحت المجهر» والتى استخدمت وسائل التواصل الاجتماعى والتكنولوجيا الرقمية لتفنيد أكاذيب دعاة الإرهاب والفكر المتطرف.


يأتى الدليل المرجعى كأول دليل شامل لفهم التطرف وتشخيصه ومعرفة تاريخ الفكر المتطرف والوقوف على تاريخ واستراتيجيات مواجهته المختلفة.
قُسِّم الدليل إلى قسمين القسم الأول: التطرف.. توصيف وتشخيص؛ ويحمل بين طياته خمسة أبواب مهمة وهي: (مدخل إلى فهم التطرف - التطرف .. دوافعه ونتائجه - تاريخ التطرف- خريطة التنظيمات المتطرفة فى العالم - إضرار جماعة الإخوان بالمصالح الوطنية).


أما القسم الثانى الذى حمل عنوان مواجهة التطرف، فقد حوى خمسة أبواب أخرى شملت (موقف التشريعات من التطرف - محاولات المواجهة الفكرية للتطرف - الرد على شبهات المتطرفين وأفكارهم – آليات مواجهة التطرف - مواجهة التطرف بين الرؤى الوطنية والتعاون الدولي).


حرص الدليل المرجعى على تفنيد أكثر من 5500 شبهة تربط المسلم بالديانات الأخرى، ففرق الدليل بين التشدد المذموم والمحمود بأحاديث وآيات قرآنية، واعتمد أسلوب العرض الحديث للموضوعات (الإنفوجراف) واستخدام الرسوم البيانية.


فنَّد الدليل فتاوى جماعات التشدد والإرهاب والتطرف وردَّ عليها ردًا مستنيرًا مستخدمًا أسلوب عرض جذاب بل إنه لم يستهدف المرحلة الحالية فقط ولا التشدد والتطرف والإرهاب لدى معتنقى الديانات السماوية الثلاث بل تعرض أيضًا للظاهرة بالكامل على مر التاريخ واستعرض تاريخ جماعات التطرف والإرهاب، بل واستعرض رأى علماء النفس والاجتماع فى تلك الظاهرة، والذين أكدوا أن الإرهابيين يعانون من مشكلات نفسية واجتماعية عميقة.


فهم جامحون، وعدوانيون، وسيكوباتيون، ومختلون بل ورأى البعض من علماء النفس أن المتشددين والمتطرفين والإرهابيين نرجسيون.
يكشف الدليل المرجعى وجهًا جديدًا فى شخصية العناصر الإرهابية والمتشددة.


وإذا كان التشدد والتطرف عملًا فكريًا والإرهاب سلوكًا عمليًا فالأول والثانى لابد من مواجهتهما فكريا، أما الثالث فلابد من مواجهته عمليا، وهو ما تقوم به أجهزة الدولة الأمنية.
استعرض الدليل مراحل التطرف الأربعة مبينًا سمات المتطرف فكريًا، والتى اعتمدت على 7 نقاط شملت تشوية الحقائق، التشبث بالأفكار القديمة، الانغلاق على النفس، تبنى المنهج الصدامي، غياب النقد الذاتي، غياب مبدأ الحوار، وتقديم الولاء لصاحب الفكرة.


جاء تفنيد الدليل والرد على الفريضة الغائبة التى تتحدث بها جماعات الإرهاب من خلال ما نشره الشيخ عطية صقر رئيس لجنة الفتوى بالأزهر عام 1414 هجرية فى مجلة الأزهر تحت عنوان نقض الفريضة الغائبة.


كما وضح الدليل أوجه الشبه فى الفتاوى بين جماعة الإخوان وداعش والقاعدة، ليقدم الدليل صورة معبرة بشكل حقيقى عن العناصر الإرهابية، فهى أشبه بعرائس الماريونيت.
كما أكد الدليل أنه ليس كل متطرف إرهابيًا، وليس كل متشدد إرهابيًا؛ ولكن كل إرهابى متشدد ومتطرف.


لقد وجدتنى أمام مرجع أعتقد أنه هو المدخل الحقيقى لتجديد الخطاب الدينى الذى نبحث عنه، فى استعراضه القضايا الفكرية الجدلية وتفنيدها، وملاحقته كل الفتاوى والرد عليها وتقديم نموذج فكرى مستنير، وملاحقة كل ما هو مغلوط ويقدَّم باسم الدين سواء فى وسائل الإعلام المرئى أو المسموع أو المقروء أو عبر شبكات التواصل.


بل إن القائمين على إعداد ذلك الدليل المرجعى كشفوا الوجه الحقيقى للنوافذ الإعلامية الداعمة للجماعات الإرهابية والتطرف.
إنه بمثابة مرجع للباحثين فى الإسلام السياسى وخطوة مهمة نحو تجديد الخطاب الدينى يجب أن يكون رفيق كل من يعتلى المنبر فى وزارة الأوقاف المصرية ليرى كيف يدير هذه المعركة الفكرية ويصحح المفاهيم.


إنه جهد ضخم يحتاج إلى استعراض فى أكثر من مقال، لتقديم أكبر عملية تنوير حقيقى وتجديد فعلى للخطاب الديني.
وهنا لابد أن أتقدم بالشكر للمهندس عبد الصادق الشوربجى رئيس الهيئة الوطنية للصحافة على إقامة هذه الندوة، والدكتورة فاطمة سيد أحمد عضو الهيئة على إدارتها للندوة ولفضيلة مفتى الديار المصرية الدكتور شوقى علام على كشف هذا الكنز الفكرى الذى استخدم منهجًا غير تقليدى لتقديم خطاب فكرى واعٍ لمواجهة الأفكار الهدامة.


ورغم سعادتى بهذا العمل المهم إلا أنى وجدت نفسى حزينًا وبشدة عندما قمت بشراء كتاب للدكتور أحمد عرفات القاضى حمل عنوان «تجديد الخطاب الديني» وقامت بطباعته وتوزيعه، الهيئة العامة للكتاب؛ لأجده يقدم تجديدًا للخطاب الدينى من وجهة نظر جماعات الإرهاب وقادتها مثل سيد قطب وحسن البنا وأبو الأعلى المودودي.
وهو ما دعانى للتساؤل: هل ما زالت مؤسسات الدولة القائمة على رعاية الحركة الثقافية وبناء الوعى لم تدرك حجم المخاطر التى تواجهها الدولة المصرية، أم أن الخلايا النائمة فى بعض المؤسسات ما زالت أياديها قوية.
إن وجود كتاب مثل هذا حتى الآن على الأرفف وفى مكتبات الهيئة العامة للكتاب يستدعى المساءلة القانونية لمن قام بذلك الجرم، كما يجب مراجعة لجنة النشر المسؤولة عن نشر هذا الكتاب.

إن ما قدمته الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم لهو بحق تجديد الخطاب الدينى الذى نبحث عنه ولابد أن يصبح الدليل المرجعى متصدرًا مكتبات الجامعات والمدارس والنوادى الرياضية وكافة مواقع المعرفة.

أضف تعليق