لا تزال الثورة العرابية حتى الآن محل جدل وخلاف حول أسبابها وأحداثها ونتائجها.. فالبعض لا يزال يسميها «هوجة» أى مجرد «هبّة» من مجموعة من المصريين اعتراضًا على بعض «الممارسات» وكانت نتيجتها احتلال الإنجليز لمصر!
لكن البعض الآخر يؤكد أنها كانت خطوة معبّرة عن مرحلة من مراحل النضال والتطور فى المجتمع المصرى، خاصة بعد عودة «المبتعثين» الذين أرسلهم محمد علي إلى الخارج ومنهم رفاعة الطهطاوى وغيره، ثم حضور جمال الدين الأفغانى إلى مصر والتفاف النخبة وقتها حوله وخاصة محمد عبده وسعد زغلول وعبد الله النديم وكبار ضباط الجيش من المصريين وكذلك كبار مُلاّك الأراضى والأعيان فى الريف المصرى.
ولقد حاول عرابى فى مذكراته شرح أسباب فشل الثورة، كما تحامل المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعى على العرابيين وثورتهم.
ثم جاءت المفاجأة التى قطعت قول كل خطيب كما يقول المثل العربى القديم، حيث عثرنا فى أحد مخازن دار المعارف على كتاب قديم للأستاذ والمفكر الكبير عباس العقاد بعنوان «ضرب الإسكندرية» فى 11 يوليو، وهو كتاب من الحجم الصغير وعدد صفحاته 166 صفحة.
وبالطبع عندما يدلو العقاد بدلوه فى موضوع ما، فلا قول بعده، وكل من قرأ العبقريات أو غيرها من مؤلفاته يعلم مدى حرصه على البحث والدراسة والتأكد من صحة الأحداث، ثم مناقشتها وتبيان وجه الحق فيها.
.. وهكذا كان كتابه «ضرب الإسكندرية» والذى دفعنا به إلى المطبعة لإعادة طبعه وإتاحته للقراء فى أسرع وقت ممكن.
حيث انتهى العقاد إلى أن «الثورة العرابية» كانت نتيجة لمقدمات عديدة تجمعت فى وقت واحد، ولم تكن تسعى لتغيير الحكم إنما محاولة إلحاق مصر بالدول المتمدينة، فضلا عن المطالبة بتصحيح أوضاع خاطئة ومخالفة للقوانين والفرامانات السلطانية!
ولا يمكن أن يختلف أحد فيما يقوله الأستاذ من أن «الأسطول الإنجليزى لم يأت – وقتها – إلى الإسكندرية ليرجع أدراجه كما أتى»!
ويشير أيضا إلى ما قيل أن معارضة عرابى تسليم «حصون الإسكندرية» هى التى أدت إلى الاحتلال، فى حين أن تسليم الحصون هو الاحتلال بعينه ومن غير مقاومة ولا اعتراض!
ولم يكن هذا رأى العقاد وحده، إنما هذا ما قاله النائب الإنجليزى ب مجلس العموم البريطانى تعقيبا على ما حدث «أرى رجلا يحوم حول دارى وعلامات العدوان بادية على وجهه، فأعمد إلى الأقفال لأغلق أبوابى ونوافذى، فيثور غضبا، ويزعم أننى أهينه وأهدده»!
والمعنى أن الإنجليز كانوا يخططون ومن سنوات لاحتلال مصر وتأمين خطوط الاتصال مع الهند.
ويورد العقاد بعض المقدمات التاريخية لذلك، بداية من الحروب الصليبية لأسباب تجارية وبدعوى دينية، ثم موضوع «المسألة الشرقية» تطبيقا لما يسمى بالسياسة الجغرافية، وهو ما يعنى أن مركز الأمة الجغرافى يملى عليها سياستها على اختلاف الحكومات والمعتقدات، ويقول: «إذا كذب الساسة انخدع المسوسون، لم تكذب الجغرافية ولم ينخدع التاريخ»!
وأيضا موضوع «الامتيازات الأجنبية»، ثم مشكلة الديون، حيث كانت مصر الولاية الوحيدة من الولايات العثمانية، التى خضعت للإشراف الأجنبى على الحكومة المصرية لضمان سدادها، بداية من الحكومة الأوروبية ثم صندوق الدين وانتهاء بلجنة التصفية، ثم مشروع «قناة السويس» والتى عارضت إنجلترا وجودها فى البداية، ثم استولت على أسهمها بعد فتحها، بعد أن قام رئيس وزرائها دزرائيلى بشراء أسهم الحكومة المصرية، وكتب للملكة فكتوريا.. الآن تمت الصفقة، والقناة فى يدك سيدتى!
كل هذه المقدمات تصادفت مع محاولة الخديوى سعيد الاعتماد على المصريين فى تحديث الجيش المصرى، وهو ما حدث بالفعل وكان فى مقدمتهم أحمد عرابى الذى سرعان ما ترقى إلى رتبة القائم قام فى أربعة سنوات فقط، ولكن كبار الضباط من الشراكسة والأتراك وغيرهم تدخلوا لإحباط هذه المحاولة، فبدأت المصادمات والأحداث فى التراكم بداية من عدم تسليم الضباط المصريين مرتباتهم وحصارهم لديوان وزارة المالية وانتهاء بوقفة 9 سبتمبر 1882.
وينتهى إلى أن زعامة عرابى لتلك الثورة كانت من مشيئة القدر التى لا محيد عنها، لأسباب شخصية وأخرى موضوعية.. أى أنها كانت «ضرورة» تاريخية.. كمقدمة لما حدث بعدها من نضال المصريين حتى 23 يوليو 1952.