لواء دكتور سمير فرج المشير طنطاوى كما عرفته

لواء دكتور سمير فرج المشير طنطاوى كما عرفتهلواء دكتور سمير فرج

مصر28-9-2021 | 22:17

فقدت مصر، رجلاً عظيمًا من أخلص أبنائها، المشير محمد حسين طنطاوي، لأنه فى حياة الشعوب، رجال تضعهم الأقدار، لقيادة بلادهم فى ظروف حالكة، حتى يعبروا بها إلى بر الأمان، ولعل من أبرزهم فى تاريخ مصر الحديث، المشير محمد حسين طنطاوي، أحد أخلص رجالاتها وأبنائها، وأحد ألمع رموز العسكرية المصرية، الذى فقدتهم مصر، بعد تاريخ حافل ومشرّف من العطاء والتفاني، قدم خلاله لمصر، وشعبها العظيم، أعمالاً جليلة، لم يكشف التاريخ، بعد، عن تفاصيلها، وساهم فى استقرار هذا البلد، وعبر به إلى بر الأمان، فى أصعب لحظات مرت على وطننا الغالي، خلال أحداث 25 يناير عام 2011، وما تلاها.

ولد المشير حسين طنطاوي، فى 31 أكتوبر 1935، فى حي عابدين، فى القاهرة، وهناك حفظ القرآن الكريم فى الكُتاب، ولعب الكرة فى شوارعها، التي انضم منها لناشئ نادي الزمالك، حتى التحق بالكلية الحربية، وتخرج فيها بسلاح المشاة فى عام 1956، خاض المشير طنطاوي، رحمة الله عليه، خمس حروب فى تاريخ العسكرية المصرية؛ أولها حرب العدوان الثلاثي على مصر عام 56، فور تخرجه فى الكلية الحربية، وبعدها اشترك فى حرب 67، ثم حرب الاستنزاف، ومنها إلى حرب أكتوبر 73 المجيدة، ثم حرب الخليج، عام 1991، بصفته رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة المصرية، التي خططت لدور القوات المصرية فى هذه الحرب.


كان أول لقاء لي مع المشير طنطاوي، وأنا طالب فى الكلية الحربية، وسيادته مدرس بها، برتبة نقيب، كنت قد سمعت كثيرًا، وزملائي الطلبة، عن ذلك الشاب الأسمر، الذي تميزه بدلته عن باقي أعضاء هيئة التدريس، قبل أن نراه وهو يدرّس لنا مادة التكتيك، فأسرنا جميعًا، وصار لنا قدوة ومثلاً أعلى، وحظينا بفرصة التلمذة على يديه، ككثيرين سبقونا، وأكثر لحقونا، والاستفادة من علمه وحكمته وذكائه الحاد، وتخرج على يديه أجيال كثيرة غرز فيها حب الوطن لمصرنا الغالية، وبعدها انتقل الرائد، حينئذ، محمد حسين طنطاوي من الكلية الحربية، يرافقه مجموعة من الضباط المصريين، إلى الجزائر لإنشاء الكلية الحربية الجزائرية فى شرشال.


يحكي المشير طنطاوي عن ذكرياته، فى هذه الفترة، بأن الجزائر قررت إعادة فتح الكلية الحربية الجزائرية، بعد الاستقلال، تحت اسم المدرسة العسكرية لمختلف الأسلحة، بمهمة تكوين ضباط وضباط الصف المنحدرين من جيش التحرير الوطني، الذي ناضل ضد الفرنسيين فى معركة تحرير الجزائر، وكذلك لتدريب الشبان من أشبال ثورة الجزائر، ليصيروا ضباطًا، ويكونوا النواة الأولى للجيش الوطني الشعبي الجديد، وهكذا، فقد تكونت الكلية، أو المدرسة، من قسمين؛ أولهما يشمل قدامى المقاتلين من جيش التحرير، بينما يشمل القسم الثاني شباب الثورة الجزائرية، لينشئوا مجتمعين، الجيش الجزائري الجديد، وهو ما يعتبر، وفقاً للعلوم العسكرية، مهمة شاقة لكن المجموعة المصرية نجحت بقيادة المشير طنطاوي فى وضع مناهج دراسية متكاملة لتخريج كل هذه العناصر.. والحقيقة أنها كانت فترة ثرية، وبالفعل، تخرج على يديه العديد من ضباط الجيش الجزائري، ولا يزال الجيش الجزائري حتى يومنا هذا يذكر، بكل فخر أفضال المشير حسين طنطاوي فى إعداد هذا الصرح العسكري العظيم.


