يمكن القول بكثير من الاطمئنان إن المسيحيه في بداياتها ولمدة ثلاثة قرون، أي قبل انعقاد مجمع نيقوسيه في العام 325 وفرض الإنجيل بشكله الحالي في تغيير جذري تغلب عليه السياسه أكثر من الدين، قد وجدت في مصر أخصب تربه لتنمو عليها بجوهرها الروحاني بعيدا عن السلطات الدنيويه من آباء وأباطرة !
في المتحف القبطي ، يقف صليب العنخ ( مفتاح الحياة ) دليلا علي أن المصريين وجدوا في المسيحييه امتدادا للحياة وبعثها في ملكوت الرب حين تعبدوا بهذا الرمز المصري الأصيل الذي طالما صور ديمومة الحياه وخلود الروح، فكان تلك المفتاح أقرب إلي جوهر المسيحية من فكرة الصلب علي الشجرة والتضحية الدموية من أجل الخلاص .
ومن المؤكد أن كل الأناجيل الغنوصية التي حرمها الإمبراطورالروماني قسطنطين في مجمعه اكتشفت في صعيد مصر، إنجيل بطرس، إنجيل توماس الذي اكتشف ضمن أوراق نجح حمادي منتصف القرن الماضي، وإنجيل مريم المجدلية.
والغنوصية (مشتقه من كلمة Gnos اليونانيه ومعناها معرفة) المسيحية، وتدعو إلي أن معرفة النفس الحقيقية هي السبيل إلي ملكوت الله، وأن جميع البشر يستحقون ملكوت الرب إذا سلكوا طريق المعرفة وليس طريق آباء الكنائس والمؤسسات وأحكام الأباطرة، قد ازدهرت علي يد المصريين وطالما آمنوا بها.
اعترف المصريون أيضا بفضل مريم المجدلية ، الغانية التي تابت عن الخطايا وأصبحت حوارية تنال بإخلاصها تكريم المسيح وعطفه، بل ويختصها بوصف رحلة الروح بعد الموت في الملكوت كما ذكر في إنجيلها !
وعندما حرمت الأناجيل الغنوصية، وتم فرض أناجيل مرقص ومتي ولوقا ويوحنا، تمسك المصريون بأناجيلهم السرية وتحملوا الاضطهاد، والتعذيب، وكانوا يدفنون بها في مقابرهم.
قبلها كان الكاهن آريوس السكندري، الذي كان ملما بفنون الخطابة، وعالما بالفلسلفة، والفلك قد أسس مذهبا يدعو إلي توحيد الرب وتقديس جوهره بصفته خالق المسيح، وأن المسيح منفصل عن ربه في الجوهر، ومخلوق من العدم كبقية البشر، والفقيه بن حزم يطلق علي الأريوسين أتباع هذا الكاهن صفة الموحدين.
وعلي الرغم من اتهام آريوس بالهرطقة وحرمانه هو أتباعه علي يد مجمع نيقوسيه، إلا أن هذا المذهب استمر في الانتشار داخل مصر وخارجها، ومن الممكن اعتبار أن جماعة شهود يهوه التي تأسست في القرن التاسع عشر ويبلغ عدد اتباعها حاليا ثمانية ملايين عضو ، هي امتداد للمذهب الآريوسي القديم، فهم لا يتعبدون بالصليب، ولا يؤمنون بالثالوث.
بعد أن اصطبغت المسيحية بالصبغة الرومانية وخضعت لسلطة الأباطرة، ومصالح وصراعات البابوات والولاة وبعد سريان أحكام وعقوبات مجمع نيقوسيه في القرن الرابع الميلادي، انتشر التطرف وعمت الفتن بين اصحاب الأديان والطوائف المختلفه حتي أن الرهبان اصطفوا مسلحين في مواجهة أصحاب الأديان الأخري، وسموا أنفسهم جيش الكنيسة !، لتقع هيباتيا الفيلسوفة وعالمة الرياضيات السكندرية ضحية الهمج اتباع البابا كيرولس عمود الدين، الذين جردوها من ملابسها وسحلوها في الشوارع لينهوا بجريمتهم عصرا من التسامح الديني وازدهار العلم والفلسفة في الأسكندرية عاصمة العالم الثقافيه آنذاك.