خلال فترة الحرب الباردة والتى كانت نتيجتها تفكيك الاتحاد السوفيتى وسيطرة الولايات المتحدة، استطاعت «منظمة الحرية الثقافية» التى أنشأتها المخابرات الأمريكية أن تلعب دورًا كبيرًا فى تلك المعركة، ودفعت بها إلى الواجهة لتغزو كافة الدول وتنشر مكاتبها فى أكثر من 50 دولة حول العالم.
وفق رؤية لخصتها الاستخبارات الأمريكية (CIA) فى عبارة «الدعاية الأكثر تأثيرًا تلك التى يتحرك فيها الشخص المستهدف فى الاتجاه الذى تريد، لأسباب يعتقد أنها أسبابه.. «وذلك وفق ما ذكرته الكاتبة البريطانية «فرانسيس ستونر سوندرز» التى دفعتها مشاهدتها لإحدى الاحتفالات لتبحث عن «من الذى دفع للزمار؟» لتكتشف الحرب الباردة الثقافية التى أدارتها المخابرات الأمريكية خلال القرن العشرين وما زالت تديرها.
فى الأسبوع قبل الماضى استعرضت مجموعة من الوقائع حول استهداف الجماعة الإرهابية للثقافة الأمر الذى كشفه بيت ثقافات العالم من خلال معرض فنى واسع (بدأ فى 3 من نوفمبر 2017 واستمر حتى 8 من يناير 2018) ليكشف حجم المهزلة.
كيف تتحول جوائز ومهرجانات دولية إلى أدوات لتنفيذ رؤى دول وتقديم صور زائفة لمجتمعات، وخلق وعى مجتمعى زائف، وتعليب ثقافات.
خلال الأسبوع قبل الماضى استعرضت جزء من محاولة الجماعة الإرهابية لبعث فكرها من جديد من خلال مجموعة من الشخصيات والوجوه الجديدة مستهدفة إعادة إحياء فكر الجماعة الإرهابى ولكن وفق رؤية ونمط مختلف لتتسلل تلك الأفكار المسمومة إلى عقول الشباب - وهو نمط تعلمته الجماعة على أيدى أجهزة استخبارات دولية يعمل التنظيم الإرهابى منذ نشأته عام 1924 تحت عباءتها، مستهدفًا تقديم وعى معلب ومفاهيم مغلوطة غير عابئة بالأوطان.
ولأن الثقافة كانت وما زالت هى الباب الأكثر قدرة على التأثير فى الشعوب، كانت المرتكز الذى استهدفته الجماعة وأنفقت عليه ملايين الدولارات بل مليارات الدولارات المقدمة من دول تستهدف ضرب الدولة الوطنية وتدمير المنطقة.
عقب نشر الحلقة الأولى من «معركة تعليب العقول» تلقينا العديد من الاتصالات التى كشفت حجم المحاولات المستميتة من التنظيم الإرهابى لإعادة بعث فكره من جديد من خلال استقدام رموز ودعم وتمويل دور نشر، وعقد ندوات وإقامة حفلات توقيع، وصالونات ثقافية، لرسم صورة ذهنية جديدة لدى المجتمع بعد أن فُضِحت الجماعة وانهارت كافة أسانيدها المزيفة لاستقطاب عناصر مؤيدة أو محبة لها.
(1)
نستعرض فى هذا العدد بعضًا من نماذج الروايات والقصص التى استهدفت تقديم وعى زائف وصورة ذهنية وفق رؤية الجماعة الإرهابية، بدءًا من العودة لصورة المظلومية التى تصدرها كافة منصاتهم الإعلامية وانتهاءً بكتب الوعى الذى يعيد تدوير تراث كوادر تنظيم الإخوان من جديد ليعود سيد قطب فى صورة «أحمد خيرى العُمري» صاحب (البوصلة القرآنية، وسيرة خليفة قادم، والسيرة مستمرة، الفردوس المستعار والفردوس المستعاد، استرداد عمر، وليطمئن عقلي) والذى يتخذ من سيد قطب قدوة ونموذجًا يحتذى به فى كتاباته ويؤمن بفكره وهو أحد كوادر الجماعة الإرهابية.
تجد ذلك الإنتاج الثقافى لطبيب الأسنان العراقي، والذى يقدم فى صورة رواية أحيانًا.. لأن الرواية هى الأكثر مبيعًا بين فئة الشباب أو كأحد كتاب السيرة أو العقيدة، وهو ما يدلل على أن الأمر لا يسير بخطى غير مدروسة إنما وفق رؤية وإستراتيجية محددة المعالم لتقديم مشهد ثقافى
يدفع بالمتلقى إلى الطريق المرسوم .. طريق التنظيم الإرهابى .. وهنا لست مبالغًا فى الأمر؛ ففى كتاب «العُمري» «سيرة خليفة قادم – قراءة عقائدية فى بيان الولادة» جاء ليقدم ذلك السُم الزعاف بعد مقدمة حاولت تقديم الأمر على أنه إعادة نظر وتصحيح لمفاهيم قدمت فى السابق حول الاستخلاف فى الأرض والخلافة.
