فى مرحلة مبكرة أصبت بحمى شديدة ارتفعت فيها حرارتى جدًا، وخشيت على أمى فأسرعت بإرسال من يستدعى طبيب العائلة – الدكتور إلياس – فكشف على وطمئن أمى وأكد أنها الحصبة ستأخذ دورها وتنتهى، وكتب لى علاجا بسيطا.. على الفور فرشت أمى على الأرض (مرتبة) فى حجرة الجلوس – لم يكن إسمها قد أصبح ليفنج روم – وأرقدتنى عليها وجاءت بإبنى أخى (مسعد ومصطفى) وأضيف إلينا ثالث ننام معا متلاصقين تقريبًا، وذلك لكى تعم الإصابة أطفال البيت – وطفل الجيران – ويكتسبوا حصانة، لأن من يصاب بالحصبة تصبح عنده مناعة ضدها.. وبعد شهور أصبت بارتفا فى الحرارة وورم تحت الفك، وجاء الدكتور إلياس على عجل وقرر أن (المسألة بسيطة) فهو التهاب الغدة النكفية، وفرشت أمى المرتبة مرة ثانية، ونمنا نحن الأربعة عليها – جاء إبن الجيران فور سماعهم بالخبر – وهذا أيضا لأن الإنسان إذا أصيب بهذا المرض يكتسب حصانة طول عمره، وكشفت على عمتى محبوبة بطريقتها الخاصة وقالت إنها (أم اللطام) وأحضرت مرهم أسود لطخت به وجوهنا، وأكدت أن هذا المرهم أحسن من دواء الدكتور.. ومع أن الأطباء قالوا إن الإصابة تعطى حصانة إلا أن الذى حدث أنى أصبت بالتهاب الغدة الدرقية مرة ثانية وأنا فى الثلاثين.
والدكتور إلياس كان أقرب إلى الأسطورة فى نظر كل أفراد العائلة، كانوا يثقون فيه ثقة عمياء، وما يقوله هو القول الفصل، وهو يزورنا كثيرًا فلا يخلو الأمر من مرض واحد فى هذه العائلة الكبيرة كل فترة، ولهذا كان يعرفنا واحدًا واحدًا، ويعرف الحالة الصحية لكل واحد، وعلاجه دائما فيه الشفاء، وبعد كل كشف يجلس ليتناول واجب الضيافة ويعطى لكل واحد النصائح الطبية التى تناسبه.. كنا نستدعيه بالتليفون لأنه لم تكن له عيادة، ولم يكن يذهب إليه المريض، وكان سر الإعجاب به أنه لا يكتب أدوية كثيرة لغيره من الأطباء، ولكنه يكتب دواء واحدًا أو اثنين على ورقة بيضاء من النوتة الصغيرة التى يحملها فى جيبه.
ولم أعرف إلا بعد سنوات أن (الدكتور) إلياس ليس طبيبا بترخيص لمزاولة المهنة، وأنه كان طالبا فى كلية الطب ولم يكمل دراسته، ومن الغريب أن أحدا لم يتقدم ببلاغ أو شكوى ضده سواء من المرضى أو من الصيادلة الذين يصرفون العلاج على ورقة بيضاء يعرفون من صاحبها، ولا حتى من الأطباء فى دمنهور..
...
وظل أبى على عادته بأن يفاجئنا بلا مقدمات بخبر موافقته على زواج واحدة من أخواتى.. وكان واثقا من أنه يعرف كل عائلات دمنهور ويعرف شبابها، ومادام المتقدم من عائلة محترمة وليس فى أخلاقه عيب فليس هناك ما يمنع من إتمام الزواج بسرعة وخير البر عاجله، ولا يهم مسألة الغنى ويكفى أن يكون قادرًا على (فتح بيت) والله يغنى من يشاء من فضله، وهكذا تزوجت أختى سعدية بعد حصولها على شهادة الثانوية النسوية وتعلمت فيها الطبخ والتدبير المنزلى والتطريز، كانت سعدية أجمل فتيات العائلة ولذلك كانوا يسمونها (شامية) وظلت محتفظة بحمالها حتى بعد أن كبرت وصارت جدة، ومن حُسن حظها أنها عاشت حياة زوجية هادئة وأنجبت الصبيان والبنات حتى تزوجوا وأنجبوا فيما عدا واحدا ماتت وهو مايزال طفلا.
