يمتاز فيلم «أبو صدام»، الفيلم المصري الذي شارك فى المسابقة الدولية ل مهرجان القاهرة السينمائي فى دورته الثالثة والأربعين، بطموح فني يستحق التقدير، فهو من أفلام الطريق النادرة والصعبة، كما أن مخرجة الفيلم وكاتبة قصته نادين خان، تثبت فى فيلمها الثاني، بعد فيلم «هرج ومرج»، أنها مخرجة جيدة، لا تستسهل، وتبحث دوما عن تجارب مختلفة تثير التأمل شكلا ومضمونا. كل ذلك جدير بالتحية والاعتبار، ولكن فيلم «أبو صدام»، الذي لعب بطولته محمد ممدوح وأحمد داش، لا يكمل الطريق حتى نهايته، ولا يتقن رسم بورتريه بطله، الذي يحمل الفيلم اسمه، وتظهر فى رحلة بطليه وقيادتهم لـ تريللا عملاقة على طريق العلمين، الكثير من الثغرات والأسئلة، إنها مشكلات الكتابة من جديد، التي تبدو واضحة للغاية، والتي تفسد كثيرا من التجارب الطموحة،
أفلام الطريق نوع صعب، لأنها تتابع رحلة من خلال أبطال قليلين، والطرق عادة تصنع كليشيهات متوقعة، مثل محطات البنزين، واستراحات الطريق، والحوارات داخل سيارة مغلقة، ونماذج تلك الأفلام فى السينما المصرية قليلة، منها مثلا فيلم محمد خان الهام «مشوار عمر»، وفيلم «ثلاثة على الطريق» للمخرج محمد كامل القليوبي، ولكن «أبو صدام» لا يتعامل مع سيارة عادية، ولكن مع تريللا عملاقة، جديرة ببطلها السائق العنيف أبو صدام (محمد ممدوح)، بينما يتناقض معه شكلا ومضمونا تابعه ومساعده الصغير حسن (أحمد داش)، وهما فى حوار دائم طوال مسيرة التريللا، وهناك فواصل بسيطة لتناول الشاي فى استراحة، ولحضور حفل زفاف، وللتعامل مع كمين للشرطة، ولاصطياد امرأة بعد الفرح، وما عدا ذلك نحن معهما فى تلك الرحلة، التي نعرف من خلالها ملامح أبو صدام كرجل عنيف للغاية، لديه مشكلة مع زوجته، ومع السائقين، ومع طوب الأرض، لا يتوقف عن مغازلة النساء، ويصطدم مع ضابط الشرطة فى الكمين، بل ويكاد أبو صدام أن يعتدي على ضابط الشرطة شخصيا!
فى تفسير هذا العنف ، الذي لا يتناسب مع سائق يريد أن يحافظ على أكل عيشه، يربط الفيلم بين هذه القسوة، وبين فشل عائلي، وربما فشل جنسي أيضا، نرى ملامحه فى فشل أبو صدام مع الفتاة، وهنا يبدو الرجل أقرب إلى المرضى، وتبدو مسألة حصوله على فرصة العمل كسائق، بعد أن فصلوه من قبل بسبب العنف، أمرا غريبا وعجيبا، كما أن الرجل المريض لم يعد يصلح كعنوان على الشخصية الذكورية عموما، وهو ما أراده الفيلم بالأساس.
من ناحية أخرى، فإن المبالغة والتأكيد على حكاية رفض أبو صدام (والاسم المختار له علاقة بالتأكيد بشخصيته الصدامية والعنيفة) لذهاب زوجته إلى الفرح، وصل من قبل من خلال الحوار، ولم نكن فى حاجة لتكراره فى ثورة الرجل من جديد فى الفرح على أهل زوجته، والغريب أنهم أضافوا إلى الشخصية مسألة بيع أبو صدام مصوغات زوجته، لسبب لا نعلمه.
هذه المبالغة فى رسم الشخصية جعلتها حالة مرضية غامضة، بينما يفترض أن تكون نموذجا لكثيرين، يمثلون قوة الذكر وتعالية وقسوته، وفي الجانب الآخر، بدا مساعده المراهق يسير على وتيرة واحدة، هو أيضا شخصية أحادية الجانب، لديه شغف بالنساء، ويحب أن يعيش المغامرة حتى نهايتها، ولكنه، ولسبب غير معروف، يصر على سرقة أبو صدام، وتتكرر دوما بشكل مزعج، محاولات السرقة والتراجع عنها، بالتوازي مع هدوء صدام، أوصخبه وعنفه، فالمساعد يأخذ النقود ويخفيها إذا كان أبو صدام هادئا، ثم يعيدها عندما يرى قسوة وعنف أبو صدام .. وهكذا.
