لقد أكرم الله البشرية قاطبة أن جعل فيها خاتم الأنبياء، أرسله إمامًا للأنبياء وهو خاتمهم، فلا نبى بعده لتحيا به قلوب ماتت وتفرح به نفوس خربت، به تحولت الهمجية إلى حضارة وتحولت الغلظة إلى تسامح.
اكتمل الإسلام وانتشر وانتصر فى حياة رسوله ولا يزال يملأ الدنيا عدلًا، إنها مكرمة ومقام الحبيب سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمى القرشى، وحق لل مسلمين أن يفخروا باتباع دينه.
إنه رسول ليس كباقى الرسل ونبى ليس كغيره من الأنبياء، فقد أرسلوا لخلق معلوم وأرسل عليه السلام للعالمين أجمعين، وأرسلوا لزمن محدود، بينما أٌرسل صلى الله عليه وسلم أبد الآبدين إلى يوم الدين، وكانت معجزاتهم رهينة بوجودهم، ومعجزته خالدة إلى يوم الدين، وبعد 14 قرنًا تقف الإنسانية أمام أسس قانونية عادلة ومبادئ دستورية وضعها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تقوم على احترام الآخر وتنبذ العنف والتطرف وتبنى أجيالًا وتؤسس لمجتمعات بعيدة عن الكراهية.. إنه دستور المدينة المنورة.. أول دستور مدنى فى تاريخ الدولة الإسلامية، تمت كتابته فى السنة الأولى للهجرة النبوية، 52 بندًا 25 منها خاصة بأمور ال مسلمين و27 مرتبطة بعلاقة ال مسلمين وأصحاب الأديان الأخرى.. والمتمعن فى بنود الوثيقة يجد أن الدولة هى دولة مدنية أرست قواعد المواطنة التى ارتكزت على وجود سلطة سياسية علاقتها مع مواطنيها قائمة على المشورة.
وأولى مرتكزاتها توحيد المجتمع وحفظ السلم الاجتماعى عبر المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وتنظيم العلاقة بين ال مسلمين واليهود، بإقرار التعددية الدينية فى الدولة، فسمحت لغير ال مسلمين بإقامة شعائرهم، وضمان العدل والمساواة.
كل التشريعات التى جاء بها سيدنا محمد كانت وحيًا وبيانًا فى الكتاب والسنة، وكان هذا سبب النجاح وانتشار الإسلام فى مساحة واسعة فى أقل من قرنين من الزمان.
وقد أنتجت الدولة الإسلامية حضارة مزجت بين العقل والروح ونظرت للعلم على أنه فريضة على كل مسلم ومسلمة، فنهضت الأمم والشعوب وأنارت للبشرية طريقها وامتدت من الأندلس غربًا لتخوم الصين شرقًا.
واستمرت العصور الذهبية من القرن الثامن الميلادى وحتى القرن الرابع عشر.
وعرف العلم والعلماء فى عصور الازدهار حرية فى التفكير لم تكن لمن قبلهم ولا لمن بعدهم.
وبعد مرور 14 قرنًا لا يخفى على أحد الضعف الذى أصاب ال مسلمين وتمزقهم وتفرقهم وتداعى الأمم عليهم طمعًا فى أرضهم وثرواتهم والرغبة فى أن يظلوا ضعفاء بل ويزدادوا ضعفًا.
ولدينا حديث عظيم وصف لنا فيه الرسول الكريم حال الأمة الإسلامية اليوم وصفًا دقيقًا يطابق ما هى عليه.
قال رسول الله: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟
قال: بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن فى قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟
قال: «حب الدنيا وكراهية الموت».
ويخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أعداء الأمة سيتأمرون عليها من كل جانب وكيف سيطمعون فيها طمعًا كبيرًا.
ويشبه الأمة بقصعة الطعام، ويشبه الأعداء بالأكلة الجياع، وهو ما ينطبق على الأمة فى زماننا هذا، فالطامعون من الشرق والغرب يطمعون فى أرض ال مسلمين وخيراتها.
وهذا الطمع لا يرجع لقلة عدد المسلمين، لكنها كثرة كغثاء السيل كما شبهها رسول الله، فالغثاء لا وزن له رغم كثرته، وتتقاذفه الأمواج فى كل اتجاه، وكذلك الأمة تسير دون اتجاه ودون هدف منقسمة على نفسها.
ويبين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم سبب هذا الضعف وهو الوهن، فحب الدنيا وكراهية الموت هو سبب ضعف الأمة وهوانها، ونسيت الأمة بالوهن دورها فى الحياة «كنتم خير أمة أخرجت للناس».
وللخروج من حالة الوهن لا سبيل سوى الاعتصام بدين الله، فهو أساس الوحدة ومصدر القوة.
ويشهد التاريخ أن هذه الأمة كانت أمة قوية بكل معايير القوة يهابها أعداؤها ويعملون لها ألف حساب، وكانت خير أمة كما وصفها رب العزة.
فنحن أمة تنتصر بطاعتها لله وإتباعها سنة نبيه، وتنكسر بعصيانها لله وبعدها عن شرعه وهداه.
ولا ننسى قوله صلى الله عليه وسلم: «إنى قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا، كتاب الله، وسنه نبيه».