لا يزال أرشيف مجلة أكتوبر العريق يحمل الكثير من الأوراق التى قدمها أبطال قواتنا المسلحة كشهادة للتاريخ لترصد ملحمة بطولات مقاتلينا عبر العصور.. وتقدم أكتوبر لقرائها مقالا بقلم الفريق أول محمد على فهمى، نشرته فى عددها رقم 85 عن أسرار التخطيط وإنشاء حائط الصواريخ أثناء حرب الاستنزاف، وهو الحائط الذى أربك العدو وغير موازين القوى ووقف له كبار القادة العسكريين احتراما وإجلالا ، وإالى نص المقال.
«إن ذكرى انتصار أكتوبر تعيد إلى الأذهان كثيرا من المواقف و البطولات والأحداث غير أن هناك علامات بارزة لا يمكن أن نمر بها دون أن نتوقف عندها تحية لذكراها واستلهاما لدروسها وعبرها والمرء إذا تحدث عن انتصارات أكتوبر 73 لابد أن يتوقف كثيرا عند المشاركة الفعالة لقوات الدفاع الجوى ودورها المؤثر فى تلك الحرب.
وإذا جاء ذكر قوات الدفاع الجوى، فلا يمكن أن ننسى معركة حائط الصواريخ تلك الملحمة التى بذلت فيها قواتنا العرق والدم وخرجنا منها بالدروس والعبرة وكانت ركيزة النصر لقوات الدفاع الجوى وقواتنا المسلحة فى حرب أكتوبر، بل كانت الخطوة الصحيحة الأولى فى معركة التحرير.
تناول الكثير من الكتاب العسكريين وغير العسكريين الكتابة عن حائط الصواريخ واختلفت الروايات عن طريقة بناء هذا الحائط وتوقيتات دخوله للشاطئ الغربى لقناة السويس، وإحقاقا للحق فإن الكتابة فى هذا الموضوع تحتاج إلى كتاب كبير حتى يتم تأصيل الحقائق وتوضيح الأمور حسب تسلسل الأحداث وتطور الظروف والمواقف.
وسنحاول هنا التعرض للب الموضوع فى اختصار لا يخل بمعنى الأحداث والحقائق على قدر الإمكان
أولا: التفكير فى حائط الصواريخ
فى يوم 26 مارس 1970 عقد وزير الحربية مؤتمرا قرر فيه إنشاء نظام دفاع جوى جديد فى منطقة الجيوش بجبهة القتال يشمل عددا من كتائب الصواريخ يتم احتلالها دفعة واحدة فى مواقع ميدانية قبل يوم 14 إبريل 1970 على أن يتم فى نفس الوقت إنجاز التجهيزات الهندسية لهذه المواقع تحت حماية هذا التجميع وقد توصل الوزير إلى هذا القرار على ضوء نشاط العدو وغاراته ضد التجهيزات الهندسية واحتمال عدم النجاح فى إنهاء هذه التجهيزات بدون توفير حماية لها بالصواريخ المضادة للطائرات ولكن بعد إعادة دراسة الموضوع وتقييم الموقف رؤى صعوبة الانتقال للجبهة فى وثبة واحدة بتجميع كبير لكتائب الصواريخ، حيث قدرت الخسائر المنتظرة أن يلحقها العدو بهذا التجميع من ستة إلى سبعة كتائب وهى خسائر كبيرة لا تساوى ما يمكن أن نحمله للعدو من خسائر، ولذا تقرر الانتظار حتى انتهاء تجهيز المواقع المحصنة بالجبهة يوم 15 مايو واحتلالها فى يومى 16و17 مايو 1970.
ثانيا: العملية أمل
فى 15 مايو 1970 قامت القيادة العامة للقوات المسلحة بوضع خطة أطلق عليها الاسم الكودى «أمل» لتأمين تحرك واحتلال كتائب الصواريخ إلى مواقعها بواسطة الأفرع الرئيسية والجيشين والقوات الخاصة، حيث تقوم بعمليات ذات طابع خاص من تنفيذ خطة خداع لكفالة السرية والأمن والإخفاء أثناء تحرك هذه الكتائب ويحدد موعد التحرك واحتلال المواقع بعد انتهاء تجهيزاتها الهندسية وخروج الشركات المدنية من مواقع العمل على ألا يكون هناك ارتباط زمنى بين الانتهاء من الإنشاءات الهندسية للمواقع واحتلالها ضمانا للسرية، وقد كان من المقرر أن تنتهى التجهيزات الهندسية لمواقع هذه الكتائب كما سبق أن أوضحنا فى 15مايو 1970على أن يتم احتلالها يومى 16و17 مايو 1970، ولكن يبدو أن المعلومات كانت قد تسربت، حيث إن العدو قام فى يومى
13 و 14 مايو بهجمات جوية شديدة ضد قوات الدفاع الجوى وتجهيزاته الهندسية فى الجبهة ونجح فى تدمير بعض منها، الأمر الذى تقرر على ضوئه تأجيل الاحتلال إلى موعد آخر.
