(1)
"كنت ألقاه في الخلاء وحيدًا يحاور الناي ويعزف لجلال الكون. قلت له يومًا: ما أجدر أن يسمع الناس ألحانك. فقال بامتعاض: إنهم منهمكون في الشجار والبكاء! فقلت مشجعًا: لكل امرئٍ ساعة يحنّ فيها إلى الخلاء"..
(أصداء السيرة الذاتية)
(2)
تبدو الصلة بين كاتب "العربية" الأكبر والأشهر في القرنين الأخيرين، نجيب محفوظ (1911-2006) الذي نحتفل بمرور 110 أعوام على ميلاده، وبين اللغة التي يحتفل العالم كله بيومها العالمي، أكبر وأوضح من أن يُشار إليها أو ينوه بها.
كتب نجيب محفوظ إبداعاته كلها باللغة العربية، ونال جائزة نوبل في الآداب عن أعماله بها، وأثبت عمليًّا أن اللغة العربية واحدة من أجمل وأطوع لغات الدنيا؛ لغة تحفل بالجمال وقادرة على تجسيد هموم الإنسان وتصوير أحواله، والتطلع إلى استشراف مستقبله؛ كل ذلك فضلًا على قدرتها على الاستمرار والتجدد، عبر القرون، باعتبارها واحدة من أقدم لغات العالم.
اتصلت الأسباب بين نجيب محفوظ، وبين هذه اللغة التي وقع في هواها وأغرم بجمالها، وهو في سن مبكرة في المدرسة الابتدائية، وذلك من خلال لقائه بمدرسٍ للغة العربية اسمه "الشيخ عجاج"؛ ذلك الشيخ الدرعمي الذي كان أسبق الأساتذة والمعلمين تأثيرًا في نفس وعقل محفوظ.
وغرام محفوظ باللغة العربية وشغفه بها وتمكنه منها قصة جميلة في حد ذاتها تستحق أن تُلملم خيوطها وتُجمع تفاصيلها وتوضع بين أيدي طلابها في مراحل التعليم الأساسي؛ لكي يدركوا بالبرهان والدليل أنه متى ما توافرت الظروف المواتية والتكوين الفكري والثقافي السليم وانتقاء الأشخاص الموهوبين المدربين لتدريس هذه اللغة وتنمية مهاراتها لدى الطلاب والتلاميذ الصغار، أثمرت نتائج باهرة وأشخاصًا متمكنين منها، قادرين على تذوق جمالياتها، واكتشاف أسرارها، وهو ما حدث فعليا مع نجيب محفوظ.
(3)
في كتابه الممتع «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ»، أفرد الناقد الراحل رجاء النقاش فصلًا كاملًا عن أساتذة محفوظ الأوائل، خلال فترة نشأته الباكرة وتعلمه الأول، وفيه تحدث صاحب نوبل عن أستاذه باحترام وتقديس، وفصل القول عنه -على غير عادته- وتوقف طويلاً عند الشيخ عجاج مدرس اللغة العربية بمدرسة فؤاد الأول الثانوية؛ ذلك الرجل الذي علمه معنى "الوطنية"، وأرشده إلى عيون الأدب العربي، وكان دليله ومرشده إلى تعلم وتذوق اللغة العربية حتى تمكن منها ووصل من خلالها لأن يكون أهم كاتب عربي في القرن العشرين.
لكن نجيب محفوظ وقبل أن يتحدث تفصيلًا عن أستاذه، وعن كيفية تعلقه باللغة العربية وعشقه إياها، سجل نجيب محفوظ ملاحظة غاية في الأهمية والقيمة. أشار محفوظ في سياق حديثه عن أساتذته في المدرسة والجامعة والحياة عمومًا، من الذين تركوا أثرًا بارزا وخطيرا في حياته، إلى أن ذلك الجيل من الأساتذة لا يمكن أن يتكرر "في ظلِّ ما نسمع عنه الآن من المستوى الذي انحدر إليه الجيل الحالي".
أكد محفوظ أن ذلك الجيل من الأساتذة كان متمكنًا من عمله بصورة مذهلة، وأنه كان على درجة كبيرة من الثقافة والموهبة، مما انعكس ذلك بالطبع على محفوظ وعلى زملائه ومجايليه (من تلامذة ذلك الزمان)، يقول محفوظ:
"في مقدمة هؤلاء الأساتذة الذين علموني الشيخ عجاج أستاذ اللغة العربية بمدرسة فؤاد الأول الثانوية، وهو من خريجي دار العلوم إن لم تخني الذاكرة، ولم يكن الشيخ عجاج مدرسًا للعلم فقط بل كان معلمًا للوطنية، حيث كان أحد الأسباب المباشرة التي جعلتنا نحن تلاميذ تلك المدرسة ننفعل بثورة 1919 ونعشق زعيمها سعد زغلول، كان الشيخ عجاج داعية من دعاة الثورة، وحتى في دروس اللغة العربية كان يستشهد بمواقف وأقوال زعمائها".
