مراحل تمزيق الدول

يقول أحد المستشرقين: «إذا أردت أن تهدم حضارة أمّة فهناك وسائل ثلاث للوصول إلى هدفك «اهدم الأسرة والتعليم وأسقط القدوات والمرجعيات».

ويقول «بيزمينوف»: «إنّ زمن الحروب العسكرية لإخضاع الدول قد انتهى كأولوية، فالانتصار الآن يتم تحقيقه من خلال عدة مراحل؛ أهمها «إسقاط الأخلاق»، وهى مرحلة تحتاج من 15 إلى 20 سنة، لتدمير منظومة الأخلاق والقيم لدى المجتمع المستهدَف».
من هنا جاء قول أمير الشعراء أحمد شوقي: «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت .. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.»
ولأن قيم المجتمع وأخلاقياته هى جزء لا يتجزأ من هويته كان استهداف هوية المجتمعات أحد نقاط تحرك القوى المعادية.
ولأن المجتمعات التى تمتلك حضارة راسخة تكون أكثر قوة وقدرة على الصمود فى مواجهة تلك الحرب، وضع المُخطط رؤية مختلفة فى التحرك داخل تلك البلدان.
فمنذ تحول الحرب التقليدية إلى معركة ثقافية بعيدًا عن ساحات القتال التقليدية انطلقت مجموعات صياغة استراتيجية التحرك باتجاه البلدان المستهدفة.
فى هذا العدد أحاول كشف بعض مسارات التحرك التى انطلقت من خلالها خطة تدمير المجتمعات من الداخل كخطوة لتدمير الدول.

ما بين تدمير الأخلاق والقيم، تم تقديم صورة مشوهة للأديان على يد جماعات العنف والتطرف بعيدًا عن الصورة الوسطية الصحيحة كأحد تلك المسارات.
وهو ما تحدث عنه الأسبوع الماضى الرئيس عبدالفتاح السيسي خلال افتتاح المنتدى العالمى للتعليم والتعليم العالى والبحث العلمى كاشفًا خطورة ما يواجهه العالم الإسلامى من محاولات ضرب استقرار الدول بالدفع بمفاهيم مغلوطة وتقديمها من خلال جماعات قدمت الإسلام بصورة مغلوطة قائلًا: «نحن فى العالم الإسلامى دخلونا فى متاهات كثيرة بفكر متطرف جاهل يؤدى لاصطدامنا مع الواقع وأصبحنا لا نستطيع التركيز فى تحقيق الاستقرار لمجتمعاتنا لإنجاح الخطط المختلفة».
إنها محاولات هدم الأوطان بغزو الأذهان، وتدمير القيم والأخلاقيات وبعث مفاهيم ومفردات جديدة تستهدف طمس الهوية وتدمير الذوق العام.
فتم استهداف الرموز بتشويه صورهم وهو ما تحدثت عنه من قبل فى مقالات سابقة، وتحول الحديث عن الأخلاق فى المجتمعات إلى أحد أدوات التندر فى المجالس وتبدلت المفردات واختفت كلمات لتظهر بدائل لها كانت فى السابق أحد ألفاظ العيب.


(1)


فى الوقت الذى صمتت فيه المدافع وبدأت معركة الفكر و الثقافة تستهدف هوية المجتمعات لم تتحرك مجموعات العمل باتجاه الدولة المستهدفة قبل أن تكون قد مهدت الطريق لاستقبال القادم وفق منهج مدروس، وبخطوات محسوبة.
إن المجتمعات القوية اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا هى أيضًا قوية ثقافيًا وأكثر حرصًا على الحفاظ على موروثها الثقافى وهويتها وقيمها وأخلاقياتها مما جعلها عصية على تلك المحاولات، الأمر الذى جعلها هدفًا على المدى البعيد، أما الدول التى تتعرض لأحداث هزت كيانها أو أصابتها حالة من الترهل فى مرحلة من مراحلها التاريخية تكون أرضًا خصبة للعمل بها للسيطرة عليها على المدى القريب.
وقد كانت منطقة الشرق الأوسط بشكل عام والمنطقة العربية بشكل خاص أرضًا لتلك التحركات خلال النصف الثانى من القرن العشرين، وبداية القرن الواحد والعشرين.
فاستخدمت الثقافة والفنون لتمرير المشروع، كما انطلق بالتوازى مع تلك التحركات مشروع آخر يتدثر بالدين ليقدم نموذجًا على أنه الطريق الصحيح، وما دونه هو الضلال.
فظهرت جماعات التكفير وجماعات الإسلام السياسى لتقدم نفسها للمجتمع كحامية للفضيلة ومنافحة عن الدين.
والحقيقة أن تلك التحركات لم يكن لها هدف سوى صناعة الفوضى وتدمر الدول من الداخل ليجعلها غير قادرة على المواجهة الخارجية.