لكن الحقيقة التى لا تتغير والمفهوم الراسخ لدى الجماعة الإرهابية، أنه لا قيمة للأوطان لدى التنظيم الإرهابي، ولا مكان لها داخل المشروع المزعوم (الخلافة الإسلامية).
فيذكر الدكتور وليد أحمد فتيحى الذى وصف نفسه بالباحث عن النهوض فى صدارة الكتاب الذى يتألف من 492 صفحة بحسب طبعته الأولى عام 2013، والتى بعد أن قدم الكثير من الإطراء والثناء على الكاتب وبالتحديد فى الصفحة (15) أن الاستخلاف يعنى الحضارة الإسلامية، والحضارة الإسلامية أكبر من الدولة حتمًا، ولكنها تتمثل فيها.
ويصف «فتيحي» «العُمري» بأنه مؤسس فقه النهوض الإسلامى ليساهم فى تشكيل فكر جيل من الشباب المفكر والباحث القرآني.
ويأتى الكتاب ليقدم بعد 431 صفحة من محاولة تغيير المفاهيم بما يجد قبولًا لدى الكثيرين ويحاول أن ينقض غزل السابقين فيظهر وكأنه يقدم رؤية مستنيرة للاستخلاف، ثم بعد كل تلك المساحة يبدأ فى تقديم وجبته المسمومة بدأ من صفحة 432 وتحت عنوان «ولى الأمر.. أكاذيب صدقناها» يبدأ العُمرى فى تقديم رؤيته بضرورة الخروج على الحاكم معتبرًا أن كافة الحكام طالما أنهم ليسوا من أبناء التنظيم فهم حكام مستبدون.
إنها طريقة مدروسة باحترافية شديدة تستهدف جذب العقول ثم تقديم الهدف ليظهر كجزء من السياق الطبيعى للأحداث وهو «الدعوة لإسقاط الأنظمة» فهو يعتبر أنه ليس هناك ما يسمى بولى الأمر، بل ويجتزئ الآيات ليخرج منها بأن التنازع مع ولى الأمر أمر مطلوب دينيًا وبعد 10 صفحات يختم العمرى حديثه بـ «وصلت الفكرة؟» وهى أحد أوجه تقديم العناصر غير الجديدة لتتصدر المشهد وتبعث فكر الجماعة الإرهابية بشكل مختلف، الذى لا يؤمن سوى بتدمير الأوطان من أجل الوصول إلى الحكم كما قالها من قبل «خيرت الشاطر».
وتقوم دار عصير الكتب بتوزيع كتب «العمري» بالإضافة إلى دار أجيال و التى منحت حق توزيع الكتاب فى مصر والتى لدينا نسختها المنشورة فى 2013.
(2)
ومن مؤلفات أحمد خيرى العمرى إلى مؤلفات أيمن العتوم التى تحاول الجماعة الإرهابية تقديم مؤلفاته بقوة من خلال بعض دور النشر فى مصر وعدد من الدول العربية وعلى رأسها «عصير الكتب» والمؤسسة العربية للدراسات والنشر التى نشرت رواية «حديث الجنود» و«يا صاحبى السجن» والتى تقوم بتوزيعها بالقاهرة دار «عصير الكتب» التى طبعت منها الطبعة رقم 16.
ويُعد العتوم من الكوادر المهمة والنماذج التى يُدفع بها إلى المشهد فى مصر بقوة، بل وتحصل كتبه على خصم 25% ويتم توجيه شباب التنظيم بشراء كتب العتومى الذى يستهدف بث روح النضال لدى العناصر الشابة والتأكيد عن أن ما يقدمونه من تضحيات هو من أجل الوصول إلى الجنة.
إنه أحد محاور استهداف العقول.
ومن العتوم إلى «حنان لاشين» أحد عناصر تنظيم الإخوان والملقبة أو المكناة بحسب ما تسمى نفسها بـ (أم البنين) وروايتها التى أصدرتها دار البشير عام 2015 برقم إيداع 9401/2015.
فقد جاءت روايتها «كونى صحابية» بمثابة إعادة لإحياء نموذج زينب الغزالي، والتى لديها أكثر من إصدار منها منارات الحب، كويكول، الهالة المقدسة، غزل البنات، امانوس، إيكادولي، سقطري، وأوبال.