كانت مبتسمة ومرحة دائما من نوادرها أنها ذهبت إلى الدكتور نظمى – طبيب العائلة بعد رحيل الدكتور إلياس – تشكو من الصداع فكشف عليها وقال لها: إن ضغطك عالى جدا، ولما رأى انزعاجها قال لها: (الضغط ده عند كل الناس، أنا كمان ضغطى عالى)، حينئذ وقفت وقالت له: (الله.. إذا كنت مش عراف تعلج نفسك هتعالجنى؟) وانصرفت دون أن تنتظر أن يكتب لها العلاج.. وظل الدكتور نظمى يروى هذه الواقعة كلما زاره واحد منا، فتكون نكتة نضحك عليها.
كانت طيبة القلب، تحب كل الناس ولا تحمل كراهية لأحد – مثل أمى – وبيتها مفتوح يلتقى عندها الجميع على دعوات للغداء والعشاء وتعد دائمًا ألذ طعام.. وبعد الطعام يكون تجمعنا فى الفراندة الواسعة مع الشاى وننطلق فى الحديث والحكايات والأخبار إلى الليل فى الصيف، ونستمتع بالمشمس فى نهار الشتاء.
وكانت وفاتها غريبة، لأنها كانت قد فرغت من وداع ضيوفها ومنهم بناتها وأزواجهم وأولادهم، وانتهت من عملها فى ترتيب البيت، واقتربت من كنبه لتجلس فسقطت عليها، وماتت بالسكتة القلبية.. وأشعر أن موت كل واحدة من شقيقاتى وكل واحد من أشقائى طعنة تركت أثرها فى نفسى إلى اليوم.
وبنفس السيناريو المفاجئ أعلن أبى (كتب كتاب رتيبة يوم الجمعة والزفاف بعد شهر)، كان أبى يعتبر أن الشهر كاف جدًا لإعداد كل ما يلزم (العروسة) وكان هذا يحدث فعلا.. ورتيبة هى آخر شقيقة بقيت معنا وهى تكبرنى بسنوات، وكانت بالنسبة لنا أكثر من أخت، فهى تتمتع بروح سمحة وأمومة طبيعية لكل أفراد العائلة، وبعد زواجها كانت أما لكل من يحتاج معونة أو نصيحة، وكنا نثق فى عقلها وتفكيرها ونرى أن رأيها هو الصواب دائما، حتى أبى كان يستشيرها فى بعض الأمور، وتعودت أن أزورها كل يوم جمعة بدعوة من زوجها – وكان رجلا محترما ومتدينا وحكيما أستمتع بالحوار معه – وألتقى بكل أفراد عائلة زوج أختى يدعوهم لهذا اللقاء الأسبوعى وبعد الغداء تنعقد ندوة يتبادلون الرأى حول مسائل دينية، وقد استفدت كثيرا من هذه الحوارات، كما استفدت من الكتب التى كان يحرص زوجها على اقتنائها ويجلدها تجليدا فاخرا، وكلما قرأ كتابا ينقل أسماء المراجع ويشتريها، فكانت لديه مجموعات نادرة من الكتب قرأت معظمها.. وأدت شقيقتى فريضة الحج مع زوجها مرتان، وجعلت عبادتها إعانة المحتاجين من الأقارب والأغراب.
بذلك كانت بيوت العائلة كثيرة – خصوصا عندما انضم إليها بيت أخى أحمد – وكل البيوت كانت مفتوحة والزيارات مفتوحة بدون مواعيد، وكنت أشعر بأن كل بين منها هو بيتى، وأجد فى كل بيت أبا وأما خصوصا بعد أن فقدت أبى وأمى.. ولحظة لا أنساها يوم زفاف أختى رتيبة، كانت العادة حين تخرج الفتاة من بيت أبيها إلى بيت زوجها أن تقبل يد أبيها تعبيرا عن الحب والامتنان، وحين فعلت رتيبة ذلك لاحظت دمعة فى عين أبى.. وكانت هذه هى المرة الوحيدة التى أرى أبى يبكى.
