الانهزام المعنوى للجيوش من أقسى أنواع الهزيمة، وهو ما فطنت له القيادة السياسية والعسكرية المصرية بعد حرب يونيو 67، لذا حرصت على العامل المعنوى لجندى مجهول فى المعركة وكذلك على الوعى السياسي باعتبارهما مقياسا حقيقيا لروح النصر فى ساحة المعركة.
وكان أكبر دليل على أهمية الروح المعنوية استغلال الدعاية الإسرائيلية لحرب اليمن فى حربها النفسية ضد مصر عامة، و القوات المسلحة المصرية خاصة، بهدف تحطيم معنويات الجندى المصرى وكفاءته العسكرية بكل الطرق والوسائل، ثم تلتها صدمة هزيمة 1967 وجدار الرعب وبروز مسألة المسافة بين الضباط والجنود كأهم السلبيات التى كان على القيادة علاجها فى إطار خطة الإعداد المعنوى للقوات المسلحة.
أحدثت هزيمة يونيو شرخًا نفسيًا بالغًا لدى المدنيين والعسكريين على حد سواء، فكان من الضرورى البحث عن أسلوب مختلف للإعداد المعنوى لأفراد القوات المسلحة، وكان أفضلها الذى اعتمد على الإقناع العقلى وتنمية الوعى الوطنى بالقضية التى يحارب المقاتل من أجلها، بكل أبعادها السياسية والاجتماعية، بحماس المقاتل لأهداف المعركة الوطنية وليس بالطاعة العمياء أو تنفيذًا لأوامر وتعليمات عسكرية جافة، وكذلك برعاية الضباط والجنود رعاية اجتماعية ومعنوية ونفسية بوصفهم المقاتلين المدافعين عن وطنهم وكرامتهم.
قامت إسرائيـل منذ أوائل الخمسينيات بدراسة أسلـوب استخدام نوع من المعــــارك يعـرف بمعـــارك «الذعر المدبر» وهو نوع معروف لدى جميع الجيــــوش منــــــذ بدء التاريخ ولا يوجد جيش فى العالم إلا واستخدمه بشكل ما تحت ظروف معينة قتالية ومعنوية.
وقدرت إسرائيل أن هذا النوع من المعارك يناسبها استراتيجيا إذ إنه يعطى فرصة للتغلب على الخصم دون قتال وهى ميزة تناســـب العـــدو الإسرائيلـــــى وكان العرب غير منتبهين لهذا الأسلوب، مما أحدث آثارًا سلبية فى الجبهة العربية أهمهــــــــا فقـــدان الثقة فى أنفسهم وقدراتهم، ولقد استغل الإسرائيليون هذه المشكلة وبثوا سموم دعايتهم المغرضة بين الأسرى فى عام 1956 وعام 1967.
مهارات خاصة ومقاتل فريد
أجرت إسرائيل أبحاثًا سيكولوجية على الأسرى المصريين عـــــام 1967 وكانت بعيدة عن الاستهتار بالجندى المصرى، فوجدوا أنه يتمتع بقوة تحمل كبيرة وكفاءة بدنية جيدة مع روح هجومية جريئة يتوج هذا كله الإيمان بالله ركيزة الصبر والصمود، وأشاروا فى أبحاثهــم وكتبهــــم ودعايتهم إلى المسافة الكبيرة بين الضابط المصرى والجندى.
وقد بحثت إدارة التوجيه المعنوى للقوات المسلحة فيما دار من أسئلة وإجابات من الضباط والجنود المصريين الأسرى فى إسرائيل خلال عامى 1956 و1967، وكان التحليل الإسرائيلى أن المقاتل المصرى قوى يسوده الضبط والربط وهم هدافون بالمدفعية يجيدون الرشق والإصابة.
خطة معنوية
أصدرت القيادة العامة للقوات المسلحة فى أغسطس 1967 تعليمات بالإعداد المعنوى للقوات المسلحة بهدف تحطيم جدار الرعب الذى حاول الإسرائيليـــون إقامتـــــه، وإعادة الثقة والاطمئنان إلى نفوس القادة والضباط والجنود ورفع معنوياتهم باتباع الأساليب العلمية فى هذا المجال، وبدأ الإعداد بالقائد القدوة الذى يحظى بالثقة والاحترام والحب ويكون الجميع على قلب رجل واحد وفكر واحد وعقيدة واحدة.