ونموذج «دعاء عبد الرحمن» صاحبة رواية «اكتشفت زوجى فى الأتوبيس»، إيماجو، داو، وقالت لي، وقلب الطاووس؛ وقد تصدرت كتبها جناح «عصير الكتب» فى معرض الكتاب الأخير فى شهر يوليو الماضي.
وقد استطاعت أعمال كثيرة مما سبق ذكرها طباعة أكثر من 15 طبعة وتوزيعها داخل مصر وخارج مصر عبر دور نشر مختلفة خاصة التى تجد مساندة ودعمًا من الإخوان بهدف إعادة بعث الروح فى التنظيم الإرهابى وتقديم نموذج ثقافى تحت شعار أسلمة الثقافة.
ومن الروايات إلى كتب تغيير معالم خريطة الدول خاصة دول المنطقة وتعديل الحدود فقد عمدت سلسلة كتب «العربية بين أيدى أولادنا» لغير الناطقين بالعربية إلى رسم خريطة مصر بدون حلايب وشلاتين، كما قامت بضم جزء من سيناء إلى غزة.
إنه مخطط يستهدف رسم صورة ذهنية لواقع جديد وافقت عليه الجماعة الإرهابية عندما حصلت من الولايات المتحدة الأمريكية على 8 مليارات دولار خلال فترة ولاية باراك أوباما مقابل منح 60% من سيناء لحماس.
(3)
لم يكن ذلك التحرك فقط هو المحور الوحيد، بل استطاع التنظيم إدخال أموال عن طريق بعض دور النشر التى تدين للتنظيم بالولاء، من خلال المعارض الخارجية، والتى أصبحت بمثابة بوابة شرعية لإدخال الأموال إلى مصر، وعندما فطنت الدولة المصرية للأمر بدأ التنظيم تحويل الأموال بشكل غير مباشر من خلال شراء منتجات وسلع بل وصل الأمر إلى شراء الجمال وتصديرها إلى مصر ثم إعادة بيعها مرة أخرى وتحصيل الأموال.
جاء ذلك بعد أن قامت إحدى دور النشر المصرية فى معرض الجزائر العام الماضى بتحويل 243 ألف دولار على أنها حصيلة مبيعاتها فى المعرض، وهو ما ينافى الحقيقة فقد تجاوز أضعاف حصيلة مبيعات كافة دور النشر المصرية مجتمعة فى ذلك المعرض.
فى الوقت الذى تتحرك فيه الجماعة الإرهابية للترويج لرموزها الثقافية الجديدة وتدعم دور النشر الخاصة بها فى الداخل، قامت بالتنسيق مع محمد صلاح سلطان المقيم فى أمريكا ابن القيادى الإرهابى صلاح سلطان وسندس عاصم شلبى بالترويج بأن مصر ضد الحرية الثقافية للدفع بمزيد من العناصر الثقافية والكتب التى تحمل فكر الإخوان المعلب بشكل جديد إلى مصر.
بل إن أحد دور النشر المدعومة من التنظيم الإرهابى تقوم بالطباعة فى أحد مطابع العاشر من رمضان بـ 60 مليون جنيه.
إنها عملية ممنهجة لتجديد الخطاب الإخوانى من خلال الثقافة والإعلام واستغلال بعض الثغرات فى المشهد الثقافى، منها أرقام الإيداع، والتى تعتبر أحد الثغرات، فرغم وجود قرار اتخذه وزير الثقافة الأسبق حلمى النمنم بعدم منح أرقام إيداع لأى دار نشر لم تسلم نسخة من كتبها أو العناوين السابقة التى تم نشرها، إلا أن بعض دور النشر لديها أكثر من 80 كتابًا حصلت على أرقام إيداع لعناوين كتب ولم تسلم لدار الكتب والوثائق نسخة منها.
ويمكن كشف هذا الأمر من خلال مراجعة الإيصالات الصفراء لأرقام الإيداع.
إننا أمام قضية تستوجب منا جميعًا أن ندرك حجم المخطط الجديد الذى يستهدف تعليب فكر وثقافة فى ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.
كما تستوجب منا تحصينًا فكريًا مبنيًا على ثوابت وقيم وطن يمتلك إرثًا حضاريًا أنار العالم.
إن المشهد يحتاج إلى وقفة فى مواجهة مخطط تزييف الوعى وتعليب العقول من قبل تنظيم إرهابى مدعوم بقوى خارجية يحترف تغيير جلده، ولونه وخطابه من أجل الوصول إلى الهدف (تدمير الدول للوصول إلى السلطة) مهما كلفه الأمر.