عاطف عبد الغنى يكتب: «التعفيش.. والمعفشين»!

عاطف عبد الغنى يكتب: «التعفيش.. والمعفشين»!عاطف عبد الغنى يكتب: «التعفيش.. والمعفشين»!

*سلايد رئيسى10-11-2017 | 22:15

الحرب – أيضًا – تخلق اللغة الخاصة بها، وتنحت مصطلحات أو استخدامات اصطلاحية جديدة لكلمات كانت قبل الحرب لها دلالات مختلفة.

فى الحرب التى تقاتل فيها السوريون، وشهدتها أحياء وشوارع وحارات المدن السورية، شاع استخدام كلمة «تشويل» فى الدلالة على سرقة البيوت والمحال، وحتى البنى التحتية، وقد انتشرت السرقات جراء فوضى الحرب، ومقابل مصطلح «التشويل» شاع فى المناطق الريفية من دمشق وما حولها، مصطلح «التعفيش»، والمعنى اللغوى للكلمة هو تحميل أو تخزين الأثاث «العفش» إلى أن تحولت خلال الحرب وصارت تعنى عند أهل الريف الدمشقى سرقة المنقولات والأثاث من الطرف المنتصر فى المعارك، بعد أن يطرد الطرف المهزوم من الحى أو المدينة أو المحافظة.

وما أن يحقق طرف الانتصار حتى يقوم أفراد تابعون له، بـ «تعفيش» المنطقة المستولى عليها، ويأتون بسيارت تنقل البرادات، والغسالات، والشاشات والحواسب المحمولة، والأثاث المنزلى إلى أسواق المسروقات، التى كثرت فى سوريا إلى حد الظاهرة خلال الحرب.

(1)

ما سبق جانب مظلم ونتيجة لا تدعو للاندهاش من نتائج الحروب التى يتحول فيها البشر إلى ما يشبه الوحوش ويتجردون من إنسانيتهم، أما ما يدعو للدهشة فهو الآتى:

أن يسقط عليك الموت كسفًا من السماء وتطاردك مُعدة عسكرية ثقيلة على الأرض مهددة بهرس عظامك تحت جنازيرها الثقيلة، أو تتوقع فى أى لحظة أن تصيبك رصاصة لا تخطئ الهدف لأنها صادرة عن بندقية قناص يتربص بك من مخبئه الذى يدركك من حيث لا تدركه.

الأخطار تحوطك عن اليمين والشمال، ومن فوقك ومن أسفل منك، وتهددك بالموت، وعلى الرغم من هذا تغامر فتروح تبحث بين أنقاض البنايات المنهارة والدمار عن كتاب لتنقذه وتخبأه فى مكان سرى.

(2)

هذا ما فعله عدد من الشبان السوريين، ينتمون لبلدة «داريا» الواقعة فى ريف دمشق، وقد أمضوا سنوات يجمعون ما يستطيعون من الكتب بعد إنقاذها من بين ركام المبانى التى تتهدم بفعل القصف، والبراميل المتفجرة، ليؤسسوا مكتبة.. نعم مكتبة سرية ضمت حين اكتشافها 15 ألف كتاب.

كانوا 25 شابًا، واستغرق جمع هذا العدد من الكتب 4 سنوات، هى السنوات التى كانت فيها «داريا» تحت الحصار، والدمار الذى حصد أرواح ما يقرب من الألفين من المدنيين من أبناء المدينة، لكن هذا لم يمنع الشبان من أن يجوبوا الشوارع المدمرة، والحارات، بحثًا عن كتاب جديد يضعونه إلى جوار آخر على أرفف مكتبتهم، التى جعلوها فى أحد أقبية المبانى، حماية لها من الدمار واللصوص.

