رحل عن عالمنا المفكر الكبير الدكتور حسن حنفى بعد أن ترك لنا ثروة من عُصارة فكره.. عشرات من الكتب ومئات من الأبحاث أراد بها أن يؤسس فلسفة إسلامية وعربية متميزة تجمع بين أصالة التراث العربى والإسلامى، وبين ما يتفق مع فكرنا وعقيدتنا من فكر و فلسفة الغرب، وكان يؤكد دائما على أننا يجب ألا نأخذ كل ما فى التراث العربى بدون دراسة ومراجعة للإبقاء على ما يناسب درجة التطور، التى وصلت إليها المجتمعات العربية، لا نأخذ من التراث القديم إلا ما يتفق مع العقل والمنطق، ولا نأخذ من الغرب إلا ما يساعد على مسيرتنا للتقدم.
حسن حنفى كان أستاذًا لل فلسفة تتلمذ على يديه أساتذة أضافوا وأبدعوا ومنهم الدكتور الخشت رئيس جامعة القاهرة الآن، وتجاوز هذه المكانة الرفيعة إلى أن صار فيلسوفا أسس نظرية فلسفية، ورؤية فكرية، ومنهج تفكير عمل على إنزال ال فلسفة من علياء الدوائر المغلقة للمفكرين لتصل إلى عموم المثقفين وإلى غيرهم من محبى المعرفة، كان يفعل مثل سقراط أبو الفلسفة، الذى ترك منتديات الفلاسفة والمتفلسفين وخرج إلى الناس وإلى الشباب خصوصا ليدير معهم حوارات تفتح أذهانهم إلى عوالم فكرية واسعة، ولذلك كان مشاركا فى كل حوار.
قال عنه الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر إنه قضى عمره فى محراب الفكر والفلسفة، وزخرت المكتبات العربية والعالمية بمؤلفاته وتحقيقاته، ويذكر له مطالبته الغرب والمستشرقين بإنصاف الشرق والحضارة الشرقية وما فيهما من القيم الإنسانية النبيلة، وقال عنه المفكر الكبير الدكتور جابر عصفور إنه أحد المفكرين الكبار الذين أثروا الثقافة العربية وكان نمطا فريدا فى هذا الفكر من الصعب – بل من المستحيل – أن يتكرر.. وقيل عنه إنه الفيلسوف العربى الوحيد بعد زكى نجيب محمود، وقدم قضية تطوير الفكر الإسلامى من أصوله الأولى عند المعتزلة ويناقش أفكارهم مناقشة علمية عميقة، ويشرح كيف نشأت علوم الحضارة الإسلامية انطلاقا من علم أصول الدين وهذا ما جعل لها سمات مختلفة عن غيرها، ولكنها لم تكن حضارة جامدة، بل كانت حضارة حية استفادت من كل الثقافات وكانت تطلب العلم ولو فى الصين أو الهند.
مشروع حسن حنفى يبدأ من احترام التراث، والأخذ بكل جديد فى العالم المعاصر فى مجالات العلوم والأفكار، دعوته إعادة اكتشاف علوم القدماء دون الوقوع فى عبادة الماضى وتقديس ما ليس مقدسا.. بحيث يرفض من التراث ما كان صالحا فى زمانه ولم يعد صالحا فى زماننا، فليس كل التراث العربى والإسلامى صالحا لليوم وليس كله فاقدا للصلاحية، وكذلك الحال بالنسبة لتراث الغرب.
قضى حسن حنفى سنواته فى تأسيس علم جديد أسماه «علم الاستغراب» وكان يقصد بذلك أن الغربيين والمستشرقين أسسوا علم الاستشراق لدراسة الأحوال الاجتماعية والسياسية والثقافية للعالم العربى والإسلامى، ونظروا إلى مجتمعاتنا بعيون استعمارية واستعلائية، ولكننا يجب أن ندرس الغرب بمنهج علمى موضوعى يرى السلبيات والإيجابيات.. وانتهى البحث به إلى رفض أسطورة العولمة التى روج لها مفكرو الغرب، ورفض نظرية نهاية التاريخ بسيطرة الحضارة الغربية وسيادتها للعالم، وكذلك رفض نظرية صراع الحضارات والثقافات، وقدم الأدلة على رسوخ القوميات، والروح الوطنية، وطبيعة العرب و المسلمين فى تقبل الآخرين وتقبل الاختلاف بمبدأ «فكرنا صواب يحتمل الخطأ وفكر غيرنا خطأ يحتمل الصواب» الذى أرساه فقهاء المسلمين.
وقدم حسن حنفى نظرية عن القابلية للاستعمار والاستغلال والاستبداد، وملخصها أن الاستعمار لا يمكن أن يتمكن من البقاء طويلا فى بلد فيه الحيوية واليقظة والإصرار على رفض الاستعمار، وكذلك الحال بالنسبة للاستغلال فإنه لا يزدهر بقوة المستغلين ولكن يزدهر وينمو بقبول ضحاياه، وأيضا لا يمكن للاستبداد أن يستمر فى شعب يرفض الاستبداد ويقاومه، ومن هنا قال من الخطأ إلقاء كل اللوم على عوامل خارجية فقط لتخلف المسلمين ولكن المسلمين أنفسهم مسئولين ومشاركين، والنضال من أجل الحرية والتقدم يجب أن يبدأ من الداخل، ونبدأ بأنفسنا وإصلاح أحوالنا لنكون جاهزين لبناء حياة جديدة ومجتمع جديد وعقل جديد.
يقول حسن حنفى: لن نكون غربيين، ولن نكون تابعين أو مقلدين للغرب وإلا سنكون مسخا، فنحن لدينا تاريخ يمتد لأكثر من ألف وأربعمائة عام، بينما الوعى الأوروبى لم يبدأ إلا منذ ستة قرون فقط، ولم تبدأ العقلانية فى أوروبا إلا فى القرن السابع عشر، ولم يبدأ عصر التنوير إلا فى القرن الثامن عشر.. ثقافتنا عريقة وممتدة فى عمق التاريخ، وهى التى قامت عليها النهضة الأوروبية بعد ترجمة علوم و فلسفة العرب و المسلمين إلى اللغة اللاتينية.
فكر حسن حنفى يقف صلبا شامخا فى مواجهة محاولات تشويه تاريخنا أو التقليل من قيمة تراثنا.. لقد تجاوز عقدة النقص أمام الفكر الغربى التى أصيب بها كثير من المثقفين والمفكرين العرب جعلتهم يطالبون بالتنازل عن تراثنا العظيم والالتحاق بالغرب متصورين أنهم بذلك يلتحقون بقطار التقدم.. حسن حنفى درس فى السوربون.. وهضم فلسفات وتاريخ الغرب ولم ينبهر بالغرب، وطالبنا بأن نجمع بين الحسنيين.. ثقافتنا وثقافة الغرب والشرق والعالم كله.. ونحتفظ بخصائص الشخصية العربية الإسلامية ونفخر بها.