كان بيتنا في وسط البلد بشارع محمود فهمى النقراشي، وكان الشارع كله، بل الحى كله يعرفنا، لذلك لم يكن مسموحا لي بالخروج – فى طفولتى المبكرة – إلا بالذهاب إلى أم أنجيل فى المنزل المقابل لألعب مع أنجيل التى كانت في مثل سني، وكانت أمي تحب أم أنجيل ويتبادلان الزيارات وتطول أحاديثهم، وكثيرًا ما كانت أمي تعطينى صينية عليها أطباق تغطيها بفوطة لأذهب بها إلى أم أنجيل، وتكون عليها أكلة ترى أمي أنها (طلعت حلوة)، وفى الأعياد كنت أحمل الصينية وعليها الكعك والغريبة والبندق والحلويات، وفى أعياد أم أنجيل كانت أنجيل تحمل إلينا أيضا صينية عليها أكلات من صُنع أم أنجيل، وكنا نحب أكلها وتقول أمي دائما إن لها (نفس في الطبيخ)، وكانت أم أنجيل تساعد أمي فى عمل الكعك قبل العيد، وفى الإعداد لعزومة ينشغل بها كل من في البيت..
وأمام بيتنا أيضا كان يسكن الأستاذ مصطفى مدرس أول اللغة العربية فى مدرسة عمر مكرم الثانوية بملابسه الأزهرية ومشيته الوقورة، ولم تكن زوجته تظهر فى البلكونة وكذلك كان من النادر أن نرى ابنته وكانت سمينة، ولا نراهما إلا عندما يخرجون جميعا – يتقدمهم الأستاذ مصطفى – ويركبون الحنطور الذى يقف أمام البيت فى انتظارهم حتى لا يقفوا فى الشارع ولو لحظة، وكل ما كان بيننا وبين الأستاذ مصطفى هو أن نقول أو يقول لنا «السلام عليكم» عندما نلتقي وجها لوجه فى الشارع، ولم يكن يزورهم إلا أهلهم من الأرياف فيقضوا عندهم يوما أو يومين يعود بيتهم بعدها إلى العزلة والهدوء.. وكانت هذه الأسرة تغيب عدة أسابيع فى الإجازة الصيفية، ولم تكن لها علاقة مع أحد فى الحي.
وتحت هذا البيت وكالة عم سعد شيبه للخضر والفاكهة، كنا نتسلى بالوقوف فى البلكونة لمتابعة سيارات النقل الكبيرة المحملة بالخضر والفاكهة وأحد عمال عم سعد يقف فوقها رافعا يده بنوع الفاكهة ويتجمع الباعة حول السيارة، وفى موسم البطيخ يكسر بطيخة ويعرضها على الباعة ويصيح إعلانا بفتح المزاد، وفى النهاية يحمل كل بائع على عربة ما ناله فى المزاد، وكان عم سعد يرسل إلينا كل يوم (قفص) فاكهة، وكان القفص يزن أربعين أقة (لم يكن الكيلو معروفا فى هذا الزمن، والأقة تساوى كيلو وربع ولم نعرف الكيلو إلا فى الخمسينات من القرن العشرين)، وكان ما فى (القفص) يتلاشى ساعة بعد ساعة.. أم سيد التي تأتي كل يوم لتساعد أمي فى شغل البيت وتغادر قبل المغرب وهى تحمل عيش وحلة طبيخ وفاكهة لعشائها هي وزوجها وأولادها، وكثيرا ما كانت لدينا (أم محمود) تأتي لتقضى اليوم، وكانت الوحيدة التي تضع على وجهها (اليشمك) وهو يغطى الوجه فيما عدا العينين وعلى الأنف مستطيل من النحاس لا أعرف ماذا يعنى، وعندما تنتهى الزيارة تحمل هي الأخرى نصيبا مما عندنا، وطبعا كنا نجتهد أنا وأبناء أخي فى القضاء على جانب كبير مما فى القفص، وفى آخر النهار لا يتبقى إلا ما يقدم بعد العشاء، ولم يكن عم سعد يأخذ ثمن ما يرسله فورا ولكنه يأخذ (حسابه) كل عدة أيام حين يمر عليه أبي..