وأطلق العنان لسينما المقاولات خلال مراحل أزمات المجتمعات لتقدم نماذج خارج السياق لنقلها للمجتمع تحت دعوى أنها تعبر عن واقع والحقيقة مخالفة لذلك تمامًا.
ودأبت الصحف على تقديم حوادث الإثارة وتصدرت الصفحات الأولى للصحف الصفراء، بدعوى أنها تلبى رغبات القارئ وهى فى الحقيقة، تصنع جيلًا بوعى زائف وفكر شاذ غير مدركين أنهم يصنعون قنابل موقوتة قد تدمر المجتمع فى أى لحظة بعد أن فقدت بوصلتها القيمية والأخلاقية.

ليتسرب من خلال الوسائل الإعلامية نماذج ومفردات جديدة على المجتمع ومجموعة من الأحداث المحبوكة وفق الحبكة الدرامية لتقدم نماذجًا لا تعرف لغة سوى لغة الفساد القيمى والأخلاقى والفساد المالي، بدعوى حرية التعبير وضرورة أن نمنح تلك الحرية مزيدًا من المساحة حتى يكون للإبداع مكانًا فى المجتمع.
فتحول «العيب» إلى جزء من الماضي، وتحولت ألفاظه إلى مجرد مفردات عادية يتناقلها المجتمع وهو لا يدرك أنه يزلزل أركانه ليقذف به باتجاه الهلاك.


(2)


فظهرت مفردات ومصطلحات جديدة من خلال مجموعة من الأغانى التى قُدمت على أنها لون جديد من الغناء.
ذكر العميل السرى السوفييتى «يورى بيزمينوف»، إنّ زمن الحروب العسكرية لإخضاع الدول قد انتهى كأولوية، فالانتصار الآن يتم تحقيقه من خلال أربع مراحل لتمزيق أى بلدٍ، تبدأ بأهم مرحلة، وهى «إسقاط الأخلاق»، وهى مرحلة تحتاج من 15 إلى 20 سنة، لتدمير منظومة الأخلاق والقيم لدى المجتمع المستهدَف؛ لماذا هذه المدة الزمنية تحديدًا؟، لأنها المدة الكافية لتنشئة وتعليم جيل واحد من الصغار على «القيم» البديلة، والأخلاقيات المبتذلة التى يراد ترسيخها فى المجتمع، وتفصيل الرؤية والعقيدة والشخصية المطلوبة، والتى من شأنها نسف المجتمع ومحو هويته بمرور الأيام.

يتحقق هذا الهدف، من خلال تدمير الهوية الدينية، بالإضافة إلى استبدال المؤسسات الدينية المحترمة، بمنظمات وهمية تسهم فى صرف انتباه الناس عن الإيمان الحقيقي، وجذبهم لأنواع العقائد الدخيلة.
تكتمل هذه الخطوة بإفساد التعليم، من خلال صرف الناس عن تعلّم أى شيء بنّاء وواقعى وفعال، والعبث بالنسق الاجتماعي، بخلق منظمات وهمية، تهدف لنزع الإحساس بالمسؤولية لدى المجتمع، وإضعاف الحس الوطنى والولاء للبلد وحكومته، وفى الغالب، يتم ذلك بواسطة دعم رموز إعلامية لم تكن معروفة سابقًا، ولا تحظى بقبول الناس، لكنها وَجَدت دعمًا غير معلوم المصدر، وأصبحت ذات تأثير كبير فى الحياة الاجتماعية، بطريقة تتفق مع من يحرك الخيوط سرًا.
المرحلة الثانية هى «زعزعة الاستقرار»، وتأخذ من سنتين لخمس سنوات، ويتم ذلك بإذكاء النعرات الطائفية والعصبيات فى المجتمع المتماسك لتمزيقه، وتقديم قدوات زائفة، لتسطيح الفكر المجتمعي، ونقل المجتمع من التركيز على المهمات، إلى البحث عن سفاسف الأمور، والجرى وراء الموضة، وفقدان الحس بأهمية احترام الوطن وأُسسه ورموزه.

