فى ظل الأوضاع الراهنة التى تحيط بجماعة الإخوان وسقوطها سياسيًا وشعبيًا، وارتباكها فكريا، وتصدع جدران كيانها التنظيمى بالانشقاقات المتلاحقة، ثمة أصوات تنادى بمحاولة وضع استراتيجيات جديدة للتعامل مع أكبر أزمة تعصف بمشروعها منذ تأسيسها فى نهاية العشرينيات من القرن الماضي.
النقطة الأكثر مفصلية فى محاولة إعادة جماعة الإخوان للمشهد السياسى والاجتماعى فى عمق المنطقة العربية، تتمثل فى التخلص من عبء التنظيم، عقب حالة الرفض الواسع وعجزها عن صناعة حواضن شعبية تمكنها من نشر أيديولوجيتها الفكرية، فى ظل انهيار التنظيم وروافده.
مخطط نقل الإخوان من الحالة التنظيمية إلى حالة «السيولة الفكرية» أو ما يعرف بـ «التيار الفكري» الجارف، ليست بالهينة، إذ إنها اعتمدت طوال تاريخها على فكرة الاستقطاب والتجنيد التنظيمي، وإدارة الجماعة وفقًا لضوابط تنظيمية هرمية، تمكنها من التحكم المطلق فى عناصرها وقياداتها بناء على مجموعة من الأدبيات والأطروحات التى يتم تمريرها فى إطار الخضوع والانسجام بين القيادات والقواعد التنظيمية.
فى إطار تجربة الإخوان فى الوصول للسلطة وسقوطها المروع شعرت بأنها كانت تحرث فى الماء، وأن جهدها وخططها فى الانتشار والتغلغل داخل المجتمعات العربية تحولت إلى هباءً منثورًا، لم تجن منه شيئًا، لا سيما أنها خسرت قواعدها التنظيمية، وممتلكاتها وكياناتها ومشاريعها الاستثمارية بسهولة متناهية فى إطار المصادرة القضائية، بالتوازى مع فقدانها لمرتكزاتها السياسية فى عمق الشارع العربى خلافا للمنهج السلفى الذى يتحرك فى شكل تيار فكرى جارف، دون تحمل عبء الفكرة التنظيمية.
يفرض الوضع الحالى على جماعة الإخوان فى ظل تجفيف منابع الاستقطاب والتجنيد، نوعًا من الاكتفاء والانكفاء التنظيمى، وعدم التفكير حاليًا فى التوسع فى ضم نماذج بشرية جديدة، والتركيز فيما يعرف بـمحاولات «جمع الشمل»، فى ظل السقوط المدوى والانهزامية السياسية التى تحاصر قياداتها وقواعدها التنظيمية، فضلًا عن حالة التفكك والتفتت التى انتابت كيانها وصفها الداخلى.
تخلى الإخوان عن فكرة الهرم التنظيم والخلايا والكتائب ليست بالأمر الهين فى أبجديات جماعة الإخوان، لكنها باتت حالة ملحة فى ظل خسرانها للكثير من قواعدها التنظيمية انشقاقًا أو تفلتا أو انقلابا على مشروعها، ومرورها بحالة من الرفض على مختلف المستويات، منذ صعودها إلى قمة المشهد السياسى وسيطرتها على الحكم فى أكثر من دولة عربية، وانهيارها بشكل سريع.
الاستراتيجية الجديدة للإخوان فى تشكيل الوعى العربى مدعومة بشكل مباشر من التنظيم الدولي، وليس التنظيم المحلى (إخوان مصر)، وتمثل أهم محطة فيها المؤسسات الثقافية من خلال صناعة مجموعة من الكتاب الجدد، أو الإسلاميين الليبراليين، بهدف السيطرة على الشريحة العمرية الجديدة التى يتم مغازلة أفكارها ورؤيتها «عن بعد» من خلال كاتبى الروايات الخيالية الأدبية، وإصدارات التنمية البشرية، التى تحمل بين دفاتها إرهاصات المحتوى الفكرى الأصولى.
مصطلح الانتقال من خانة الهرم التنظيمى إلى التيار الفكري، يرجع إلى بعض الأصوات التى تنادى بضرورة التعاطى مع إشكاليات وقضايا المجتمع، مع إسقاط الجدار التنظيمى، وصياغة خطاب تنظيمى ينتقل من المحلية إلى العالمية، من خلال تأسيس كيانات «القوة الناعمة»، التى تقوم بتغذية ومخاطبة الرأى الجمعى للمجتمعات العربية، وتحمل الأدبيات والأطروحات الفكرية للإخوان دون الدعوة للانتماء أو الاصطفاف التنظيمى، مثل المؤسسات والأكاديميات المعنية بالتأهيل الفكرى، التى يتركز دورها فى بث خطاب موجّه إلى روافدها وقواعدها التنظيمية.
