أبو الفضل.. وما أدراك بالخضر!

الرأى6-11-2021 | 10:33

قرأت العديد من كتب التفسير وخاصة التى تناولت قصة لقاء «موسى والخضر» بشىء من التفصيل.

وكنت دائمًا أتوقف عند الحوار المدهش والشيق بين النبى موسى وهذا العبد الصالح، فهذا نبى الله وكليمه وأحد الخمسة من أولى العزم من الرسل، كيف تحمل مشقة الجوع والسفر الطويل لكى يحظى بهذا اللقاء الذى دفع إليه دفعا من قبل ملك السموات والأرض والذى يعلم ما تخفى الصدور، خاصة بعد أن أجاب موسى على من سأله من أعلم أهل الأرض؟ فقال: أنا. فأراد ربه أن يعلمه أن فوق كل ذى علم عليما.. ومن ثم كان اللقاء مع العبد الذى وصفه ربه «فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» (الكهف). ويبدأ موسى بالسؤال: «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً»، فيجيبه الخضر «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً.

فيوعده موسى بالطاعة وعدم عصيان الأوامر، ولكن الخضر يؤكد مرة أخرى «فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً» (الكهف) ثم انطلقا.. وتتكرر الكلمة ثلاث مرات فى ثلاثة مواقف مختلفة، كان الغرض منها أن يتعلم موسى ألا يخدعه الظاهر وأن يتريث حتى يتعرف على الحكمة من وراء بعض التصرفات التى قد تبدو له «نكرا»، قتل الصبى الذى قتله الخضر أو السفينة التى خرقها أو الجدار الذى أقامه.

ثم ألم يقتل موسى نفسًا زكية من غير نفس قبل هروبه من مصر، وألا يتذكر «التابوت الذى كان فيه باليم»، وأيضًا «سقيانه بغير أجر»، بل يجب أن يعلم أن كل ذلك بأمر من الله ولحكمة لا يعلمها إلا هو.. إذ يقول الخضر فى نهاية اللقاء «وما فعلته عن أمرى».

انتهى الحوار، ولكن القصة لم تنته، فقد صدر عن دار المعارف مؤخرًا كتاب ممتع فى قراءته، شيق فى موضوعه بعنوان «الخضر.. فى التراث العالمى» للصديق
د. محمد أبو الفضل بدران أستاذ النقد الأدبى والأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة.

وقد صدرت الطبعة الأولى منه من المجلس الأعلى للثقافة، ولكن المؤلف رأى أن تصدر الطبعة الثانية من «منارة الثقافة العربية» أى من دار المعارف.. بيت الخبرة فى النشر والتوزيع وفى رأيى أنه أحسن صنعا، فالكتاب ممتع لأنه عبارة عن جولة ثقافية أدبية فى التراث العالمى حول «الخضر» الذى تحول من شخص إلى «حالة» وظاهرة.. فهو فى الإسلام الخضر، وهو فى اليهودية يوسع أو آليا، وهو فى المسيحية القديس مارى جرجس.

وحتى فى الإسلام ذاته، فالبعض مازال يعتقد أنه حى.. وباق حتى قيام الساعة، وخاصة عند الشيعة الذين يؤمنون بالإمام الغائب، وعند الصوفية الذين يعتقدون فى العلم اللدنى، حيث الظاهر والباطن ودرجات الوصول والفرق بين العبد والولى.

ليس ذلك فقط.. فقد اختلط المقدس بالموروث الشعبى، وأبدعت جموع الجماهير وخاصة فى الدول الإسلامية وبعض الثقافات الأجنبية حكايات وأساطير تلامست مع قصة الخضر، مثل جلجامش، وأزوريس، والإمام الغائب، وجورجيوس.. وغيرهم.

يقول د. أبو الفضل فى كتابه إن الخضر شغل الناس بصور أخضاره المتعددة عبر الأمكنة والأزمنة، ومايزال يشغل إبداعهم وتفكيرهم، بل إنه تحول إلى مزارات مجسمة فى كل من سوريا ولبنان وتركيا وغيرها من البلدان الإسلامية.

بل إنه تحول إلى ملهم للشعراء فى عصور مختلفة، فهذا قيس المجنون يذكره فى شعره:

وتزعــــم ليلــى أننــى لا أحبهــــــا بلــى والليالى العشر والشفع والوتر

بلى والذى نجى مــن الجـب يوسف وأرسل داوود وأوحى إلــــى الخضــر

لقد صال وجال د. أبو الفضل بالخضر مع المستشرقين والإسكندر وشيوخ الإسلام، والرواة، والشعراء، والصوفية، والسير الشعبية.. لقد تحول الخضر إلى «الحارس» و«المنقذ» والمرشد لدى الكثيرين، فصيادو الهند يعتبرونه «الحارس ضد أخطار الملاحة»!

نعم.. إنه الخضر.. وما أدراك بالخضر!

أضف تعليق

وكلاء الخراب

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
تسوق مع جوميا

الاكثر قراءة

إعلان آراك 2