وبعد عودة المقدم محمد حسين طنطاوي لأرض الوطن، وفى عهد الرئيس السادات، لاحت فى الأفق بوادر مشكلة مع القيادة الجزائرية، فهمس أحدهم، فى أذن الرئيس السادات، بأن المقدم حسين طنطاوي على علاقة طيبة بالقادة العسكريين من جيش التحرير، المتخرجين فى كلية شرشال على يد المقدم حسين طنطاوي.. وبالفعل سافر المقدم طنطاوي فى مهمة خاصة، للجزائر لمدة 48 ساعة، تم خلالها حل المشكلة بين الدولتين، اعتمادًا على علاقاته الوطيدة مع ضباط الجيش الجزائري، الذين وصلوا حينها لمراكز قيادية فى السلطة.


مرت الأيام، والتحق بكلية القادة والأركان حرب المصرية، لمدة عام، وتخرج فيها ليتولى قيادة الكتيبة 16 مشاة من اللواء 16، والتي قادها خلال فترة حرب الاستنزاف، وتمركز بها على ضفاف قناة السويس، فى مواجهة خط بارليف الإسرائيلي، حتى جاء يوم السادس من أكتوبر 73، ليعبر مع كتيبته قناة السويس، فى منطقة الدفرسوار، ويقتحم خط بارليف، ضمن قوات اللواء 16 من الفرقة 16 مشاة، التي كانت تهاجم على الجانب الأيمن للجيش الثاني الميداني، واندفعت الكتيبة 16 مشاة، بقيادة المقدم أركان حرب حسين طنطاوي لتقتحم قناة السويس، وتدمر خط بارليف، وتنجح فى عزل النقط القوية للعدو الإسرائيلي بالدفرسوار، وحصارها.


وتقدمت الكتيبة لتطوير الهجوم شرقًا، واحتلت رأس الكوبري، فى منطقة «المزرعة الصينية»، التي يرجع تاريخها إلى عام 67، عندما تم استصلاح تلك المنطقة لزراعتها بشق الترع، وإنشاء عدد من المنازل بها، وسميت هذه المنطقة باسم «المزرعة الصينية».


عند وصول الكتيبة 16، إلى رأس الكوبري، قام العدو الإسرائيلي بهجمات مضادة، نجحت الكتيبة فى صدها جميعًا، إلا أن بعض الدبابات الإسرائيلية تمكنت من التوغل إلى قيادة الكتيبة، ويحكي اللواء سعيد ناصف، رئيس عمليات الكتيبة 16 الذي كان برتبة رائد حينها، أن بعض الدبابات وصلت إلى مركز قيادة الكتيبة، فتم الانتقال إلى الموقع التبادلي، ونجحت الكتيبة 16 فى تدمير دبابات العدو المخترقة، وأشعلت فيها النيران، بعدها بدأت أهم معارك شرق القناة فى حرب 73 وهي معركة «المزرعة الصينية»، عندما استنفد العدو الإسرائيلي جميع محاولاته للقيام بالهجمات والضربات ضد رءوس الكباري، فبدأ فى تنفيذ «خطة الغزالة»، التي أعدها الجنرال شارون، القائمة على تكثيف نيران المدفعية والطائرات ضد قطاع محدد من الدفاعات المصرية، لإحداث اختراق تنفذ منه القوات الإسرائيلية إلى القناة، بما يمكنها من إنشاء كوبري تنفذ منه إلى غرب قناة السويس، ووقع اختيار القيادة الإسرائيلية على موقع «المزرعة الصينية»، فى قطاع اللواء 16 مشاة، للاختراق من خلاله.