ثالثا: احتلال حائط الصواريخ بطريقة الزحف البطيء نحو الجبهة:
فى 27مايو 1970، وبعد دراسات عديدة لطرق الحل المفتوحة أمامنا ومزايا وعيوب كل منها تبلورت خطة احتلال حائط الصواريخ غربى القناة لتكون بأسلوب الزحف فى مواقع ميدانية على مراحل نحو الجبهة على أن يتم ذلك فى ثلاث وثبات، بحيث تحمل كل وثبة الوثبة التى تليها، وبحيث يتيح احتلال الكتائب لمواقع الوثبة الأخيرة الفرصة لإنشاء مواقع محصنة للدفاع الجوى على الضفة الغربية للقناة توفر عند احتلالها حماية القوات ضد الغارات الجوية أثناء العبور وفى رؤوس الشواطئ وعلى هذا الأساس تمت مراجعة أوضاع كتائب الصواريخ فى شرق القاهرة لتعديلها وتعزيزها، بحيث توفر الحماية للأنساق الخلفية لتجميع الصواريخ فى مواقع وثبتها الأولى وأطلق على هذه العملية الاسم الكودى «المحروسة».
وفى ليلة 28 و 29 يونيو 1970 تم الانتقال إلى مواقع جديدة فى منطقة على مسافة 50كم من قناة السويس، وكان جزءا منها أصلا محتلا بمواقع هيكلية، وكان هذا هو التجميع الشهير الذى أسقط الطائرات الفانتوم وعلى أساسه حددت قوات الدفاع الجوى ذلك اليوم ليكون يوم الدفاع الجوى وهو يوم 30 يونيو من كل عام، وقد بلغت خسائر العدو الجوى فى الفترة من 30 يونيو إلى 8 أغسطس طبقا للبلاغات الرسمية المصرية 16طائرة إلا أن برجس المشرف على رعاية المصالح الأمريكية فى مصر أبلغ أحد كبار المسئولين أن البيانات المصرية قللت كثيرا من أرقام الخسائر الفعلية التى أنزلناها بالطائرات الإسرائيلية.
هذا ولإثبات وتأكيد وجنودنا بالصواريخ المضادة للطائرات غربى القناة تم القيام من وقت لآخر بعمل كمائن بقوة من كتيبتين إلى أربع كتائب صواريخ فى مناطق الجيشين غربى القناة مباشرة فى أماكن أمام تجميع الصواريخ المحتل، وكان ذلك خلال نهاية يوليو وأوائل أغسطس 1970، وقد حققت هذه الكمائن خسائر كبيرة فى الطائرات الإسرائيلية، وعلى سبيل المثال فى يوم 3 أغسطس 1970 تم عمل كمين نجح فى تدمير طائرة سكاى هوك وأخرى فانتوم وتم أسر طياريها.
رابعا: الوثبة الثانية:
ولدفع التغطية بالصواريخ للأمام تم فى نهاية يوليو 1970 دفع بعض الكتائب من النسق الخلفى للتجميع إلى مواقع ميدانية تم تجهيزها لهذا الغرض أمام التجميع وتحت حمايته، وبهذا أصبح الحد الأمامى للتجميع على مسافة حوالى 30كم غرب القناة.