(3)

أنس أحمد واحد من هؤلاء الأبطال (أراهم هكذا) وهو طالب سابق فى كلية الهندسة المدنية، ومشارك أصيل فى إنشاء هذه المكتبة، يحكى عن تجربته ورفاقه:

«رأينا أنه من الحيوى أن نؤسس مكتبة جديدة لنتابع تعليمنا» ، ووصف خطورة المهمة بالقول «كان علينا فى أغلب الأحيان أن نحصل على الكتب من البيوت التى دُمرت بفعل القصف، ومعظم هذه الأماكن قريبة من خط النار، لذا فإن جمعها كان خطيرًا للغاية» وواصل:

« كان علينا أن نراوغ القناص بالاختباء خلف الدمار، وأن نكون حذرين جدًّا لأن القناص يلاحقنا بمنظاره، متوقعًا الخطوة التالية التى سنقوم بها».

وبغض النظر عن النهاية التى آلت إليها هذه المكتبة وهى نهاية محبطة،جاءت مع انتهاء حصار القوات النظامية السورية للمدينة، وخروج الجماعات المسلحة المناوئة للدولة منها، وبمجرد حدوث هذا، انتشرت أعمال السلب والنهب «التعفيش» فى المدينة، ومعها تم اكتشاف مخبأ الكتب ليصبح مصيرها هى أيضا «التعفيش».

وتداولت صفحات السوريين على «السوشيال ميديا» صورًا حزينة للكتب والذين جمعوها، فى الصور كان اللصوص يقومون بتحميل الكتب على سيارات  النقل الصغيرة «السوزوكى» التابعة «للمعفشين» ليتصرفوا فيها، كما يتصرف سارق، لا يدرك قيمة نهيبته التى لم يتعب فيها، ماديا أو معنويا، فيروح يتخلص منها بأبخس الأثمان، وفى حالتنا قد يؤول مصير هذه الكتب للنار، يتدفأ بحرقها «المعفشين» من برد الشتاء..

وبالطبع لن يفهم قيمة ما فعله الشبان إلا من يعرف المعنى الحقيقى لخلق الإنسان وعمار الكون والإرث الإنسانى، والمعنى الرسالى للبشر، أما إذا لم تجد فيما فعله هؤلاء الشبان معنى يستحق عناءهم ومخاطرتهم فلا لوم ولا عتاب عليك.

(4)

لقد رأيت فيما فعله الشبان طاقة نور يتسرب منها فتيل شعاع فى نفق العرب المظلم، ودعوة للأمل والتفاؤل يمكن أن ننسج منها على خلايا الفرح ، هذا الفرح الذى لم يفسد متعته إلا أن الحكاية السابقة كان مصدرها الذى سوف تطل منه على العالم، صحيفة إسرائيلية..

أنا نفسى أول ما عرفتها كان من خلال «تويتة» على الصفحة الرسمية لأديب نوبل الساحر «باولو كويلو»، شارك فيها عنوان لصحيفة «ها آرتس» الإسرائيلية، وعنوان الموضوع الرئيسى يشير إلى أن هناك من حارب داعش والأسد ليُكوّن مكتبة سرية من بين الأنقاض، بينما يشرح عنوان تابع ذو بنط صغير كيف أن صحفيًا فرنسيًا يدعى «دلفين مينوى» حكى لـ «ها آرتس» ما فعله مجموعة الشبان السوريون الذين جمعوا مكتبة سرية تضم 15 ألف كتاب فى بلدة «داريا» السورية من بين الأنقاض، لكن الصحيفة الإسرائيلية لم تكتف بالجانب الإنسانى فى القصة، فراحت تسيس الموضوع وأدخلت عليه صراعات تنظيم ما يدعى الدولة الإسلامية «داعش» و«بشار الأسد».

لذلك كان لزامًا علىَّ أن أبحث عن مصادر سورية لأعرف أصل الحكاية، ووجدت أنه قد مضى عليها ما يقرب من العام بينما تعيد إنتاجها الميديا الإسرائيلية الآن وتنسبها لمصدر غربى، وهذه سرقة ليست جديدة ولا مستغربة على الإسرائيليين أكبر «معفشين» فى التاريخ، ويكفى أنهم سرقوا وطن بأكمله وابتلعوه فى جوفهم .

ولن أخرج قبل أن أقول.. إن إسرائيل والغرب يحتفلان هذه الأيام بمرور 100 عام على وعد بلفور.

أضف تعليق

وكلاء الخراب

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2