وبدأ شارون تكثيف كل وسائل النيران الجوية والصاروخية والمدفعية فى ذلك القطاع، باتجاه الكتيبة 18 مشاة، والكتيبة 16 مشاة، بقيادة المقدم حسين طنطاوي فى ليلة 16 أكتوبر، حيث قام العدو الإسرائيلي بالدفع بقوة لواء مظلي ولواء مدرع، من مجموعة الجنرال ماجن، لمهاجمة دفاعات الكتيبة 16 مشاة، ويضيف اللواء سعيد ناصف، أن المقدم حسين طنطاوي أمر بحبس نيران الكتيبة، حتى اقتراب قوات الهجوم الإسرائيلية، من لواء المظلات ولواء الدبابات، وبإشارة ضوئية منه تم فتح نيران الكتيبة، وتم تدمير القوات الإسرائيلية بالكامل، ونجحت معركة المزرعة الصينية فى صد هجوم القوات الإسرائيلية، والتي كانت أهم معارك حرب أكتوبر 73، وفشلت خطة الغزالة التي خطط لها شارون، مما اضطره لتعديلها، بمحاولة العبور من منطقة البحيرات.


وأذكر فى أحد الأيام، بعدما صرت مديرًا للشئون المعنوية، بالقوات المسلحة المصرية، وبينما أنا مع المشير طنطاوي، وزير الدفاع والإنتاج الحربي، فى ذلك الوقت، فى مكتبه أن اتصل به الرئيس مبارك، رحمه الله، ليبلغه بأن شارون سيصل فى اليوم التالي، إلى شرم الشيخ لمقابلة الرئيس، وأن الجنرال شارون يطلب إن جاز له الطلب، مقابلة المشير طنطاوي، لعلمه بأنه كان قائد معركة المزرعة الصينية، من الجانب المصري.. فرد المشير طنطاوي على الرئيس مبارك، قائلاً، «يا افندم.. إن كان وجودي مطلوبًا من سيادتكم لصالح العمل، فأنا جاهز لتنفيذ أوامركم، أما إن كان لتلبية طلبه، فلن أقابل من كان يقاتلني، ويهاجم قواتي»، فأكد الرئيس مبارك توقعه لذلك الرد من المشير طنطاوي، وبالفعل لم يقابل المشير طنطاوي الجنرال شارون، يومها، بل طوال حياته.