فى هذه الخطوة، يتم البحث عن الخونة المندسين، عن أصحاب الأجندات المريبة والمطامع الشخصية، عن أتباع العقائد المناقضة والمنافرة لعقيدة البلد، وغير المتعايشة معها، عن عملاء دول معادية، يمكن شراؤهم وتجنيدهم، ثم دعم الجميع بطريقة غير ملحوظة، لجر البلد إلى المرحلة الثالثة، وهى مرحلة الأزمة، التى تستمر من شهرين إلى ستة أشهر، تنتج عنها فوضى سياسية وانفلات أمني، ودخول البلد إلى نفق مظلم أو حرب أهلية تمهد للمرحلة الرابعة بتقديم شخصيات مُلمَّعَة تتصدر المشهد السياسي، وتدين بالولاء للعدو.

ويضيف يورى بيزمينوف: «إن أقوى علاج لهذا السيناريو، يبدأ بإيقاف أخطر خطوة، وهى الأولى «إفساد الأخلاق»، وذلك لا يتم بطرد العملاء الأجانب، أو إضاعة الجهد والوقت والمال للبحث عمّن يحرك خيوط اللعبة، ولكن أنجح حل لإفشال الخطوة الأولى، هو «إعادة المجتمع لقيمه وأخلاقياته وصحيح الدين».


(3)


ففى الوقت الذى تعجب فيه البعض من حالة التردى القيمى التى تسيطر على السوشيال ميديا وما يتداوله مستخدموها فى المنطقة العربية كان ما يسمى بالمهرجانات هو نتاج طبيعى لحالة الانهيار بتلك والكلمات المبتذلة ومحاولة تقديم هذا الهراء على أنه لون جديد من الفن والإبداع، وانطلقت بعض الأقلام لتساعده وهى لا تدرك أنها تقدم وجبة مسمومة للمجتمع، فهو فى الحقيقة محاولة لتدمير هوية المجتمع الثقافية وتقديم تلك النماذج كقدوة مزيفة للأجيال القادمة بحثًا عن الشهرة والمال.
يستوجب كل ذلك منا جميعًا مواجهة تلك الكائنات بالتوقف عن نشر أخبارها أو متابعتها أو الاهتمام بها إعلاميًا، وهو ما قررناه فى مجلة أكتوبر وبوابة دار المعارف، فى محاولة منا لنكون أكثر إيجابية فى الحفاظ على قيم وأخلاقيات المجتمع، ولمساندة الفن الراقى الذى يُثرى الذوق ويحافظ على تقاليد المجتمع وقيمه الراسخة، وهو الدور الحقيقى للإعلام و الثقافة فى بناء المجتمع.


وقد حرصت الدولة المصرية على مواجهة مشروع تدمير الدول أخلاقيًا من خلال دعم التعليم و الثقافة وبناء الوعى خاصة أن ما حدث فى المنطقة خلال العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين، والدفع بها باتجاه الفوضى كان نتاج فترة طويلة من محاولات تدمير القيم والأخلاقيات المجتمعية.


لقد جاء مشروع المجلس الأعلى للإعلام الخاص بوضع ضوابط وأخلاقيات نشر الجريمة كأحد أدوات الدولة لمواجهة تلك المعركة والحفاظ على الدولة التى تمتلك إرثًا ثقافيًا وحضاريًا ولديها بنية قوية قيمية وأخلاقية كانت وراء بناء تلك الحضارة التى حملت مشاعل النور والعلم والمعرفة للدنيا كلها.


إن ما تواجهه الدولة خلال الفترة الأخيرة والمدعوم بشكل كبير من قوى خارجية أشد فتكًا من تلك الجائحة التى ضربت العالم، ما يستوجب علينا جميعًا أن نحصل على اللقاح المضاد لمواجهتها بالحفاظ على تراثنا الثقافى والحضارى والتمسك بالقيم والأخلاقيات.


إن حرية الفكر والإبداع والحرية الشخصية لا تعنى تقديم نماذج تعمل على هدم قيم المجتمع وأخلاقياته بدعوى أنه لون جديد من الفن أو الابداع أو حرية الرأى.

أضف تعليق