خامسا: حائط الصواريخ فى الوثبة الأخيرة:
ولكى ندفع ب حائط الصواريخ إلى وثبته الأخيرة تم قبل منتصف ليلة 7 أغسطس 1970 تحريك بعض كتائب الصواريخ المضادة للطائرات من النسق الخلفى للتجميع ومن القاهرة إلى المنطقة أمام التجميع وشماله وجنوبه وعلى مسافة من، 10 إلى 18كم من القناة، وأصبح الحائط يغطى مظلة تشمل كل منطقة القناة ويفرض سيطرته تماما عليها؛ وبذلك اتخذ حائط الصواريخ مكانه فى وثبته الأخيرة قبل منتصف ليلة 7 أغسطس 1970، وهو موعد تنفيذ اتفاقية وقف إطلاق النار والتى كانت تقضى بتسكين الموقف فى جبهة القتال أى إنه كان لا يسمح بعد تنفيذ الاتفاق بإدخال مزيد من قواعد الصواريخ أو تقريب حائط الصواريخ إلى الأمام تجاه قناة السويس، لكن المصادر العسكرية الإسرائيلية اتهمت مصر بتحريك بعض كتائب الصواريخ تعزيزا ل حائط الصواريخ بعد الموعد الذى حدد لسريان وقف إطلاق النار، وفعلا بعد يوم 22 اغسطس 1970 أثير هذا الموضوع مع مصر عن طريق أمريكا وعلى ضوء ذلك طلبنى الرئيس جمال عبد الناصر مع الفريق أول محمد فوزى إلى مكتبه بمنشية البكرى، حيث عرض تقريرين أحدهما إسرائيلى والآخر أمريكى مرفقا بكل منها أحدثيات المواقع وحددا أعداد كتائب الصواريخ التى تم تحريكها بعد قرار إيقاف إطلاق النار وطلب منى الرئيس قراءة التقريرين والتعليق على كل منهما وبعد دراستى السريعة لهما كان ردى كالآتى:
- التقريران بهما اختلافات كثيرة عن الواقع، وهذا يدل على نجاح خطة الخداع والإخفاء والتمويه والسرية إلى حد بعيد.
- لم تحدث أى زيادة من جانبنا فى كتائب الصواريخ عقب وقف إطلاق النيران وأن جميع التحركات تمت قبل منتصف ليلة 7 أغسطس 1970.
سادسا: تطوير حائط الصواريخ:
بدأت أعمال تطوير حائط الصواريخ عندما أخطرت أمريكا الرئيس جمال عبد الناصر رسميا بقرار الرئيس نيكسون، الذى كان قد اتخذه يوم أول سبتمبر 1970، والذى كان ينص على أن الولايات المتحدة قد قررت تزويد إسرائيل بمزيد من طائرات الفانتوم 18طائرة، ردا على ما اعتبرته أمريكا خرقا من جانب الجمهورية العربية المتحدة لاتفاقية تسكين أوضاع القوات بإدخالها المزيد من كتائب الصواريخ إلى الجبهة، واعتبر الرئيس عبد الناصر ذلك مخالفا لاتفاق سابق وأمر بأن تقوم الجمهورية العربية المتحدة بالرد وذلك لتصبح فى مركز أقوى وأفضل، وذلك بتدعيم وزيادة عدد كتائب الصواريخ عن عددها الذى كان موجودا وقتئذ بالجبهة.
وفعلا تم فى القترة من 5 سبتمبر إلى 12 سبتمبر 1970 تدعيم وحدات صواريخ الجبهة بثلاثة لواءات سام 3 احتلت مواقعها بمنطقة الجبهة على ثلاث مراحل وكانت تلك هى بداية مرحلة التطوير الحقيقية لحائط الصواريخ، والتى استمرت حتى أكتوبر 1973، ففى خلال نهاية 1970 تم استكمال الإنشاءات والتجهيزات الهندسية للمواقع فى المنطقة، التى تمتد غرب القناة وتبعد من 6 إلى 8كم، وذلك تحت حماية تغطية حائط الصواريخ، وأصبحت هى المواقع التى تؤمن التغطية لقواتنا فى العمليات الهجومية أثناء اقتحام المانع المائى، وكذا تأمين رؤوس الشواطئ شرق القناة، وتم احتلالها بمعدات هيكلية، ولم يتم احتلالها بمعدات حقيقية إلا بموجب الخطة (جرانيت 2 المعدلة) عند تنفيذ خطة الهجوم الفعلية فى عمليات 6 أكتوبر 1973.
هذه هى قصة حائط الصواريخ .. أوردتها فى سطور.. وهى التى تمت فى شهور وشهور وبذلنا فيها العرق والدم.. إنها الملحمة التاريخية، التى كانت حجر الزاوية فى نصر أكتوبر 1973.