على سبيل المثال لا الحصر، «معهد منهاج للفكر والثقافة»، الذى أُسّس كمبادرة شبابية من داخل الأردن، ويهتم بنشر الأدبيات الفكرية الإخوانية بين الشباب، عن طريق دورات ثقافية وتربوية، فى حال أقرب إلى الجلسات واللقاءات التنظيمية المعروفة تحت مسمى «الأسر والكتائب»، وكذلك «الأكاديمية الدولية» للتنمية البشرية، ومنصة «جدران» الثقافية، ومنصة «ديوان الأزهر» للعلاقات للدارسات الإسلامية بإسطنبول وتستهدف التأثير فى أبناء الأزهر الشريف، ويشرف عليه محمد العقيد الملقب بـ «الرجل الأسود».
على هامش حالة التحول التنظيمى، تم إشهار مؤسسة «شبكة محررى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا» MENA EDITORS، فى لندن كشركة غير ربحية برقم (11579456)، وتم افتتاح فرع لها فى النمسا تحت رقم (1643702166)، وفرع ثالث تابع لاتحاد الجمعيات الأهلية فى تركيا (أحد كيانات التنظيم الدولى)، برقم (34-263/068)، وفرع رابع بدولة تونس، وفرع خامس فى دولة المغرب.
تعتبر منظمة «شبكة محررى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا» من الكيانات الإعلامية والسياسية التى تلعب أدوارًا مزدوجة، لا سيما فى ظل ارتباطها بعدد من المؤسسات الأمريكية والمموّلة للمشاريع المناهضة للأنظمة السياسية الحاكمة، وتقديمها لمجموعة من الدورات وورش العمل حول أساسيات الإعلام البديل أو الإعلام الموازى، ويشرف عليها مدرّبون من جنسيات عربية، ينتمى غالبيتهم تنظيمياً إلى الجماعة، بهدف تمرير الأجندة الإخوانية فى تفكيك البنية المجتمعية للشعوب العربية.
ضمت المؤسسة الإخوانية المشبوهة «MENA EDITORS»، بين صفوفها التنظيمية والإدارية، أحد أخطر رجالات التنظيم الدولى، إسماعيل القريتلى (ليبى الجنسية) المدرج على قوائم الإرهاب، والذى لعب دورًا مهمًا فى خدمة جماعة الإخوان لسنوات طويلة داخل أفغانستان وقطر وبريطانيا، بناءً على تسريبات لجهاز الأمن الخارجى الليبى.
تعمل منظمة MENA EDITORS، وفقًا لمشروع التنظيم الدولى، فى التوسع والانتشار عربيًا وإفريقيًا بين الأوساط الشبابية الجديدة، على نطاق واسع، فى ظل تعثر المشروع الإخوانى التنظيمى على أرض الواقع، مع فرضية الاتجاه نحو قطاعات مهنية مختلفة، سواء من الأطباء أو المحامين، أو المعلمين، الذين يتم استقطابهم بالنهج المؤسسى نفسه عربيًا ودوليًا من خلال تأسيس كيانات تقدم استشارات فنية ومهنية، تدخل فى شراكة مع مؤسسات دولية كبرى بهدف تنفيذ مشروع توسعى ينطلق من أرضية دولية لا محلية.
تخلّت جماعة الإخوان عمليًا عن أدواتها التقليدية للتأثير فى الدوائر المجتمعية المصرية والعربية، تطبيقًا لاستراتيجيتها الجديدة تجاه تنفيذ سيناريوهات «أسلمة المجتمعات»، إذ لم تعد فى حاجة للسيطرة على المساجد والمدارس والجامعات والنقابات المهنية، والأندية الشبابية والرياضية، لا سيما فى ظل الوعى الأمنى والشعبى المتعافى تجاه مخاطر جماعات الإسلامى السياسى والحركى.
فى ظل الارتباك الفكرى والتخبط التنظيمى، انتقلت الجماعة فعليًا إلى حالة «التيه»، المصاحب للانهيار التام، ما دفعها للتقوقع أو للتعايش مع ظاهرة «الكمون التنظيمى»، معتمدة على استراتيجية «دار الأرقم»، أو ما يُطلق عليه «التربية والدعوة السرية»، فى محاولة لصناعة تكوينات فكرية جديدة، تعيد من خلالها صياغة الإشكاليات والعثرات التى لحقت بها على المستوى السياسى والاجتماعى والتنظيمى.
تدرك جماعة الإخوان وقواعدها أنها لم تعد أحد مكوّنات الحالة السياسية المصرية، وأنها لن تصبح رقمًا فى معادلة الحكم لمرحلة زمنية طويلة، بناءً على ترتيبات المشهد السياسى الجديد، وفى ظل «الجمهورية الجديدة» التى تضع ضمن توجهاتها القضاء التام على أى مرتكزات إخوانية فى مفاصل الدولة المصرية عبر تشريعات قانونية ودستورية.
عملية التيار الفكرى، والتخلص من عبء الهيكل التنظيمي، فكرة طرحها ياسين أقطاى، سكرتير التنظيم الدولى تركيا، ومستشار الرئيس أردوغان، وترجمة فى شكل دراسة بحثية، قدمت لقيادات الجماعة، وتضمنت الخطوط والمسارات التى يجب أن تتعامل معها فى ظل المتغيرات السياسية، مبينة أن السيولة الفكرية، تمثل الحالة الأقرب إلى المنهجية الأصولية واستمرارية وجودها.