الإعداد للحرب
بدأت القوات المسلحة تستعيد أنفاسها خطوة خطوة وبدأ التدريب ليلاً ونهارًا بكل همة ونشاط، كما بدأ التدريب العملى على عبور موانع مائية بوحدات فرعية ثم الوحدات والتشكيلات الأكبر وكان هذا فى حد ذاته خطوة مهمة على طريق رفع المعنويات للضباط والجنود وإشعارهم بجدية القيادة فى العمل على استعادة الأرض، وبدأت عجلة العمل تدور من رئيس الجمهورية القائد الأعلى حتى أصغر قائد، وكانت الاشتباكات المستمرة بالمدفعية والهاون والدبابات وأعمال القناصة عاملا مساعدا فى رفع معنويات المقاتلين.
وبدأت أعمال التجهيز الهندسى وإعداد المواقع والتحصينات مع الأمن وتوعية الضباط والجنود وحل مشكلاتهم ومتابعة وبحث الشكاوى، وكان الدفاع النشط المبنى على أعمال التراشق بالنيران والاستطلاع والدوريات واستخدام وسيلة السد النارى ضد طيران العدو المنخفض عاملا حاسما فى تحطيم جدار الخوف.
وكانت خطة العدو الإسرائيلى تماشيا مع خطته فى الحرب النفسية قائمة على التهديد بخلخلة دفاعاتنا بضربات قوية وعنيفة بقواته الجوية ومحاولات تهديد الشعب المصرى بأعمال تدمير وتخريب فى عمق الجمهورية وإحداث الذعر بين الأهالى بهدف تحقيق أهداف العدو السياسية.
كسر الروتين
زار الرئيس جمال عبد الناصر، القائد الأعلى للقوات المسلحة، جبهة قناة السويس خلال مارس 1968 واجتمع بالقادة والضباط والجنود وتعرف على مشاكلهم العامة والخاصة، كما أصدرت القيادة تعليمات إلى قادة الجيوش والمناطق العسكرية بكسر كل القواعد الروتينية فى سبيل أمن القوات والمعدات والأسلحة وتوفير الوقاية لها مع تحقيق مبدأ التصاق الفرد بالمعدات والسلاح فى كل وقت وفى كل مكان ومن أهم القرارات التى اتخـــــــذت اعتبار جميع الأفراد الإداريين مقاتلين ومعهم أسلحتهم للدفاع عن أنفسهم والقتال ولم تدخر القيادة وسعًا فى إمداد التشكيلات بما تحتاج من معدات ومواد لتحقيق الوقاية وهى من عناصر رفع المعنويات، حيث تحقق للفرد عنصر الأمان.
وتم كذلك التأكيد على أن القائد مسئول مسئولية كاملة عن الوحدة أو العملية المكلف بها ويجب أن يسند لمرءوسيه سلطة حتى يتمكنوا من أداء أعمالهم بطريقة تتسم بقدر كبير من المسئولية والفاعلية، وأن يعترف الجنود بقائدهم مما يزيد من ثقتهم فى قائدهم.
حرصت القيادة على شرح الأمور السياسية للجنــــــود والضبــــاط ومعرفة الموقف الدولى لأن معرفة الحقيقة تحقق الثقة، وأشارت القيادة إلى ضرورة التركيز على الناحية الدينية للضباط والجنود، بالإضافة إلى أهمية الضبط والربط وتحسين طعام الجنود والاهتمام بالمطابخ فى الوحدات الميدانية وحل مشاكل الجنود الاجتماعية.
لجنة للحرب النفسية
أوصى الرئيس جمال عبد الناصر بتكوين لجنة للحرب النفسية لدراسة وسائل تدمير معنويات العدو ورفع معنوياتنا قائلاً: «العدو هدفه أن يقلب البلد علينا وعلى القوات المسلحة على أساس حل سلمى والأمريكان لن يعطوا حلاً سلميًا وأمريكا
لا تقبل إلا الاستسلام، والجبهة الداخلية حاليا فيها ضيق واليهود عندهم كل المزايا».
