سعدتُ كثيرًا بتلبية الدعوة التي وجهها لي مجمع اللغة العربية بالقاهرة، برئاسة الشيخ الجليل الدكتور حسن الشافعي، لحضور الندوة الثانية ضمن نشاطه الثقافي لهذا العام، بعنوان «طه حسين .. ما له وما عليه». والحقيقة، وقبل التعرض لتفاصيل الندوة وما قيل فيها، فإنني لا أتحفظ في إعلان أن المجمع الآن يشهد نشاطًا ملحوظًا من خلال الميديا الحديثة ووسائط الاتصالات المعاصرة، لممارسة دوره الحقيقي في إشاعة الوعي اللغوي السليم، وتجديد دماء ثقافتنا اللغوية عامة التي يجب أن تصبح كالماء والهواء، وهو ما نتمناه.
لقد بدا لي أن المجمعَ يتحرك حركةً نشطة محمودة، خاصة في السنوات الأخيرة، وهي حركةٌ جادة وحقيقية لتغيير الصورة الذهنية القارة في وجدان معظم عشاق لغة الضاد بأن المجمع وأهله -وكلهم على العين والرأس- من سكان الأبراج العاجية! وليس في هذا انتقاصٌ من شأن أحد، ولا من قيمته، بل إشارة إلى أدوار كان يجب أن تُمارس ومهارات وآليات كان يجب أن يتسلح بها ويكتسبها مواكبة للتطورات المذهلة في الدنيا كلها؛ من حيث التواصل والانتشار والتفاعل مع الجمهور الحقيقي المستهدف من نشاطه، وليس مجرد فئات محدودة بعينها؛ فإذا لم يكن جمهورك يعيرك اهتمامه فابحث عن الأسباب، واذهب أنت إليه، وأعره اهتمامك وسيأتيك إذا شعر بأنك جاد وتعمل بإخلاص ودأب على الوصول إليه والتفاعل معه، والأخذ بمهارات العصر وآلياته واكتساب إيقاعه وسرعاته.
ولعل الصفحة الرسمية لمجمع اللغة العربية على "فيسبوك" خير شاهد على ما أقول، وقياس بسيط لعدد رواد الصفحة منذ إنشائها وعدد روادها الآن يدلك أكثر على ما أقصد.
لا بد من الاعتراف بأن هذه المرة الأولى التي أحضر فيها فعالية ثقافية عامة في مجمع اللغة العربية، وأخرج منها وأنا حريص على أن أتابع ما يستجد من أنشطة وفعاليات بغض النظر عن بعض الأمور هنا أو هناك.
الندوة التي أدارها الدكتور محمد شفيع الدين السيد، وحاضر فيها الدكتور صلاح فضل، والدكتور محمود الربيعي، كانت بعنوان «طه حسين ما له وما عليه»، وفي الحقيقة، فإنني توجستُ بعض الشيء من صياغة العنوان بهذه الحدية والقطعية، واستدعاء الثنائيات القديمة "المحاسن والعيوب"، و"المزايا والمثالب أو المآخذ"، "القوة والضعف"، "الإفراط والتفريط".. إلخ.
ففي ظني أن منهج التعامل بهذه الثنائيات في تحليل الظواهر قد تم تجاوزه بما اغتنت به العلوم الإنسانية من مناهج تحليلية معاصرة، وإجراءات عملية منضبطة، وآليات تم اختبارها والتأكد من سلامتها في تحليل النصوص والظواهر والموضوعات. وعلى هذا وجدتني مُتوجسًا بعض الشيء من هذه الصياغة، فليس طه حسين -ولا منجزه الأهم والأكبر والأكثر تأثيرًا في ثقافتنا الحديثة- بالذي يتم اختزاله في ثنائية "ما له .. وما عليه"، بل أتصور أنه كان يمكن الإشارة إلى رؤية كلية تعنى بتحليل جوانب من المشروع والآراء والتصورات ومناقشتها مناقشة علمية وفق رؤية كلية وشاملة.
وحينما تحدث الدكتور صلاح فضل، ولمدة أربعين دقيقة، وجدتني مستمتعًا غاية الاستمتاع بأداء أكثر من رائع، رائع، أفكار مرتبة، مترابطة، وصياغة لغوية بديعة، وارتجال أقل ما يوصف به بأنه ارتجال كالغناء، يطرب ويمتع، لقد أدى الدكتور فضل واحدة من أفضل وأمتع محاضراته على الإطلاق فيما سمعت له. تعرض لتحليل ما أسماه بـ "أسطورة طه حسين"، محللا جوانب العبقرية وعظمة المجهود، وإشارات بارعة إلى وجوه طه حسين المتعددة في إنجازه الضخم:
طه حسين من الأزهر إلى الجامعة، وطه حسين دارس الأدب العربي الذي ألقى في المياه الراكدة حجرًا ضخمًا حرّك ساكنًا وأثار ما أثار حتى اللحظة، وطه حسين المبدع، وطه حسين المحدِّث (صاحب حديث الأربعاء وجنة الشوك وأحد رواد هذا اللون من الكتابة الأدبية الناقدة)، وطه حسين المؤرخ وصاحب الإسلاميات، وطه حسين الناقد، وأخيرًا طه حسين المفكر التنويري الأكبر في ثقافتنا الحديثة بامتياز.
