قال الدكتور نظير عيّاد، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية إن الحضارة الإسلامية التي انطلقت من تعاليم الدين الإسلامي، مثّلت أرقى حالات التسامح والتعايش الإيجابي بين الأمم و الشعوب من مختلف الحضارات والثقافات والأديان والأجناس، فالدين الإسلامي في مجمل أحكامه وتشريعاته دين وسطي يدعو إلى التسامح والاحترام المتبادل بين الأديان الذي يؤدي إلى زرع الحب والاحترام في قلوب الناس جميعًا، مما يحقق الوحدة بين أبناء الوطن الواحد.
وأضاف عيّاد في تصريحات صحفية ، أن الإسلام رسم أسس الحياة في المجتمع بأسره، فأزال الفوارق بين الطبقات والطوائف فجعل مقياس التفاضل هو العمل الصالح، وقوم الحياة الاقتصادية فحرم جميع أشكال المعاملات الجائرة والظالمة، وأهتم بالجوانب العقلية وحث على إعمال العقل من خلال التفكر والتدبر، ولم يقف عند هذا الحد، بل تجاوز الاهتمام إلى تنظيم الحياة الاجتماعية وتقوية الترابط الاجتماعي والشعور بالانتماء، حتى تستقيم وتنتظم أحوال المجتمع.
وأوضح الأمين العام أن مظاهر التسامح في الحضارة الإسلامية كثيرة منها: الاعتراف بالحرية للآخرين، ولا سيما الحريّة الدينية، والتزام العدل مع الجميع حتى مع المخالفين، حيث بني الإسلام علاقة متوازنة بين المسلمين وغيرهم من حيث الحقوق والواجبات، المحافظة على الدماء والأموال والأعراض، التزام التسامح في الدعوة إلى الله عز وجل، والمساواة بين الجميع.
كما عرض عيّاد عددًا من الأمثلة والشواهد الدالة على تسامح الحضارة الإسلامية على مر التاريخ، بالإضافة إلى شهادات كبار كتاب الغرب ومفكريه الدالة على سماحة الحضارة الإسلامية، مؤكدًا أنه إذا حدث بعض التقصير أو سوء الفهم للتسامح الإسلامي من بعض المسلمين، فلا يمكن أن نحكم على الإسلام بالتشدد أو عدم التسامح من خلال تصرفات بعض المنتسبين إليه، لأن منهج الشرع الشريف واضح في التزام التسامح التيسير والوسطية.
وأوضح الأمين العام أن مبادئ الإسلام وأصوله قائمة على ما يحفظ السلم والسلام العالمي، ويقيم العدل والأمن في العالم أجمع، وبين البشر جميعًا بلا تفرقة أو تمييز، ويوفق بين حاجاتهم وواجباتهم، ويكفل لهم الحقوق الإنسانية التي تحفظ النسل البشري والعقل الإنساني، ومقومات الحياة المادية والاجتماعية.
واختتم عيّاد في تصريحه: " بالتأكيد أن الفكر الوسطي المعاصر المطلوب ينتهي إلى ماجاء به النبي صلى الله عليه وسلم من المنهج الوسط الذي وازن بين الفرد والمجتمع في الحقوق والواجبات بلا إفراط ولا تفريط وأقام على هذا النهج الأمة الوسط التي كانت خير أمة أخرجت للناس.
كيف نقتدي بالنبي في التسامح
ما أكثر الأمثلة التي نستقيها من سيرته العطره لندلل بها على سمة العفو والتسامح، سواء مع بني جلدته، أم مع الآخر. فالمعروف عنه صلى الله عليه وسلم أنه لم يقابل يومًا قط الإساء بإساءة، فحين توجه إلى ثقيف بالطائف ليدعوهم إلى الإسلام، سلطوا عليه أطفالهم وعبيدهم ليقذفوه بالحصى حتى سالت الدماء الشريفة من وجهه. وهنا-وهو في طريق عودته إلى مكة المكرمة-قال له جبريل عليه السلام: "لو شئت أطبقت عليهم الأخشبين"؛ والأخشبين هنا جبلين عظيمين يقعان بين الطائف ومكة. غير أن محمدًا(عليه الصلاة والسلام) أبى، وجاء رده نموذجًا للعفو والتسامح، قائلًا له: "أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئًا."
وفي المدينة وقعت حادثة كادت أن تودي بحياة النبي(صلى الله عليه وسلم)، ومع هذا كان رحيمًا عفوًا متسامحًا مع الجاني؛ حين أحسَن إلى اليهودية التي وضَعت له السمّ في الشاة التي أهدتها إليه، فعفا عنها وغفر لها وصرفها، رغم اعترافها له بمحاولتها قتله.
أمثلة من حياة النبي عن تسامحة
وذات يوم كان يرتدي صلى الله عليه وسلم بُردًا نجرانيًا غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه جبذة، حتى شوهد صفح عنق رسول الله قد أثَّرت بها حاشية البُرد من شدة جذبته، فقال: يا محمد أعطني من مال الله الذي عندك؛ فالتفت إليه، فضحك ثم أمر له بعطاء.
ومن صور التسامح الديني عند النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلم، حين وصل وفد نصارى نجران إلى المدينة لمقابلتة للتعرف على الإسلام، صَحَّ عَنه أَنَّهُ أَنْزَلَ وَفْدَ نَصَارَى نَجْرَانَ فِي مَسْجِدِهِ وَحَانَتْ صَلَاتُهُمْ فَصَلوا فِيهِ. وهنا كانت دعوته الكريمة لهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وليس بالسلطان والقوة، امتثالًا لقوله تعالى:﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾.
أما أعظم صور التسامح فكانت يوم فتح مكة، حينما تملك رسولنا الكريم أمر من آذوه وضيقوا الخناق على أتباعه، واضطروهم للخروج من مكة والهجرة إلى الحبشة ثم يثرب؛ وبرغم ذلك لم يرد الإساءة بإساءة، وخاطب أهلها قائلًا: ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ فردوا عليه: أخ كريم وابن أخ كريم. فقال لهم:"اذهبوا فأنتم الطلقاء"، بل كرم أبا سفيان بن حرب بقوله: "ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، فدخل من فوره الإسلام، وأبلى فيه حتى فقد إحدى عينيه في الحرب لاحقًا.
وهنا نود أن نشير إلى آية قرآنية تشكل عصب التسامح الديني، حين يقول المولى عز وجل:﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَاۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾. وهذه الآية الكريمة-طبقًا لجمهور المفسرين-إنما هي القول الفصل في التسامح الديني مع الآخر، وأن لا تكرهوا أحدًا على الدخول في الإسلام فإنه واضح جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكره أحد على الدخول فيه.
تلك هي سنة الحبيب محمد في العفو والتسامح، ويبقى سؤال: أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ؟ أَغْفِروا يُغفَر لَكُم!