حظ العبد من النعمة على قدر حظه من الهداية، وحظه منها على قدر حظه من الرحمة، مصداقا لقول الله تعالى : {اهدنا الصراط المستقيم} يتضمن بيان أن العبد لا سبيل له إلى سعادته إلا باستقامته على الصراط المستقيم، وأنه لا سبيل له إلى الاستقامة على الصراط إلا بهدايته. وقوله: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} يتضمن بيان طرفي الانحراف عن الصراط المستقيم، وأن الانحراف إلى أحد الطرفين انحراف إلى الضلال الذي هو فساد العلم والاعتقاد، والانحراف إلى الطريق الآخر انحراف إلى الغضب الذي سببه فساد القصد والعمل. فأول السورة رحمة وأوسطها هداية وآخرها نعمة.
قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب "وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" فالذي نظن في ذلك - والله أعلم - أن هذا خطاب لقوم قد علم الله سبحانه أنهم لا يفارقون دينهم بل يموتون على الإسلام، وأنهم قد يفارقون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب، ولكن لا يتركهم سبحانه مصرِّين عليها، بل يوفقهم لتوبة نصوح، واستغفار وحسنات تمحو أثر ذلك، ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم؛ لأنه قد تحقق ذلك فيهم وأنهم مغفور لهم.
.. من صفات أهل الجنة : {وجاء بقلب منيب} (الآية: 33 من سورة ق.)، قال ابن عباس: راجع عن معاصي الله مقبل على طاعة الله. وحقيقة الإنابة: عكوف القلب على طاعة الله ومحبته والإقبال عليه. ثم ذكر سبحانه جزاء من قامت به هذه الأوصاف بقوله: {ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود . لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد}
ومن صفات أهل الجنة : {من خشي الرحمن بالغيب} (الآية: 33 من سورة ق.)، يتضمن الإقرار بوجوده وربوبيته وقدرته،وعلمه واطلاعه على تفاصيل أحوال العبد، ويتضمن الإقرار بكتبه ورسله وأمره ونهيه، ويتضمن الإقرار بوعده ووعيده ولقائه، فلا تصح خشية الرحمن بالغيب إلا بعد هذا كله.
من صفات أهل الجنه : اواب حفيظ لما كانت النفس لها قوتان: قوة الطلب وقوة الإمساك، كان الأواب مستعملاً لقوة الطلب في رجوعه إلى الله ومرضاته وطاعته، والحفيظ مستعملاً لقوة الحفظ في الإمساك عن معاصيه ونواهيه، فالحفيظ: الممسك نفسه عما حرم عليه، والأواب: المقبل على الله بطاعته.
قال عبيد بن عمير: الأواب: الذي يتذكر ذنوبه ثم يستغفر منها، وقال مجاهد: هو الذي إذا ذكر ذنبه استغفر منه. وقال سعيد بن المسيب: هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب.
المراد بقوله: "نحن" فى قوله تعالى " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد "أي ملائكتنا، كما قال: { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} (الآية 18 من سورة القيامة.)، أي إذا قرأه عليك رسولنا جبريل قال: ويدل عليه قوله: { إذ يتلقى المتلقيان} (الآية: 17 من سورة ق.) وقد قيّد القرب المذكور بتلقي الملكين فلا حجة في الآية لحلولي ولا معطل.
إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه ، وألق سمعك ، واحضر حضور من يخاطبه به، من تكلم به سبحانه منه إليه، فإنه خطاب، منه لك، على لسان رسوله .
وأخيرا وليس آخرا، فأن من تحقق بمعاني الفاتحة علماً ومعرفة وعملاً وحالاً فقد فاز من كماله بأوفر نصيب، وصارت عبوديته عبودية الخاصة الذين ارتفعت درجتهم عن عوام المتعبدين، والله المستعان.