ومن الجدير بالذكر، أنه فى أعقاب حرب 73، مباشرة، نال المقدم حسين طنطاوي نوط الشجاعة العسكري، تقديرًا لبطولته فى معركة المزرعة الصينية، وتم تعيينه ملحقًا عسكريًا فى باكستان وأفغانستان مكافأة على أدائه المتميز فى الحرب.
وفى إحدى رحلاتنا الجوية، ولعلمه بأنني من أبناء بورسعيد الباسلة، حكى لي المشير طنطاوي عن علاقته بشعب بورسعيد، وذكر لي أحد المواقف أثناء حرب 67، أنه خلال انسحابه ومجموعة من الضباط، من سيناء، وصلوا إلى بورسعيد فى فجر يوم 8 يونيو، بعد مسيرة على الأقدام لعدة أيام، ووجدوا جميع أضواء المدينة مطفأة، نظرًا لحالة الحرب التي تعيشها البلاد، خاصة فى منطقة القناة، وحيث إن رحلتهم إلى بورسعيد كانت بلا مؤن، فقد كانوا جميعًا يتضورون جوعًا، فبحثوا عن مأوى لهم يجدون فيه ما يقتاتون عليه حتى وجدوا محلاً صغيرًا للكباب، مفتوح الأبواب وإضاءته خافتة للغاية. فدخلوا للمحل، ولاقوا من صاحبه ترحيبًا عظيمًا، فطلبوا منه أي طعام متاح فهرع إلى ثلاجة الطعام يخرج كل ما فيها، وهو يعتذر عن قلة الكمية.
وعندما فرغوا من الطعام، طلبوا الحساب، فثار صاحب المحل ثورة عارمة واعتبر ما طلبه الضباط، إهانة بالغة.. فكيف له أن يأخذ مقابلاً ماديًا ممن يبذلون أرواحهم دفاعًا عن أرضه وعرضه!!! وأضاف صاحب المحل، أنه ممن حاربوا، ضمن صفوف المقاومة الشعبية، إبان العدوان الثلاثي على مصر، عام 1956، وأنه من الموجة الأولى، من أبناء بورسعيد الذين جروا باتجاه مطار الجميل وتصدوا لأول قوات مظلية إنجليزية هبطت فيه، وأجهزوا على القوة الإنجليزية بأكملها.
يقول المشير، إنه أمام حماس هذا الرجل ووطنيته، لم يستطع هو أو من معه، أن ينطقوا بكلمة واحدة، أو أن يعارضوه فيما يقوله، ولم تكن تمر ذكرى حرب 67 إلا ويتذكر، المشير طنطاوي، هذا الرجل، الذي جسد شهامة المصري الأصيل فى أبسط صورها، ووطنية شعب بورسعيد، الذي يكن له المشير طنطاوي كل حب واحترام.
تدرج بعدها المشير طنطاوي بوظائف قيادية فى سلاح المشاة حتى قاد الجيش الثاني، ويعتبر المشير طنطاوي من القادة القلائل، فى سلاح المشاة، الذي لم يتول طوال مدة خدمته وظيفة رئيس الأركان أي النائب قبل تولي منصب القيادة مباشرة، وهو ما يدل على ثقة القيادة العامة للقوات المسلحة بتعيينه مباشرة فى وظيفة قيادية، حيث تولى منصب قائد لواء مشاة، ثم قائد فرقة مشاة ميكانيكية، حتى قائد الجيش الثاني، ثم قائد قوات الحرس الجمهوري، ثم رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة، الذي خطط وأدار حرب تحرير الكويت، قبل تعيينه وزيرًا للدفاع والإنتاج الحربي.. نجح المشير طنطاوي، بامتياز، فى إعادة الانضباط للقوات المسلحة، ونجح فى إعادة بناء المعسكرات ومناطق الإيواء، التي تليق بكرامة الجندي المصري، وأعاد القوات المصرية إلى معسكراتها وثكناتها، بعد عهود طويلة من البقاء فى خنادق الدفاع أثناء حرب الاستنزاف، وحرب أكتوبر. كما استكمل، وبكفاءة، المنظومة الدفاعية للقوات المسلحة المصرية، التي بدأها من قبله المشير أبو غزالة، لتطوير تدريب وتسليح القوات المسلحة.
استمر المشير طنطاوي فى منصبه، حتى اندلاع أحداث ٢٥ يناير 2011، ليجد نفسه على رأس المجلس العسكري، مكلفًا بإدارة شئون البلاد والتي اعتبرها أهم فترات تاريخه العسكري والسياسي. فأصدر أوامره، منذ اليوم الأول، بعدم إطلاق النيران مهما حدث وظل قراره ساريًا، حتى تسليم السلطة بعد انتخابات عام 2012.
كان يرى أن طلقة واحدة، من شأنها إغراق مصر فى بحر من الدماء، لتصبح بعدها مثل سوريا والعراق، وهو ما كانت جماعة الإخوان الإرهابية تستهدفه، بمحاولة إحداث الفتنة بين الشعب وقواته المسلحة، من خلال إطلاقهم النيران من أعلى أسطح العمارات، فى ميدان التحرير، فى الأيام الأولى لأحداث يناير 2011.


كانت أعقد هذه المواقف عندما حاول المتجمهرون من جماعة الإخوان الإرهابية وأنصارهم حصار واقتحام مقر وزارة الدفاع، واقتربوا بالفعل من الأسوار وتمسك المشير طنطاوي بقراره بعدم إطلاق النيران، والحفاظ على أعلى درجات ضبط النفس، ولولا حكمة، وتوفيق اللواء حمدي بدين، قائد الشرطة العسكرية، آنذاك والمكلف حينها بتأمين مبنى وزارة الدفاع، لنجحت تلك العناصر فى اقتحام مبنى الوزارة، والذي اقتصرت خطته على حشد عدد كبير من الجنود، الذين اندفعوا فى اتجاه المتظاهرين، دون استخدام الأسلحة، ففروا هاربين إلى ميدان العباسية ومنطقة غمرة.