وقررت القيادة أن يمر كل أفراد القوات المسلحة خلال ممر معنوى حتى نحقق أهدافنا مهما كانت الخسائر لذا تم التركيز على صمود القوات المسلحة، وحرصت القيادة على أن تمثل القوات المسلحة فى كل بيت وأن يكون كل جندى نواة ثورية داخل عائلته ويجب أن يعمل الجميع على إزالة آثار العدوان بحيث تثبت عقيدة أنه لا مفر من الحرب لتحرير الأرض.
والحرب النفسية فى الأساس قائمة على التوظيف العلمى لأحدث طرق وأساليب ووسائل العمليات النفسية التكتيكية الحديثة والتنسيق والتعاون بين عناصر الشئون المدنية ووحدات وعناصر العمليات النفسية بهدف تحقيق الخداع والتضليل للعدو.
ومن عوامل نجاح العمليات النفسية بحرب أكتوبر، الخداع الاستراتيجي، والإعلامى والسياسى والخداع تعبوى وتكتيكى فى الميدان، وقد تعددت أساليب ووسائل الخداع بين التضليل والإيحاء والتشكيك والوسائل الفنية وكانت شخصية الرئيس أنور السادات شخصية قائد له رؤية مستقبلية للأحداث، خاصة أن قرار الحرب لم يكن سهلاً، فكانت الخطة هى الهجوم بعد أن تم التوصل إلى القرار النهائى بالهجوم وفق المعلومات والبدائل التى قدمت له.
خداع العدو
من أهم الطرق النفسية التى انتهجتها مصر تصريحات الرئيس أنور السادات والتى كانت مركزة فى إطار أن مصر غير قادرة على الحرب سواء فى أحاديثه الصحفية أو فى لقاءاته مع الرؤساء، فكان بارعًا فى خداع العدو الإسرائيلى خاصة أنه لم يعتد المواجهة كما أنشأ جدارًا حصينًا من السرية حول تحركات الجيش.
إذاعة عبرية
ومن أهم طرق الحرب النفسية أيضا بث إذاعة باللغة العبرية تخاطب الشعب الإسرائيلى لتوضح له الحقائق على الأرض وبث كل ما يخدم خطة الخداع الاستراتيجي، فكانت المحطة ترسل رسائل لتخاطب الشباب الإسرائيلى.
وكانت فطرة الإيمان التى يتمتع بها الشعب المصرى من أهم العوامل التى ساعدت على صموده وصمود قواته المسلحة فى تلك الفترة التى كان شعار التوجيه المعنوى فيها هو «الصمود والإيمان»، فكان يتم الاستعداد لكل عمل محتمل من جانب العدو بأعمال التأمين أولا ثم التجهيز لعمليات نشطة حتى قوة كتيبة مشاة مدعمة تعبر شرقا وتقوم بعمليات إغارة واقتناص لأفراد ومعدات ومواقع العدو.
أسير شهريّاً
كانت العمليات ذات قيمة معنوية لقواتنا ومحطمة لمعنويات العدو وصدرت الأوامر بالتركيز على الفرد المقاتل الإسرائيلى والقيام بعمليات اقتناص لأفراده ووضعت مهمة لكل كتيبة فى الجبهة للحصول على أسير إسرائيلى شهريا على الأقل وأن تكون المبادأة لنا فى كل شىء وأن يعطوا الفرصة للقادة والمرءوسين على جميع المستويات بالتصرف والحذر، وكان لاختطاف الأسرى وتساقط الطائرات «الفانتوم» والـ «سكاى هوك» وأسر الطيارين الإسرائيليين دور كبير فى رفع المعنويات.
وعى وطنى وسياسي
أعيد توجيه إدارة التوجيه المعنوى للقوات المسلحة واتسع اختصاصها وأصبحت إلى جانب كبير من المسئولية اقتناعا بأن الوعى الوطنى والسياسى يجب أن يكون مشتركا فكرا وعقيدة فى قلب وعقل كل مقاتل فى القوات المسلحة.
وركزت القيادة العسكرية على تأهيل القادة أنفسهم تأهيلا عمليا على واجباتهم ووظائفهم بحيث يكونوا قدوة حسنة للضباط والجنود فى وحداتهم كما شملت الخطة تنمية معنويات الضباط والجنود على أسس علمية حديثة، الغرض منها رفع معنويات المقاتل، وهو الأمر الذى لا تزال القوات المسلحة تحرص على استمراره وتنميته وتطويره.