الدراسة حملت نقدًا واضحًا للمشروع التنظيمى، وطرحت بشكل مباشر على قيادات التنظيم الدولى فى مقدمتهم إبراهيم منير، ويوسف ندا، ومحمود حسين، وأنس التكريتى، لكشف الوضع الحقيقى للجماعة على أرض الواقع وانحصار دورها فى الحركة الإسلامية ككل.
وأكدت الدراسة البحثية، أن جماعة الإخوان فى آونتها الأخيرة تتولاها إدارة متخبطة سياسيًا ودعويًا، وتطبق دستور «لا تعترض فتنطرد»، وأن القائمين عليها قدموا ولاء الأفراد لها على الولاء لله ورسوله، وأن الجماعة كرست مبدأ سياسة القطيع والنظر للقضايا الصغرة على حساب القضايا الكبرى.
أضافت الورقة البحثية، أن أدبيات الجماعة لا تحمل أية رؤية تستشرف الواقع أو المستقبل، إنما يقتصر هواها على بطانة تخون كل من يختلف مع توجهاتها ورؤيتها وأفكارها، وأنها أصبحت بعيدة تمامًا عن أية نقد أو تقييم لذاتها ولقادتها.
وأشارت إلى أن جماعة الإخوان ليس لديها نية للمراجعة أو للمكاشفة لحصر أخطائها على مختلف المستويات التنظيمية والفكرية والتربوية، وأن اللوائح الداخلية أصبحت متهالكة لا تتناسب مع الأوضاع الحالية وتحول عناصر التنظيم لمجرد أدوات تسمع وتطيع دون وعى أو إدراك لمجريات الأمور.
فى إطار الجدلية النقدية طرحت الورقة البحثية ما عرف بمشروع «هيكلة الحركات الأصولية»، موضحة أن الداعين إليه، عرضوا الفكرة من قبل على الدكتور محمود عزت القائم بأعمال مرشد الإخوان سابقًا (تم القبض عليه فى أغسطس 2020)، من أجل تصحيح موقف الجماعة داخليًا وخارجيًا، والانتقال منها إلى خلق تيار فكرى يشمل الحركات الأصولية، لكن تم تأجيل البت فيها.
تناولت الورقة البحثية، ملامح لقاء تنظيمى بمشاركة (58) قيادة ممثلين عن عدد من الأقطار العربية والغربية، مقسمين كالتالى: (11) قيادة مصرية، و(9) قيادات من دولة الكويت، و(8) شخصيات من دولة اليمن، و(5) قيادات تمثل دول الخليج، و(3) شخصيات من دولة السودان، و(4) قيادات تمثل دولة سوريا، و(5) قيادات من لبنان، و(2) من دولة باكستان، و(7) يمثلون عددًا من دول أوروبا.
وفقًا للوثائق التى بين أيدينا، فإن اللقاء التنظيمى كان مرتب عقده عام 2018، إذ تم تخصيص 4 فيلات فى مدينة «أزمير» التركية، لعقد ورش عمل خاصة بالمشروع، تحت إشراف المخابرات التركية وياسين أقطاى.
كان كل من د. عبدالله النفيسى، ود. محمد المأمون المحرزى، القيادات التاريخية بجماعة الإخوان سابقا، تناولا فى الكثير من لقاءاتهما الإعلامية، قضية فك التنظيم الإخوانى، وطرح مفهوم التيار الفكرى العام، معتبرين أن التنظيم بمثابة كيان تاريخى، لكنه تحول إلى عبء على الحالة الأصولية والسياسية العربية بشكل عام، وأن التجربة القطرية كانت رائدة فى هذا المجال، عندما قرر «إخوان الدوحة»، فك التنظيم نهائيا بناء على دراسة بحثية، قدمت تحليلًا وافيًا عن تداعيات التنظيم ومستقبله، وانتهت الدراسة - لم تنشر حتى الآن - إلى حل التنظيم عام 1999، والتحول إلى تيار فكرى واسع يستهدف عموم المجتمعات العربية.
واعتبر النفيسى والمحرزى، أن جماعة الإخوان تحولت إلى إسفنجة تمتص كل الطاقات وتجمّدها، وأن الإشكال الأساسى لديهم يتمثل فى فقدان الرؤية السليمة فى التعامل مع قضايا المجتمع والانشغال بالسيطرة على مؤسسات الدولة دون الانتباه إلى صناعة مرتكزات وحواضن منهجية فكرية تتسم بالمدى البعيد والتأثير فى مختلف الدوائر المجتمعية والشعبية.
موضحين أن المرحلة التاريخية التى نشأت فى ظلها جماعة الإخوان قديماً لم تعد قائمة الآن، وأن الظروف الموضوعية فى مصر ربما بررّت نشوء وقيام جماعة الإخوان فى وقتها 1928، وأن القاهرة فى وضعها الحالى، ليست فى حاجة إلى هذا الشكل أو هذا الإطار الحركى.