هل تقبل أن تبيع مصر جزءًا من تراثها؟.. أعلم أنك ستقول ما هذا الجنون الذي أتحدث به! فتراث الدول هو علامة من علامات حضارتها الضاربة فى عمق التاريخ، وقوتها الناعمة التي تصل بها إلى العالم.
طالما أنك ترفض.. فماذا لو فرطت مصر فى استغلال ذلك التراث وتركته لإحدى الدول لاستغلاله؟
قد ترد: عم تتحدث؟
هنا أقول لك أتذكر ما حدث عام 2000 وما شهدته الساحة الثقافية المصرية من أكبر فضيحة فى ذلك الوقت لبيع التراث السينمائي والغنائي والتليفزيون، وقفت حينها وزارتا الثقافة والإعلام صامتتين والقوى الناعمة التي تمتلكها مصر تتفلت من تحت يد الدولة.
كنوز من الإبداع فى السينما والدراما والغناء ضاعت دون أن يلتفت لها أحد من المسؤولين رغم تحذيرات عديدة وصرخات مثقفين وفنانين؛ فقد مات المخرج كامل القليوبي كمدًا بسبب ما حدث.
الروائي والأديب الراحل جمال الغيطاني قال فى تصريحات صحفية إبان تلك الأزمة إن هذه الصفقة تشكل «تدميرا لدور مصر الثقافى»، مضيفا «جرى العُرف فى كل بلاد العالم أن يتم منع خروج التراث الفني الذي مضى عليه مدة معينة؛ لأن أي بلد يكتسب مضمونه الثقافى من مقتنياته الفنية، فكيف إذا كانت هذه المقتنيات من إنتاجها»؟
قال الغيطاني «كان من المفروض على وزارة الثقافة أن تقوم بشراء هذه الأفلام، أو أن تسنّ قانونًا يمنع خروجها من مصر، فليس طبيعيًا أن يستولي رجال أعمال على هذا التراث».
وطالب وقتها الناقد طارق الشناوي المؤسسة الإعلامية الحكومية بأن «تعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه؛ وذلك بشراء ثلث إنتاج السينما المصرية المتبقي بعد أن اشترى رجل الأعمال السعودي الراحل الشيخ صالح كامل الثلث، وأصبح الثلث الثاني ملك الأمير الوليد بن طلال».
ولا حياة لمن تنادي.. سدت وزارتا الثقافة والإعلام فى ذلك الوقت أذنيهما عن الحدث الجلل.
فقد بدأت أحداث أضخم عملية بيع للتراث السينمائي والدرامي والتلفزيوني المصري بداية عام 2000 عندما تأسست شركة قابضة برأس مال عربي تخصصت فى شراء النيجاتيف الخاص بالأفلام المصرية التي كانت عقود الحقوق الخاصة بها تقارب على الانتهاء، وبطريقة أو بأخرى تمت استمالة الورثة والحصول
منهم على نيجاتيف تلك الأفلام لعمالقة السينما المصرية، والبعض الآخر تم شراؤه من شركات قطاع عام أو شركات إنتاج فني خاص أعلنت إفلاسها، لتمتلك الشركة 850 نيجاتيف لتراث السينما المصرية، وتحصل على الحقوق الكاملة لتلك الأعمال، ثم تبيعها لشركة روتانا.
وكانت الأخيرة قد سبق أن اشترت العديد من الأعمال من تراث التليفزيون المصري لتمتلك بعد تلك الصفقة أكثر من 3.000 عمل سينمائي مصري يمثل أكثر من 80% من تراث السينما المصرية.
لقد بيعت وسُرِقت آلاف الساعات من الحفلات والأغاني والبرامج التلفزيونية القديمة التي كانت ملكا لماسبيرو، ليشهد عام 2004 تفجير الفضيحة على العلن وفى كافة وسائل الإعلام.
لكن سبق السيف العذل.. وضاع تراث مصر السينمائي فى غفلة من الوزارات المسؤولة وصمت فاسدين تعمدوا تدمير التراث الذي يعد إحدى أدوات القوى الناعمة للدولة المصرية، ومنذ ذلك التاريخ ونحن نشاهد تراثنا السينمائي والدرامي والفني على القنوات المشفرة بعد أن ضاع منا فى غفلة.
إن استرجاع تلك الأحداث ليس من سبيل نكء الجرح أو محاولة استعادة الألم لكنه بمثابة دق لناقوس الخطر خوفًا من ضياع جزء آخر من التراث الثقافى المصري مرة أخرى.
خلال الأشهر القليلة الماضية شهد الوسط الثقافى المصري حدثًا أثار مرة أخرى شكوكًا حول تكرار ما حدث عام 2004، ولكن فى تلك المرة ضياع تراث أديب نوبل من مصر.
لقد استطاع نجيب محفوظ بما قدمه من أعمال أدبية أن يشكل وجدان أجيال عديدة وأن يصنع فكرًا وينير عقولًا ويقدم المجتمع المصري للعالم.
لقد كان وما زال وسيظل نجيب محفوظ هو أحد عناصر القوى الناعمة للدولة المصرية بما قدمه من إنتاج ثقافى أثرى المكتبة المصرية والعربية، وأصبح أول أديب عربي يحصل على جائزة نوبل للثقافة عن روايته أولاد حارتنا.
ذلك العملاق صاحب مدرسة الواقعية الذي ظل منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى 2004 تدور أحداث رواياته فى مصر، وهو أكثر أديب عربي نقلت أعماله إلى السينما والدراما.
كما أن رواياته من أكثر الروايات العربية ترجمة إلى اللغات الأجنبية الأخرى.