والبيت التالي كان للحاج طه اللقاتى، وهو تاجر كبير غني، كان يؤدي فريضة الحج كثيرا مع زوجته، ولم يكن لديهما أولاد، يخرج فى الصباح فى موعده بالضبط ونشاهد زوجته تنظر إليه من البلكونة، وكانت بلكونة مميزة لأنها مغلقة وفيها المشربيات، وكذلك كانت عودته فى المساء فى نفس الموعد كل يوم وزوجته تنتظره وهي تطل من المشربية، ويأتى دائما وهو يحمل فى كل يد كيس كبير من الورق، عرفنا أن أحدهما فيه فاكهة، والثانى فيه أوراقا مالية كان البعض يهمس أنها من فئة المائة جنيه، وكانت الورقة بمائة جنيه شيئا نادرا وقيمتها كبيرة جدا فى زمن كانت فيه العملات السائدة هى المليم، والقرش تعريفة (خمس مليمات) والقرش صاغ (عشرة مليمات) وخمسة قروش وعشرة قروش وريال (عشرين قرشا) وكلها من المعدن، أما الريال فكان من الفضة الخالصة وعليها اسم السلطان حسين كامل بعد سنوات وصل سعرها مائتى جنيه وظل يتصاعد، أما الجنيه الورق فهو شىء كبير يمكن شراء أشياء كثيرة به.. كان مرتب أخى السيد فى أول تعيينه معاون زراعة (قد الدنيا) أربعة جنيهات، وعندما تزوج كان مرتبه قد وصل إلى عشرة جنيهات.
فى البيت الملاحق لنا عائلة الغول، كانوا على صلة طيبة بنا، وكانت الابنة الكبرى (حكمت) مُدرّسة وكنت أذهب إليها عندما دخلت مدرسة رياض الأطفال لتشرح لى الدروس مجاملة بدون أجر، لا هى فكرت ولا نحن فكرنا فى أن تكون هذه المساعدة بفلوس، لم يكن زمن الدروس الخصوصية قد بدأ ولم يكن النهم للفلوس سائدا بعد، كان الأجر الذى يحصل عليه المدرس مقابل جهده الإضافى هو أن يتفوق التلميذ وخلاص، وكانت أمهم قريبة الشبه بأمى ولذلك كنت أحبها وهى تبتسم لى دائما.
وفى الناحية الأخرى على الناصية كان مصنع حلويات وعسلية، وكان ابن صاحب المحل فى مثل سني وأحيانا يأتي إلينا ليلعب معنا، ولهذا كان الرجل يكرمني حين أذهب إليه لأشتري العسلية بمليمين أو ثلاثة.. وبعده كان بيت الحاج محمود الغزالي تاجر معروف يملك ورشة كبيرة لصناعة الجلود وورشة لصناعة الأحذية والشباشب، وربما يتاجر فى صفقات أخرى، وكان يهتم جدا بملابسه الفاخرة، كما كان ابنه الأكبر يبالغ فى التأنق ويسير بهدوء وكبرياء ويلف سلسلة بأصابعه ولا يتحدث مع أحد ولا يلقي السلام على أصحاب المحلات، كما يفعل سكان الحي.. وكانت للحاج محمود ثلاث فتيات، الكبرى متزوجة ولديها ولد، والثانية فى سن شقيقتى (سعدية) وبينهما صداقة ويتبادلان الزيارات عندما تخلو البيوت من الرجال، والثالثة كانت تلميذة فى مثل سني وكانت تأتي مع أختها ونجلس معا لنتبادل القصص والحكايات لأنها كانت مهتمة بالقراءة وتشترى الكثير من القصص وتهتم بكتب (الإتيكيت) الذى لم أكن أعرف عنه شيئا.
كان الحي أشبه بعائلة واحدة، وكان بيت الحاج لطفى أبو شعره قريبا منا وابنه الأصغر (سمير) هو أقرب أصدقائي، كانت أمه تتلقانى بترحيب وكأنى ابنها وكذلك كانت تفعل أمي معه، ونأكل فى بيتي أو بيته وننام أيضا ونتحرك على راحتنا.