ثم تحدث الدكتور محمود الربيعي، عن ما اعتبره مآخذ على طه حسين، ومن البداية وضح أن الدكتور الربيعي لا ينقد ولا يحلل إنما يخلص ثأرا أو ينفس عن مشاعر غاية في السلبية ظلت مكتومة لمدة أربعة وأربعين عاما (منذ وفاة طه حسين في عام 1973)، على الأقل هذا ما شعرت به وهو يتحدث بجهامة وجفاف ويكتم -أو هذا ما بدا لي- غضبة مضرية عنيفة ضد الرجل وما يتصل به.
ساءني أن نائب رئيس المجمع تحدث عن رئيسٍ راحلٍ للمجمع الذي شهد ازدهاره ومجده ووصل إلى الذروة بين المجامع اللغوية المختلفة بهذه الطريقة التي رأيتُ فيها إساءة أكثر من مناقشة، واتهامًا ومحاكمة وعصفًا أكثر من رد على رأي أو تحليل لرأي، ومن عرضٍ لنصٍ في سياقه إلى ابتسارٍ واجتزاء من سياقات مع إلغاء عنصري الزمن والتطور.
أقول لقد ساءني أن يجدد الدكتور الربيعي الثارات المدفونة والاشتجارات المفتعلة بين قيمة طه حسين وتاريخه وبين الأزهريين والدرعميين، بل إنه أدخلَ معهم -بالمرة- المجمعيين أيضًا! لم أكن أنتظر من الدكتور الربيعي، وهو الناقد العالم الجليل صاحب الكتب التي تعلمتُ منها -وما زلت- وصاحب واحد من أفضل الدراسات التي تعرضت لتحليل روايات نجيب محفوظ، وهو أستاذ الأدب العربي بالجامعة الأمريكية، والحاصل على الدكتوراه من بريطانيا أن يقول إن طه حسين قد تجاوز الحد وتجاوز الخطوط الحمراء في عمله البحثي! أيُّ خطوط حمراء في الفكر والأدب والثقافة؟!
وأي ثقة مطلقة أولاها طه حسين لعمل المستشرقين وقد كان هو بذاته أستاذًا لجيل من المستشرقين تعلموا منه وأفادوا أيما إفادة مع الاعتراف بقيمة وأثر أساتذته من المستشرقين الكبار، وعلى رأسهم في الأدب العربي، مثلا، "كارلو ناللينو" الذي تشهد كتبه ومحاضراته بالعربية بأنه كان عالما جليلا ضليعا في علوم اللغة العربية وآدابها حقًا!
ثم يستشهد الدكتور الربيعي على عداء طه حسين للأزهريين بنصوص قديمة ليدلل على تحامل طه حسين على الأزهر والأزهريين وهو منهم! والحقيقة أن هذه المسألة قتلت نقاشا وجدلا وانتهت ولم يعد لها من موقعٍ فيما بقي من إنجاز طه حسين ولا قيمته التي ينبغي تجديد النظر فيها والإشارة إليها والعمل على تطويرها، فيما أظن أن هذا أحد المداخل الصحيحة لقراءة طه حسين.
ثم تحدث الدكتور الربيعي معترضًا ومستاءً ممن قال إن الزمن لم يجُد بمثل طه حسين ولن يجود بمثله مبديا غضبه الشديد من مثل هذا القول رافضا إياه (أو كما نقول بالبلدي ما له يعني طه حسين! واحد زي غيره.. ماشي!)
يا سيدي الكريم نتمنى أن يجود بمثله الزمان عشرَ مرات! وأن يكون هناك من هو أحسن وأفضل من طه حسين عشرات المرات.. يا سلام! نتمنى! لكن حتى الآن لم يجد بمثله الزمان شئنا أم أبينا، ودعني أسألك: دُلني على واحدٍ من دارسي الأدب العربي والثقافة العربية واللغة العربية والآداب الأوروبية الحديثة منها والقديمة توافر له فضل بيان على بيان طه حسين، لغةً وأداءً وكتابةً وجهدًا وإنجازًا وأثرًا!! لو دللتني على واحد فقط وأجمع عليه أهل النظر والفكر والتخصص، فأنا مدين لك -أستاذي العزيز- باعتذارٍ على الملأ!
الحقيقة أنني لم أكن أتوقع على الإطلاق أن تشهد هذه الندوة، وعلى لسان نائب رئيس المجمع، كل هذا الغمز واللمز في حق طه حسين، وفي ظني، دون استنادٍ إلى رأي معتبر، وحجة قوية ومتماسكة، ونصٍ دال في سياقه، لا مجرد محاولة للتقليل من شأن الرجل وفتح الباب -مثلما حدث- للخوض في قدراته اللغوية وإخلاصه للغة العربية، وما أداه من خدمات إلى الفكر والثقافة العربية، وهو ما لم ولن يختلف عليه أحد (أحد الحضور بعث سؤالا يقول إنه قرأ نصا للشيخ محمد الغزالي يتهم فيه طه حسين بأنه لم يكن غيورا على اللغة العربية فلماذا يسند إليه رئاسة مجمع اللغة العربية؟!! وجاء رد المنصة بأن نص الشيخ الغزالي ليس أمامهم كي يتحققوا منه ثم يردوا على ما فيه)
أعلم أن مساحة المقال لن تفي بعرض كل ما سجلتُه من ملاحظات وآراء على الندوة المثيرة للجدل، لكنها في النهاية مجرد محاولة لعرض رأي ووجهة نظر في ندوةٍ سعدت بحضورها ولقاء أساتذة أجلاء فضلاء، وعلى شرف اسم كبير وساطع في سماء الثقافة العربية واللغة العربية.. اسمه الدكتور طه حسين، أستاذ الأجيال، وعميد الأدب العربي، ورئيس مجمع اللغة العربية الراحل (الأسبق).