كان بيتنا فى شارع رئيسى فى قلب المدينة على ناصية مكونا من أربعة أدوار والدور الخامس بدون تشطيب كنا نلعب فيه، وفيه حجرة الخبيز فيها فرن كبير وكانون (الكانون عبارة عن بناء قصير جدا من الطوب عليه) ويوقد بالخشب وتوضع فوقه الحلل عندما تريد أمى إعداد طعام (مسبك) له نكهة خاصة تختلف عن الطعام الذى يعد على وابور الجاز، لم يكن البوتاجاز معروفا وكذلك لم يكن معروفا فرن الكهرباء أو الميكروويف، وفى هذا الدور كانت حجرة تربى فيها أمى الطيور، وحجرة أخرى كان أخى عبد الوهاب يربى فيها الحمام وكانت هوايته أن يطلق الحمام فى العصر فتدور أسرابه فى حلقات وتملأ الفضاء إلى أن يرفع أخى علما أبيض فتعود إلى حجرتها، وأحيانا كان يتعرف أخى عن عدد من الحمام الغريب انضم إلى السرب وجاء معه.
كنا نعيش فى الدور الثانى، ويعيش شقيقى الأكبر محمد وأسرته فى الدور الثالث، أما الدور الأول فهو للإيجار، أربع غرف وصالة إيجارها خمسة جنيهات فى الشهر، وعندما تنتهى إقامة مستأجر يعاد دهان الحوائط وإجراء الإصلاحات اللازمة فى الكهرباء والسباكة والأرضيات، ثم نعلق لافتة كبيرة على البلكونة (شقة للإيجار) و(سنية) تطلق البخور فى الشقة جلبا للسكان، وعندما يأتى ساكن لكى (يتفرج) على الشقة نرحب به بحرارة ونقدم له مشروبا – وهو ومن معه – ويدخل كل حجرة، ونسرف فى شرح مزايا الشقة لأن هذه الواجهة شرقية تدخلها الشمس، وهذه الواجهة بحرية يدخلها الهواء.
وفى الدور الأرضى كان محل محمد البردان للأثاث، كان محلا كبيرا له بابان، وإيجاره ثلاثة جنيهات، ومحل ثان يستأجره أحمد القفاص لتأجير وإصلاح العجل وإيجاره جنيهين، ومحل ثالث لمنجد أفرنجى – عم فهمى – إيجاره جنيهين وكان غالبا لا يدفع الإيجار إلا متأخرا عدة شهور ولم يكن أحد يطالبه بالإيجار بعد أن (زهق) والدى من كثرة المماطلة.
كل يوم – قبل الظهر – كان يأتى إلينا مقرئ كفيف يجلس على الكنبة ويشرب القوة وبعدها يطلب اليانسون وسكر كثير ثم يقرأ القرآن حتى موعد الظهر فيصلى ونصلى خلفه، ويتناول الغداء وكانت أمى (تتوصى به) فى اللحم أو الفراخ، وأثناء قراءته كانت أمى تجلس على الكنبة المقابلة وتصغى باهتمام، وكثيرا ما كانت تطلب منه أن يقرأ سورة الرحمن، وكان هذا الشيخ يأتى فى شهر رمضان قبل الإفطار ليقرأ (ربع) وحين ينطلق صوت الآذان من الراديو يقوم لصلاة المغرب ونصلى وراءه، ويتناول إفطاره معنا، ولم يكن يعمل كضيف ولكن يعامل على أنه (مننا) وقد تعودنا أن يكون معنا دائما الطعام من يكون حاضرا فى البيت من الأقارب أو الزوار أو العمال الذين يتصادف وجودهم.
كان شهر رمضان هو موعد أبى لإخراج الزكاة، فيتوافد عليه – فى الشادر – (أصحاب النصيب) وهم معروفون لنا ومنهم من يمتون إلينا بصلة القرابة، أما أمى فلم يكن لها مواعيد للعطاء، فهى تعطى كل من يطرق الباب، وترسلنى إلى بيوت تعرف حالة أصحابها ومعى مبلغا لكل بيت، وكثيرا ما كانت ترسلنى – بعد أن كبرت – ومعى سَبَت فيه طعام، وكان شعار أبى (اللقم تمنع النقم).