وقد تكون شهادتي، فى حق المشير طنطاوي، مجروحة بحكم العلاقة التي تطورت إلى صداقة على مدار ما يزيد على ٢٠ عامًا، لكنني سأستشهد هنا ب وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، ليون بانيتا، الذي تولّى أرفع وأدق المناصب فى الولايات المتحدة الأمريكية، فى عهد الرئيسين بيل كلينتون، وباراك أوباما، حتى عام 2013، بدءًا من رئيس ديوان البيت الأبيض لمدة 8 سنوات، ثم رئيسًا لوكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA)، وفى عهده تم القضاء على بن لادن، ثم وزيرًا للدفاع إبان ما يطلق عليه «ثورات الربيع العربي».


فمنذ ثلاثة أعوام، كان ليون بانيتا فى زيارة إلى القاهرة، التقى خلالها مع السيد رئيس الجمهورية والسادة وزراء الدفاع والداخلية آنذاك، وفى نهاية زيارته، دعوته والوفد المرافق له، على العشاء، فى أحد مطاعم حي مصر الجديدة، وأثناء العشاء بدأ يتحدث عن ذكرياته عن مصر العظيمة، وعن المحادثات الهاتفية بينه، كوزير للدفاع الأمريكي، وبين المشير طنطاوي، بصفته رئيسًا للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي كان يدير البلاد، فى هذه الفترة الحرجة.


وشهد بانيتا، أن فترة حكم المجلس العسكري، كانت السبب الرئيسي فى الحفاظ على أمن واستقلال ووحدة مصر، ولولاها لتدهورت الأمور مثلما حدث بسوريا والعراق.. وأضاف بانيتا، أنه يكن كل الاحترام والتقدير للمشير طنطاوي، باعتباره رجلاً عظيمًا، أدار دفة البلاد بحكمة وكياسة، طوال عشرين شهرًا، مؤكدًا أن التاريخ المصري سيفرد، يومًا فصولاً كاملة عن تلك الفترة.


التقطت، ساعتها هاتفي المحمول وطلبت المشير طنطاوي، لأبلغه بأن هناك من يود محادثته، فكانت مفاجأة للطرفين، وبدت حرارة العلاقة فى حديثهما الذي امتد لأكثر من ربع ساعة، تبادلا خلالها ذكريات بعض المواقف التي جمعتهما، وأكد المشير طنطاوي على سعادته بمكالمة صديق عزيز، قدم ل مصر العديد من المساعدات، خلال تلك الفترة الحرجة من تاريخها. وقال له الوزير بانيتا إنه لولا أن موعد مغادرته يحين فى خلال ساعات قليلة، لطلب مقابلته، ووعد بأنه خلال زيارته القادمة للقاهرة، سيطلب من اللواء سمير فرج، أن يجمعهما على العشاء، ممازحًا بأمله بأن يكون فى ذات المطعم الإيطالي، الذي يحيي فيه جذوره الإيطالية، فضحك المشير طنطاوي، مؤكدًا أنه سينتظر ذلك اللقاء، الذي سيكون الأول لهما، بعيدًا عن المناصب الرسمية، ليستعيدا معًا ذكريات أيام مرت عليهما، بما لها، وما عليها.


وقبل أن ينهيا مكالماتهما، أضاف الوزير بانيتا أنه سيترك معي، للمشير طنطاوي، نسخة من آخر إصداراته “WORTHY FIGHTS: A MEMOIR OF LEADERSHIP IN WAR AND PEACE”، أو «معارك ذات قيمة: مذكرات القيادة فى الحرب والسلام»، والذي يتحدث فيه عن فترة توليه وزارة الدفاع الأمريكية، منتقدًا فيه السياسة الخارجية للرئيس أوباما، التي أحدثت خللاً كبيرًا فى علاقات الولايات المتحدة الأمريكية، مع حلفائها التاريخين، وانتهت المكالمة وكرر الوزير بانيتا كلمته، «يجب أن يعرف الشعب المصري أن المجلس العسكري، بقيادة المشير طنطاوي، قد حقق الأمن والاستقرار لمصر، وأن هذه الفترة الحكيمة من قيادته، هي التي أوصلت بلدكم إلى بر الأمان فى المنطقة».