وجاء وقت انشغلت الأسرة بقصة شقيقه الأكبر (فوزى) الذى كان فى السنة النهائية فى كلية الزراعة بالإسكندرية، ونشأت علاقة حب بينه وبين فتاة من الجيران كان والدها طبيب أسنان معروفا، وبدأت المشكلة حين تقدم عريس إليها وافق عليه والدها وارتبط معه بموعد عقد القران، وعندما حاولت الفتاة التملص أصر والدها على أن هذا العريس (لقطة) ولكن العاطفة غلبت، فاعترفت لوالدها بحقيقة حبها وانتظارها حتى يتخرج فوزي ويتزوجان، فرفض والدها ورأى أن مصلحة ابنته فى الزواج من شاب مستقر ماديا وفى المستوى المناسب لمستواه، وفى يوم اختفت الفتاة وهربت مع فوزي وذهبا إلى الإسكندرية وتزوجا هناك، ولأن فوزى لم يكن له بيت فى الإسكندرية، وكان يسافر كل يوم بالقطار كما يفعل معظم الطلبة من أبناء دمنهور (والمسافة يقطعها القطار فى أربعين دقيقة) مما كان يجعل تنقل أبناء دمنهور بين دمنهور والإسكندرية سهلا)، أقام فوزى وزوجته عند صديق له، زميله فى الكلية، كان مغتربا ويسكن وحده، وقامت القيامة وانشغل الناس فى دمنهور بهذه القصة، وأقسم الأب على أن يقتل (الولد المجرم) الذى خطف ابنته ليثأر لكرامته واسمه، وقدم بلاغا للنيابة ولكنها وجدت أن الأمر لم يكن اختطافا بعد اعتراف ابنته بأنها تزوجت بإرادتها وأنها وصلت إلى السن الذى يعطيها القانون الحق فى الاختيار ولم تفلح محاولات وسطاء الخير فى التوصل إلى حل إلى أن تَخرّج فوزى والتحق بوظيفة فى بنك الإسكندرية واستمرت القطيعة ولكن بدون مشاحنات بعد أن هدأت ثورة الأب وعاد إلى دمنهور بعد أن أنجب طفلا أسماه على اسم والد زوجته، وبعد فترة وجد الأب نفسه فى حصار عواطفه كأب من ناحية، وإلحاح زوجته وبناته من ناحية أخرى بألا يحرم الأم من ابنتها ولا يحرم البنات من أختهن ولا يحرم الوالد من مشاهدة الطفل الذى يحمل اسمه، وأخيرا رضى الأب، وعادت العلاقات، وبقيت القصة من ذكريات دمنهور عن أول حادث هروب فتاة من أهلها لتتزوج من تحبه، وتعليق كل من يستمع إلى القصة: كيف سمح لهذه البنت بأن تحب وتلتقى بالشاب.. العيب على الأب والأم.. هكذا لم يكن للعواطف حساب كبير فى مسائل الزواج، ولم يكن مجتمع دمنهور المحافظ يتقبل فكرة الحب ويتجاهل حقيقة وجوده.
وخلف البيت كان يسكن عم فرج فى غرفة فى المنور، وهو صاحب عربة كارو يجرها حصان كان والدى يستعين به فى نقل الأخشاب، وبعد الظهر يحمل على العربة لوحات كبيرة إعلانا عن الأفلام التى تعرضها سينما البلدية (التي أصبحت أوبرا دمنهور الآن) وتسير العربة ببطء وأمامها فرقة موسيقية بآلات النفخ، والآلات النحاسية، والطبلة الكبيرة، وعم فرج يوزع إعلانات عن الأفلام فيها صور الممثلات والممثلين على أوراق ملونة، وكنا نفرح بهذه الأوراق الملونة ونستخدمها فى لعبنا، وعم فرج يخصنى بعدد كبير منها أعطى منها للأطفال، وهكذا كانت أشياء صغيرة تسعدنا.