وفى هذا الزمن لم يكن النقاب معروفا ولا الحجاب، فكانت الفتيات ومعظم السيدات يخرجن بملابس (نص كم) وبدون غطاء رأس، ولم نسمع أبدا عن حادث تحرش أو اغتصاب، والسيدات كبار السن يضعن الحجاب أو (الطرحة) على الرأس عند الخروج وعند استقبال الغرباء، فى هذا الزمن كان الناس يفهمون الإسلام بدون تعقيدات أو فتاوى توسع دائرة الحرام كما هو الحال اليوم، كان الناس يؤمنون بالله، ويؤدون الفرائض، ويلتزمون بالأخلاق، ولا يعرفون التعصب ولا الحكم على إنسان بالكفر، وكنا نتعامل مع الناس – بل ومع أصدقاءنا – دون أن نسأل عن ديانتهم، وأذكر جيدا (أم أنجيل) جارتنا وأقرب صديقات أمى تزورنا وتزورها أمى وأخواتى، وأذهب إليها فى أى وقت لألعب مع (أنجيل) أو تأتى أنجيل إلينا، وكثيرا ما كانت أمى تعطينى طبقا أو صينية عليها غطاء وأقول لأم أنجيل: ماما بتقولك دوقى عمايلنا، وفى العيد كانت الصينية مليئة بالكعك والغُريبة والمكسرات، وأم أنجيل تفعل ذلك معنا.
وكان أبى يحكى لنا أنه واحد من أول ثلاثة فى دمنهور اشتروا الراديو، وكان عبارة عن دولاب من الخشب فيه زراير وداخله سماعة كبيرة وارتفاعه مثل طولى، وليس فيه إلا إذاعة القاهرة أو إذاعة لندن، وتعددت الإذاعات بعد ذلك بسنوات، وكانت أمى تحرص على موعد إذاعة القرآن وتطرب لقراءة الشيخ محمد رفعت، وكانت سهرة الخميس الأول من كل شهر فى الشتاء مع حفلة أم كلثوم التى تنقلها الإذاعة، ونستعد لها بصينية هريسة، وكميات من اللب والسودانى، ونستمع صامتين ولا نعلق إلا فى الاستراحة، كان عبد الوهاب وأم كلثوم هما الأحب إلى أبى وأمى وانتقل حبهما إلينا.
كذلك كان أبى من أوائل من أدخلوا التليفون فى دمنهور فى (الشادر) وكان التليفون بحجمه الكبير ولونه الأسود والقرص الدائرى على مكتبه، وكان الاتصال يتم بأن ترفع السماعة فيرد عليك موظف السنترال بعد لحظات من وصول الحرارة، فتطلب منه رقم (29) مثلا فيوصلك به، أو يقول لك (الحاج محمود الشامى بيتكلم، اطلبه بعد شويه)، كان موف السنترال يعرف أصحاب التليفونات لأن عددهم محدود، وأحيانا كنت أراه عند أبى، أما إذا أردت مكالمة خارج دمنهور فلابد من الذهاب إلى مبنى السنترال وطلب الرقم (ترنك) ودفع قيمة المكالمة (3 دقائق ومضاعفاتها) وتجرى المكالمة – بعد طول انتظار – فى كابينة فى السنترال أو نطلب تحويلها إلى رقم تليفون، ومن الممكن الاشتراك فى خدمة (الترنك)، وكان أبى مشتركا فى هذه الخدمة، فيقول لموظف السنترال (ادينى رقم كذا إسكندرية ترنك) وينتظر إلى أن تأتيه المكالمة، وأحيانا يطول انتظاره فيعاود الاتصال بموظف السنترال (يا محمود فين إسكندرية؟)، وأحيانا كان يطلب مكالمة الترنك (مستعجل) فتحسب بضعف السعر للدقائق الثلاث الأولى وثلاثة أضعاف بعد ذلك.
كانت الحياة فى البيت منظمة مع أن أبى وإخوتى تجار وليس فيهم موظف (وكان أخى أحمد فى المدرسة الثانوية) إلا أن موعد الغداء كان دائما فى الساعة الثانية ظهرا، نجتمع كلنا على المائدة، وكان هذا بمثابة اجتما عائلة لنقول لأبى بعد الغداء عن طلباتنا ويرد على كل واحد بالقبول أو بالتأجيل، ولا مناقشة للقرار، وينتقل أبى إلى حجرة (الجلوس) ويجلس على الكنبة وتضع أمى (السبرتاية وكنكة القهوة والفناجين) على مائدة صغيرة، وبعد أن يشرب القهوة يعود إلى عمله وتعود أمى والبنات إلى مواصلة أعمال البيت، ويعود إخوتى إلى أعمالهم أو يفضل أحدهم النوم ساعة بعد الغداء.