كان المشير طنطاوي يعشق كرة القدم منذ طفولته فى حي عابدين، وكان يعشق نادي الزمالك ويتابع معظم مبارياته، من المقصورة الرئيسية فى ستاد القاهرة، ويجلس فى الصف الأخير منها، ولما طلبت منه، يومًا مرافقته لحضور إحدى هذه المباريات، رفض لرغبته فى متابعتها والاستمتاع بها متفردًا.. ورغم عشقه اللامحدود لنادي الزمالك، إلا أن ذلك لم يمس احترامه وتقديره للنادي الأهلي كند أصيل، وكان يقول إن النادي الأهلي مدرسة فى القيادة، ولقد ساعد النادي الأهلي فى إنشاء مبناه الجديد فى مدينة نصر.


وقد ظل المشير طنطاوي يمارس لعب كرة القدم، وهو وزير للدفاع، فكان يغادر الاجتماع الأسبوعي لمجلس الوزراء، كل يوم أربعاء، إلى الصالة المغطاة، بالاتحاد الرياضي حيث يكوّن مجموعة منا فى انتظاره لنلعب مباراة تستمر أكثر من ثلاث ساعات، كنا نستمتع فيها بمتابعة مهاراته الكروية، فقد كان «حريفًا» بمعنى الكلمة. وفى عهده دعم جهاز الرياضة بالقوات المسلحة، وأنشأ المدارس الثانوية الرياضية، خاصة فى صعيد مصر، لاكتشاف المواهب الرياضية فى السن المبكرة من حياتهم.. وفى يوم من الأيام استأذن الرئيس فى بناء ستاد رياضي ليكون الأضخم فى أفريقيا، وبما يليق باسم مصر، وهو ستاد برج العرب حاليًا. وقد كانت بداية تنفيذ المشروع، بالتزامن مع إقامة فرنسا لبطولة العالم لكرة القدم، على أرضها وما سبقها من إنشاء ستاد باريس الجديد، فاتصل المشير طنطاوي بالسفير الفرنسي، وأبلغه برغبة مصر فى تصميم ستاد على غرار ستاد باريس، وبالفعل، حضر المهندس الفرنسي الذي صمم ذلك الاستاد فى فرنسا، وعبر عن بالغ سعادته بأن يضيف لإنجازاته تصميم أكبر ستاد فى أفريقيا، وتم تنفيذ الاستاد بشكله الحالي.


تميز المشير طنطاوي، رحمة الله عليه، بالبساطة الشديدة فى حياته الشخصية، التي تشبه حياة عموم المصريين؛ فكانت والدته، رحمها الله، بالنسبة له هي الدنيا وما فيها، إذ توفى والده وهو فى سن صغيرة، وتولت والدته جميع شئونه، فتعلم منها الكثير والكثير، ودون الخوض فى تفاصيل خاصة، إلا أنني أؤكد أنه كان من الشخصيات القلائل، التي قابلتها فى حياتي، ورأيت منها هذا الحب والعطف والحنان على والدته، فكنت أقول له، دومًا، إن دعوات والدته هي السبب فيما أنعم الله به عليه، وهو ما كان يؤكده، ويؤمن عليه. أما زوجته الفاضلة فكانت تعمل بوزارة الكهرباء، وظلت تعمل بها حتى وصلت لمنصب وكيل أول بوزارة الكهرباء، قبل وصولها لسن المعاش، وله ولدان هما إيهاب وشريف، ولما كان يتمنى أن يكون له ابنة، فقد اعتبر زوجتي أبنائه بناته، وراضته العناية الإلهية بأن رزقته بحفيدة من كل ابن من أبنائه، بعدما أنجب كل منهما ولدين، فكانت أيام ولادتهما، من أسعد أيام حياته. ولم يكن يخفي إدانته بالفضل للسيدة قرينته، وهو ما ذكره، فى أحاديثه الإعلامية النادرة التي أجراها، لما بذلته من جهد فى رعاية شئون أبنائهما، خلال خدمته فى القوات المسلحة، ليتفرغ هو لعمله، خاصة فى مستهل حياتهما الزوجية أثناء فترة حرب الاستنزاف وحرب 73. فقد قال، بالحرف الواحد «لم أكن أعرف فى أي سنة يدرس شريف وإيهاب». وبعد تقاعده، وبعدما أدى واجبه العسكري، على أكمل وجه، كانت أجمل لحظاته تلك التي يقضيها مع أولاده وأحفاده، قائلاً، «لقد عوضني الله بالاستمتاع بأحفادي بعدما حرمتني الظروف من الاستمتاع بأولادي وهم يكبرون»، ولقد كنت معه، فى أحيان كثيرة، وهو يلعب الكرة مع أحفاده خاصة «حسين الصغير»، فكان يقول لي «شايف يا سمير.. الواد طالع حريف زيي بالظبط».