الأمر الذي جعل دور النشر تتحين الفرصة للحصول على حقوق النشر لأعمال نجيب محفوظ بعد أن حصلت دار الشروق منذ 10 أبريل عام 2005 وحتى أبريل من العام القادم ولمدة 17 عامًا على حق النشر والتوزيع الورقي والسمعي والبصري والإلكتروني بكل الوسائل المعروفة حاليًا أو المستحدثة مستقبلًا وفى جميع البلاد وجميع الطبعات باللغة العربية بحسب البند الأول من التعاقد.
ومع اقتراب إنهاء العقد بين دار الشروق وأسرة الكاتب الكبير نجيب محفوظ فى أبريل القادم، قامت مؤسسة هنداوي للنشر بالتواصل مع أسرة نجيب محفوظ.
كما فعل ذلك عدد من دور النشر الباحثة عن فرصة الحصول على حقوق النشر لكتب عملاق الأدب العربي.
(كانت شركة فنون عام 2000 تنتظر اقتراب انتهاء حقوق العرض والإذاعة لأي من الأعمال الفنية، وبهدوء شديد تتواصل مع الورثة وتبرم التعاقد الذي لا يتم الإعلان عنه إلا عقب إتمام الصفقة، حتى استطاعت السيطرة على التراث السينمائي وبيعه).
وبالفعل خلال شهر سبتمبر الماضي جرت عمليات التفاوض مع أسرة نجيب محفوظ بعد تقديم العروض من عدد من دور النشر لكريمته أم كلثوم، وتمت الموافقة من الورثة وتوقيع العقد لمنح حقوق النشر الإلكتروني لمؤلفات والدها الأديب الكبير نجيب محفوظ لصالح مؤسسة هنداوي للنشر والترجمة، مقابل 6 ملايين جنيه، على أن يبدأ النشر الإلكتروني لمؤلفات نجيب محفوظ كاملة (58 عنوانًا) على موقع الشركة عقب انتهاء مدة التعاقد مع دار الشروق - أي مايو المقبل.
أثار التعاقد حالة من الجدل فى الوسط الثقافى، خاصة أن الشركة التي دفعت 6 ملايين جنيه مقابل الحصول على حق النشر الإلكتروني ستطرح كتب وروايات نجيب محفوظ بالمجان على المنصة الرقمية الخاصة بها.
مؤسسة هنداوي للنشر والترجمة مسجلة فى بريطانيا، وتتخذ من لندن مقرًا لها، كمؤسسة غير هادفة للربح، وبحكم كونها مؤسسة غير هادفة للربح فهي تتمتع بمزايا خاصة منها الإعفاء من الضرائب والجمارك.
فى عام 1997، بالتحديد فى بريطانيا، أسس أحمد هنداوي وزوجته نجوى عبد المطلب مؤسسة هنداوي، كإحدى دور نشر المجلات مفتوحة المصدر بالكامل على مستوى العالم، وخلال سنوات عملها نشرت أكثر من 200 مجلة علمية عبر منصتها فينوم.
نجحت خلال سنوات عملها فى تحقيق مكاسب وانتشار كبيرين، وأوجدت لنفسها موقعًا جيدًا بين دور النشر العالمية، حيث حققت مؤسسة هنداوي إيرادات نمو قدره 50% على أساس سنوي فى العام المالي المنتهي فى 31 ديسمبر 2020، بما يقدر بنحو 40 مليون دولار أى ما يوازي 640 مليون جنيه.
لكن بعد انتهاء صفقة حقوق النشر الإلكتروني بدأ التحرك لإبرام صفقة النشر الورقي لمؤلفات نجيب محفوظ خاصة مع اقتراب انتهاء عقد دار الشروق.
وبدأ التفاوض مع أكثر من ناشر من بينهم دار الشروق والمصرية اللبنانية التي خرجت من التفاوض بعد أن وصل المبلغ من قبل دار الشروق إلى رقم تحفظت عليه المصرية اللبنانية، ومن المتوقع أن يدخل السباق أحد الناشرين العرب.
المثير للجدل هنا أن وزارة الثقافة التي تمتلك أكثر من قطاع وهيئة تعمل فى مجال النشر لم تكلف نفسها أن تقوم بالدخول فى تلك المفاوضات، بل ولم تبحث عن صيغة قانونية للحفاظ على التراث الثقافى ل نجيب محفوظ داخل مصر.
وكأن مؤلفات نجيب محفوظ التي مازالت تشهد رواجًا كبيرًا فى الأسواق وإحدى دعائم الثقافة المصرية خارج حسابات الهيئة العامة للكتاب أو الهيئة العامة لقصور الثقافة.
لنجد الهيئة المصرية العامة للكتاب بدلًا من أن تبحث عن مثل تلك التعاقدات وتدخل فى تلك الصفقة للحفاظ على التراث الثقافى تتركها لدور النشر الخاصة والعربية أو الأجنبية، لتتفرغ هي لنشر عدد من كتب عناصر جماعة الإخوان مثل أحمد عرفات القاضي صاحب كتاب تجديد الخطاب الديني وإبراهيم البيومي غانم، صاحب كتاب أوقاف أسرة محمد على باشا.
المشكلة الأكبر أن مؤسسة هنداوي أعلنت أنها تبحث فى الفترة القادمة الحصول على حقوق نشر مؤلفات توفيق الحكيم، ولم تنتبه هيئات وزارة الثقافة لهذا الأمر، وكأن تراث مصر الثقافى لا يقع ضمن اهتماماتها ولم تحرك ساكنًا أيضًا وكأننا نعيد ما حدث عام 2004 ليتفلت تراثنا الثقافى من بين أيدينا وسط صمت من لا ينبغي لهم أن يقفوا مكتوفى الأيدي.