كانت أسعد أيامنا فى شهر رمضان، لم يكن السهر طول الليل معروفا كما هو الآن، كنا ننام لتوقظنا أمى ونجتمع على السحور، وكانت هذه أسعد اللحظات بالنسبة لى، لا أعرف لماذا يمثل السحور بالنسبة للأطفال متعة خاصة ونشعر أن هذا أجمل ما فى رمضان، والبلد تمتلئ بالزينات والأنوار والأعلام، ونحن أيضا نعلق الحبال بيننا وبين البيت الذى أمامنا، وفى الحبال أوراق ملونة بشكل مثلثات وأعلام مطبوعة على الورق وكور ملونة من البلاستيك، ويدور المسحراتى بدقات مميزة على الطبلة ومعه مساعد يحمل (فانوس) كبير، وكشوف بأسماء أفراد كل بيت.. وبين الدقات ينادى فيما يشبه الغناء.. قم يا عبد الوهاب أفندى يا أهل الجود والكرم.. ترالم ترالم.. ثم يا رجب أفندى أسعدك الله فى الدنيا والآخرة.. ترلم ترلم.. وهكذا إلى أن يأتى على أسمائنا جميعا، وفى نهاية الشهر يأتي على عربة يجرها حمار وعليها (سبت) كبير للكعك، وسبت للبسكويت، وسبت للغريبة، ويقف أمام كل بيت ليحدث جلبة كبيرة تلفت الأنظار إلى ما سيقدمه أهل البيت، ومعه من يعزف على المزمار وآخر يضرب الطبلة، وهو يصيح: كل عام وأنتم بخير يا عائلة البنا.. كل عام وأنتم بخير يا عائلة الغول.. وهكذا.. وننزل إليه بصينية كبيرة عليها كميات من الكعك والبسكويت والغريبة يعرضها ليتفرج الجيران قبل أن يوزع كل صنف فى (السبت) المخصص له.. كانت هذه هى طريقته لإثارة الغيرة بين أهل الحى ويكسب من التنافس بين البيوت على المبالغة فى العطاء دليلا على الكرم وتأكيدا لمكانة الأسرة فى الحى.
وقبل الإفطار كانت أمى وأخوتى البنات يعملن بهمة شديدة مع أم السيد وهن فى حالة من التوتر لإعداد الطعام وقمر الدين والخشاف، ويأتى عامل من الشادر ومعه نصف لوح ثلج فى الصيف ليروى ظمأ الصائمين والضيوف بالماء والبطيخ والمشروبات المثلجة ولم تكن الثلاجة الكهربائية شائعة ولكن عرفنا ثلاجة خشب فيها أنابيب موصلة بالماء يوضع فوقها الثلج للحصول على الماء البارد من الحنفية، وعرفنا الثلاجة الكهربائية فى زمن متأخر جدا وكذلك عرفنا السخان فى الحمام عبارة عن خزان نضع تحته وابور الجاز مشتعلا لتسخين الماء.. وقبل الآذان بدقائق أحمل (شفشق) به عصير أو قمر الدين أوزعه على السائرين فى الطريق عندما يضرب المدفع ويفعل ذلك أطفال البيوت الأخرى وبعضهم كان يزيد توزيع التمر.
ومن ثوابت رمضان أن يأتى عم جابر بائع الترمس ليقف بعربته المزينة بالقلل والليمون، وبعض رجال الحى يقفون فى البلكونات فإذا رفع عم جابر القلة ليشرب أدركوا أن المدفع ضرب وإن لم يسمعوه، وفى غير رمضان كان عم جابر يأتي إلى موقعه كل يوم ولكن فى أوقات مختلفة، كان عم جابر يخرج من بطن العربة مقعدا صغيرا يجلس عليه، ويتنافس كل بيت فى إرسال أطباق الطعام إليه فيتناول إفطارا من أفضل ما فى البيوت من طعام، وفى المقابل (يتوصى) بأهل الحي حين يشتروا منه الترمس والحلبة.. وكان يعرفنا كلنا بالاسم ويبتسم دائما رغم التجاعيد التى رسمها الزمن على وجهه ويديه.
فإذا جاء العيد فإن فرحتنا به تصل إلى حد الهوس، قبل العيد يأخذني والدي إلى «الجزمجى» يأخذ مقاس القدمين ويتقاضى العربون ولا يسلمنى الحذاء الجديد إلا ليلة العيد وكان محل (باتا) هو أشهر محلات بيع الأحذية الجاهزة ولكن أبى كان يفضل التفصيل لأنه متين، ونذهب إلى محل مشهور لشراء ملابس جديدة، ومن لوازم العيد أيضا أن يرسل أبى إلى كل واحدة من شقيقاتي جوال أرز وجوال سكر وصفيحة سمن بلدى و.. و.. ويتكرر إرسال هذه الهدايا فى العيد الكبير وفى أكثر من مناسبة مثل مولد النبى..