كان واضحا أن مشهد الفرح بأكمله مجرد محاولة لكسر رتابة مشاهد التريللا، ولا مجال للقول بإنه سيوصلنا إلى مشاهد اصطياد الفتاة، لأنه يمكن مقابلتها مباشرة فى الطريق، وكان واضحا أن حكاية أبو صدام عن فتاة قضى معها أوقاتا سعيدة، ليست إلا محاولة أخرى لكسر رتابة حوارات التريللا، ولكن هذه الحكاية، التي نراها فى شكل ساحر وحافل بالألوان، كسرت الرتابة ولكنها كسرت أيضا مسار السرد الواقعي، هي مشاهد جميلة فى حد ذاتها، ولكنها متنافرة، فيما أعتقد، مع حكاية تريد لها أن تكون واقعية.
تصل المبالغة إلى ذروتها عندما يتكرر من جديد سباب أبو صدام التليفوني لزوجته، بينما هو موقوف بأمر ضابط الكمين، ثم نصل إلى ذروة جديدة، عندما ينقل السائق الشرس على الضابط شخصيا، ولا يزيد موقف الضابط الهادئ عن استمرار تكدير السائق، ثم يطلق سراحه، وهو أمر لا يصدق، فمن المنطقي أن يتم اعتقال أبو صدام بالقانون، كما أن الشخصيات العنيفة تحترم السلطة الأقوى منها عموما، وتفكر ألف مرة قبل أن تتهور ضد من هو أقوى وأقدر منها، وأبو صدام كما رأيناه، ليس شخصا مأزوما عاديا، إنه فتوة يستحق الإعتقال، وستتأكد فتونته عندما يطارد صاحبة السيارة التي اشتكته للمرور.
هنا خلل حقيقي فى رسم الشخصية المحورية، التي يمكن اعتبارها الفيلم نفسه، لقد خرجنا من دائرة شخصية إنسانية يمكن تصديقها، الى شخصية أحادية الجانب، أقرب ما تكون إلى «فتوة مريض»، بينما يريد له الفيلم أن يكون نموذجا لرجال كثيرين.
نسمع عن عدم إنجاب أبو صدام، ونرى صورة صغيرة لطفل لا نعرف بالضبط علاقة الرجل به، وكانت هناك فرصة حقيقية لكي يبدو المساعد الصغير كابن حقيقي للسائق الشرس، مما يجعل أبو صدام أقرب إلى البشر كما نعرفهم، ولكن السيناريو لم يكن يعنيه سوى تكرار عنف سائقه، مع أنه مهني محترف، ولكنه ينسى كل شيء عندما يثور، وعنفه موجه للنساء بشكل خاص، لأسباب تتعلق فى الغالب بمشكلته الجنسية معهم.
في أربعة وعشرين ساعة شاهدنا فتوة على الطريق يكرر سبابه وعنفه، وسينتهي حتما الى السجن، وهو بالتأكيد ذنب من جعله سائقا من جديد، بعد أن طرد إثر مشاجرة، تاهت دلالات الشخصية التي كان يمكن أن تكون ثرية، بل كان يمكن أن تدفعنا إلى تأمل أحوال المجتمع الذكوري.
ظل أفق الخيال، وتطوير المعالجة، وتعميق الشخصية، محدودا للغاية، ويدور فى حلقة مفرغة، فلم يبق سوى الطموح، وجهد المحاولة، وتميز كثير من العناصر مثل مونتاج باهر رشيد، وصورة عبد السلام موسى، والموسيقى التي كانت تنذر ببركان الغضب، وقدوم العاصفة قبل وقوعها.
أثبتت نادين خان أيضا أنها مخرجة مميزة، حاولت بقدر الإمكان أن تجد حلولا بصرية تكسر رتابة الحوارات، واختيارها لمحمد ممدوح وأحمد داش كان موفقا، واجتهد الاثنان كثيرا فى أداء دوريهما، ولكن ظلت المشكلة دائما فى الكتابة، وثغرات رسم الشخصيات.
«أبو صدام»، بنهايته التي لم تضف إلا تنويعه فى العنف، فيلم عن فكرة العنف الذكوري، وليس فيلما عن رجل من لحم ودم، يمكن أن تفهم سلوكه، أو تعتبره نموذجا لرجال كثيرين.