(4)
تلك البداية الرائعة التي توفرت ل نجيب محفوظ مع التعليم واللغة العربية، من خلال أستاذ فريد التكوين مؤهل للتدريس والتعامل مع الطلاب والتلاميذ كانت نقطة الانطلاق أمام محفوظ لاكتشاف التراث العربي والالتفات إلى روائعه وكنوزه؛ شعرًا ونثرًا، لم يكن تدريس اللغة وتعلمها منفصلًا عن تذوق نصوصه، يقول محفوظ "كان الشيخ عجاج من أوائل الذين لفتوا انتباهي إلى جمال التراث العربي وروعته وثرائه، ففي دروس "البيان" كان يستشهد بأبيات شعرية ـ وأغلبها من شعر الغزل ـ وبحوادث ليست في المقرر الدراسي، وكنت أسأله عن مصادرها فيدلني على عيون التراث العربي، مثل: «البيان والتبيين» للجاحظ. وذهبت إلى مكتبات خان الخليلي وبحثت عن هذه الكتب طويلاً حتى اهتديت إليها، ونفعتني قراءتها كثيرًا فيما بعد".
ويصف محفوظ العلاقة بينه وبين الشيخ عجاج بأنها كانت "ودية للغاية"، وكان الشيخ عجاج أول من التفت إلى تفوق محفوظ في اللغة العربية وبراعة أسلوبه في الكتابة، وكان شديد الإعجاب به، وعبر له عن ذلك مرارًا، وكان يعتبر موضوعاته في الإنشاء والتعبير نماذج تحتذى للتلاميذ.
العلاقة بين التلميذ "النجيب" وأستاذه كانت على أحسن ما يكون بين تلميذٍ وأستاذ، ويعترف محفوظ بامتنان مخلص وتقدير صادق بفضل الشيخ عجاج عليه وعلى تكوينه؛ يقول: "ولهذا الرجل فضل كبير في إتقاني لقواعد اللغة العربية".
لكن محفوظ لا يكتفي بإبداء التقدير والاعتراف بالامتنان، إنه يحلل لماذا نجح الشيخ عجاج في أن يعلم تلاميذه اللغة العربية، وأن يحببها إلى نفوسهم، ويجعل موضعها منهم في أرفع كان وأجله. يقول "والملاحظة الجديرة بالذكر هي أن أساتذة اللغة العربية في تلك الفترة كانت لديهم مقدرة هائلة على تبسيط قواعد اللغة العربية للتلاميذ، ولذلك تجد أغلبية تلاميذ تلك الأيام لديهم تفوق واضح في قواعد اللغة العربية، إذا ما قورنوا بمستوى التلاميذ الآن".
هكذا وقع محفوظ في غرام اللغة العربية، واتخذها أداة تواصل وتعبير رائعة، وارتفع بها ومعها إلى آفاق مذهلة في التصوير والتعبير، يكشف هو بذاته عن أثر تلك المرحلة في حياته "كان عندي اهتمام خاص باللغة العربية في سنوات دراستي الأولي، وانعكس ذلك في موضوعات الإنشاء التي كنا نقوم بكتابتها، وفي إجادتي لقواعد النحو والصرف. وإلى وقتٍ قريب كنت أحرص على وجود قواميس اللغة العربية، وكتب النحو، بجواري أثناء الكتابة، حتى أستعين بها إذا اختلط عليّ الأمر بين الكلمات الفصحى والعامية".
(5)
بسهولة يمكن رد تمكن وتفوق محفوظ في اللغة العربية إلى تلك الفترة، وبسهولة أيضًا يمكن فهم لماذا أصر محفوظ على استعمال العربية الفصحى، لقد أدرك بحسه أن العربية الفصحى وحدها هي الوعاء الذي يمكن "العربي" في مصر، وفي المغرب، وفي اليمن، وفي كل بقعة من الأرض، تتحدث العربية أو تتصل بها، من الفهم والتواصل والإدراك.
لهذا، ومنذ احترف الكتابة وهو في بداية العشرينيات من عمره، قرر حاسمًا أن يتخذ من الفصحى وحدها وسيلة للتعبير "ومنذ بدأت الكتابة وأنا حريص على استعمال العربية الفصحي والبعد قدر الإمكان عن استعمال العامية، خاصة أن لدينا عدة لهجات من العامية. فتجد لأهل الصعيد لهجة، ولأهل الوجه البحري لهجة، وداخل البلد الواحد قد لا يفهم سكانه بعضهم بعضا بسبب اختلاف اللهجات المحلية".
ويزيد محفوظ الأمر تفصيلًا وتحليلًا "تمسكي باللغة العربية الفصحى يرجع إلى أسباب عديدة منها، أنها لغة عامة وقومية ودينية وغير ملفقة. ولكن كان عليّ أن أعطيها نوعًا من الحياة وأعمل على تقريبها إلى أذهان الناس. وأبتعد عن الألفاظ الصعبة التي تزخر بها، حتى تصلح للاستخدام الأدبي الروائي، وإن كان هذا لم يمنع استعمالي بعض الألفاظ العامية عندما تكون أكثر دلالة وتعبيرًا عن المعنى، خاصة إذا كانت هذه الألفاظ لها أصول في اللغة الفصحى".
كانت اللغة العربية تستحق كاتبًا بقيمة نجيب محفوظ، وكان هو يستحق أن يكتب بهذه اللغة التي رأى فيها جمالًا لا يدانيه جمال وطاقات تصويرية وإبداعية تنتظر فقط من يكشف عنها ويوظفها.