كنت أقضى ليلة العيد دون أن يغمض لى جفن انتظارا للصباح لأذهب مع أبي وإخوتي إلى صلاة العيد، وأرتدي ملابس العيد الجديدة، وآخذ «العيدية»، ويسمح لي بالذهاب إلى «العبارة» فى صحبة أحد إخوتي لأركب المراجيح وأشاهد الأراجوز والحاوى الذى يأكل النار بفمه.. وبعد الظهر أنتظر أخوالى ليعطونا العيدية، وأذهب مع أبى إلى إخوتي ليعطي لكل واحدة العيدية هى وأولادها.. وقبل العيد يكون أبي قد أعطى العيدية للعاملين فى الشادر، وتقضى أمى يومها بعد ذلك فى إعداد الغداء المميز للعيد، لم نكن نعرف السفر لقضاء العيد خارج دمنهور، بل لم نكن نعرف السفر فى غير العيد للفسحة إلا نادرا فأذهب مع أحد إخوتى إلى الإسكندرية ليوم واحد، فأستمتع بركوب القطار، وقضاء وقت على البحر، والغداء فى المنشية فى محل كباب كان أخى عبد الوهاب يذهب إليه دائما، ولم يكن أبى يسافر إلا للعمل ويعود فور انتهاء المهمة ولا يفكر فى قضاء يوم معنا فى الإسكندرية أو فى غيرها، ولكن حدث مرة أن أخذنى إلى القاهرة فقضى نصف الوقت فى لقاء مع أحد التجار الذين يتعامل معهم، ولا أذكر من هذا اليوم إلا أننا ركبنا (سوارس) وهى عربة يجرها حصان ولها خط سير ومحطات مثل الأتوبيس وفيها سائق وكمسارى وأظن أن التذكرة كانت بقرش تعريفة (خمس مليمات) وذهبنا لزيارة الحسين والسيدة زينب وتناولنا الغداء فى معظم هناك، وعدنا فى الليل ومعنا علبة جاتوه.
كانت حدودنا هى دمنهور، وكان خروج السيدات من بيوتهن محدودا، وكانت أمى تقضى شهورا فى البيت لا تغادره إلا للضرورة.. للغزاء، أو زيارة مريض من الأقارب، أو حضور زفاف إحدى بنات أو أحد شباب العائلة، أو إلى الطبيب إذا اشتد عليها المرض، وكانت زيارة الطبيب دليل على أن المرض لم يعد يحتمل الانتظار، أما زيارة الطبيب فى البيت فلم تعد سهلة كما كانت أيام الدكتور إلياس.
ولم يكن فى دمنهور حدائق أو أماكن للترفيه سوى سينما البلدية وسينما الأهلى، ولم يكن أبى ممن يحبون الذهاب إلى السينما، ولكنى كنت أذهب إلى السينما مع أحد إخوتى ولم يكن ذلك يحدث كثيرا، ولم تكن أفلام الكرتون معروفة، ولهذا لم تكن السينما تناسب طفلا مثلى لم يبلغ السادسة بعد، ولكنى عرفت الإسكندرية وكنت أقضى فيها شهور الصيف عندما نقل أخى (السيد) إليها.
وكانت مشكلتى أنى ولدت وأبى قد تجاوز مرحلة الشباب ووصل إلى مرحلة الوقار الذى يناسب من تجاوز سن الأربعين واقترب من الخمسين، وكذلك كانت أمى قد تجاوزت مرحلة الشباب، وأخوتى جميعا أكبر منى وأنا الصغير فى البيت المحكوم عليه بالحياة فى عالم الكبار، ولعل هذا ما جعلنى أبدو دائما أكبر من سنى، وأُفضِّل التعامل مع الكبار، وكان أبى يعاملنى كما لو كنت كبيرا، ربما لأنه كان يعلم أنى سأواجه الحياة بدونه.