كان من عدتنا – أنا وابنى شقيقتى مسعد ومصطفى – أن يذهب كل منا إلى أبى فى الشادر، حلف البيت مباشرة، ليأخذ من أبى (المصروف) قرش صاغ (عشرة مليمات)، وكان المليم عمله ويمكننا بمليمين شراء (قرطاس) لب أو سودانى أو شراء مصاصة أو عسلية بمليم واحد أو شيكولاتة بثلاثة أو خمسة مليمات (قرش تعريفه) وهكذا.
وحدث يوما أن ذهب إبن أخى مصطفى إلى أبى وأخذ مصروفه، ثم عاد مرة أخرى على أنه شقيقه التوأم مسعد وأخذ مصروفه، وعندما جاء مسعد استغرب أبى وقال له: (إيه يا ابنى مش انت أخدت) وكانت دهشة مصطفى وهو يقول: لا والله يا جدى)، وضحك أبى وقد أدرك ما حدث، وصارت الحكايات عن التشابه بين الشقيقين تروى فى ساعة (الروقان) لنضحك.. وتكرر ذلك كثيرا، أذكر عندما وصلوا إلى المرحلة الإبتدائية – أن كان أحدهما فى مدرسة دمنهور الأميرية – والثانى فى مدرسة التعاون، وفى يوم رأى أحد المدرسين مصطفى فى الطريق، وحين ذهب إلى المدرسة ودخل الفصل وجد مسعد فأبدى دهشته وصاح فيه (يا ولد أنا شفتك من شويه فى الشارع، إزاى جيت دلوقت؟) وطبعا أحتاج إلى إيضاحات طويلة لكى يعرف الحقيقة.. وكانت هذه حكاية من حكاياتنا.
...
لم نكن نعرف الملابس الجاهزة، وكل ملابسنا – وملابس كل الناس تقريبا – تبدأ بشراء القماش والذهاب به إلى ترزى البدل أو ترزى القمصان والبيجامات، وكذلك نذهب إلى (الجزمجى) صانع الأحذية ليأخذ مقاس القدمين ويفصل الحذاء عل المقاس، وكان الحذاء يعيش طول السنة مع أننا – فى الطفولة – كنا نتعمد (حك) الحذاء بالأرض لكى نستهلكه ونحصل على حذاء جديد، ولكنه كان يتحمل ويستمر بحالة جيدة من العيد إلى العيد، وأذكر أن الحذاء كان بستين قرشا وهذا هو أغلى حذاء حصلت عليه فى فترة الطفولة، ولم يكن لدى أحد منا كل هذه الملابس التى أجدها عند الناس، كان يكفى للرجل بدلتين أو ثلاثة إذا كان صاحب وظيفة مهمة أو كان من أثرياء البلد، وثلاثة أو أربعة قمصان وحذائين واحد أسود والثانى بنى، ولا يفكر فى شراء شىء جديد إلا عندما ينتهى أجل ما عنده.. لم يكن مجتمع دمنهور مجتمع (الفشخرة) والتباهى بالمظاهر، فالناس تعرف قدرك ومكانتك بصرف النظر عن ملابسك.. ولم يكن أحد يفكر فى شراء سيارة، كانت السيارات فى دمنهور محدودة جدا ويسمونها (الأوتومبيل).. كذلك لم نكن نعرف الطعام خارج البيت، وكان الأكل فى مطعم بالنسبة لأبناء العائلات المعروفة يعتبر فضيحة للعائلة.. كانت المطاعم محدودة للغرباء وكذلك كانت الأفران، فالأسر المعروفة لا تأكل (العيش السوقى).. ولا أعرف السر فى حرص الدماهره على أكل السمك مع (الكشرى) وهو فى دمنهور مختلف عن الكشرى المعروف فى القاهرة، فهو مكون من الأرز والعدس الأصفر فقط، وطعمه لذيذ، ومازالت هذه العادة موجودة فى بيوت دمنهور، وأنا أيضا تعودت على ذلك