عاش المشير طنطاوي عشرين عامًا، وهو وزير للدفاع، فى استراحة وزير الدفاع المصري، التي أقامها المشير عبد الحكيم عامر، ولم يسمح بإجراء أي تعديلات فيها، وظلت كما هي حتى غادرها، وأتذكر أنه كان مقررًا زيارة وزير الدفاع الأمريكي لمصر، فاقترحت على السيد المشير أن يتضمن برنامج الزيارة، فى اليوم الثاني مأدبة إفطار فى مقر إقامة المشير، أي الاستراحة، تقتصر عليهما وزوجاتهما على طاولة منفصلة، بما يتيح مناقشة أي موضوعات خارج الإطار الرسمي، ووجود الوفود من الجانبين. وبعد موافقة المشير على الاقتراح، ذهبت للاستراحة لمعاينة المكان، والوقوف على الترتيبات اللازمة، فرفض المشير أي اقتراحات بتغيير الأثاث، وبالكاد وافق على إعادة طلاء منطقة الاستقبال، شريطة أن يكون بنفس اللون الذي كانت عليه، وإضافة بعض اللوحات على الجدران وتغيير السجاجيد بها، فضلاً عن أن الإفطار كان مصريًا خالصًا، من أطباقنا التقليدية من الفول والطعمية والبليلة، وشوربة العدس والبصارة، مع الفطير وعسل وطحينة، وشاي بالنعناع.
ولقد حقق ذلك الإفطار عددًا من النتائج الرائعة، على المستوى الرسمي، بما يتناسب مع رؤية الإدارة المصرية. وبعد انتهاء الزيارة فوجئت فى اليوم التالي، بسيارة نقل، تابعة لوزارة الدفاع، تحمل كل ما أضفناه إلى الاستراحة لزيارة الضيف، وعندما تحدثت مع السيد المشير لأؤكد له أننا لم نشتر شيئًا جديدًا لإجراء التحديث اللازم، كان رده حاسمًا، «سمير ... اسمع الكلام ومش عايز مناقشة»، وأعاد كل شيء لأصله. ومرت الشهور، وكان المشير طنطاوي فى زيارة رسمية للولايات المتحدة الأمريكية، فجاءنا برنامج الزيارة، من البنتاجون، متضمنًا إفطارًا مع وزير الدفاع الأمريكي فى منزله.
وهكذا كانت حياة المشير محمد حسين طنطاوي.. ذلك الرجل العظيم الذي فقدته مصر، وسيظل شعب مصر عمومًا، ورجال القوات المسلحة خاصة، يتذكرون أياديه البيضاء، وكل ما قدمه لمصرنا الغالية، وأمتنا العربية، فى أوقات السلم وأوقات الحرب... رحم الله، المغفور له بإذن الله، المشير محمد حسين طنطاوي، القائد العام للقوات المسلحة المصرية و وزير الدفاع والإنتاج الحربي السابق.

وقد أعادت "أكتوبر" نشر الحوار كاملًا، ويمكنكم الاطلاع عليه، ضمن صفحات العدد التذكاري الصادر عن رحيل فارس العسكرية المصرية، المشير طنطاوي، الصادر يوم الأحد 27-9-2021.

أضف تعليق

حظر الأونروا .. الطريق نحو تصفية القضية الفلسطينية

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2