عندما تصاب دول بالفصام

في الوقت الذي تواصل فيه مصر مسيرة إنجازاتها نحو مستقبل أفضل لأبنائها، وقبيل افتتاح الرئيس عبدالفتاح السيسي عدد من مشروعات تنمية الصعيد بتكلفة بلغت تريليون جنيه وفق رؤية استراتيجية استهدفت تحقيق العدالة الاجتماعية على أرض الواقع، ومشروع وطني وضع نصب عينيه التنمية الشاملة بمفهومها الصحيح في محافظات مصر كافة، لتحقيق مبدأ حقوق الإنسان المنسية، ولتظل التجربة المصرية تجربة رائدة على مر التاريخ.

كما كانت مصر الدولة الأولى في العالم التي وضعت دستورًا لها وسنَّت القوانين، وحققت تقدمًا غير مسبوق في الطب والفلك والعمارة والهندسة والرياضيات لتصنع حضارة سيظل العالم يفتش في كنوزها آلاف السنين.

عادت الدولة المصرية من كبوتها لتستعيد عنفوانها وقوتها وتستهدف مستقبلًا أفضل لمواطنيها، وتعمل على استقرار محيطها الإقليمي.

لقد كان افتتاح الرئيس السيسي لعدد من المشروعات الكبرى والتنموية بالصعيد الأسبوع الماضي بمثابة نقلة نوعية وتأكيد على تحقيق الدولة المصرية لجودة حياة المواطن، وستتواصل الافتتاحات الرئاسية لمشروعات أخرى هذا الأسبوع لتحقيق العدالة للمناطق التي حُرِمت على مدى سنوات من الخدمات والتنمية.

فى ذلك الوقت ووسط كل هذا الكم من العمل والجهد المتواصل الذي يحرص عليه الرئيس عبدالفتاح السيسي لتحقيق مستوى حياة أفضل للمواطن، وتحقيق الغاية القومية للدولة المصرية، وفى ظل إشادات دولية بحجم ما تحقق من نجاح خلال الفترة الماضية.

ظنت بعض الدول أن دولة 30 يونيو قد تشبه سابقتها، وهو ما ليس بصحيح؛ ففي يوم الإثنين الماضي جاءت تصريحات المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، معلِّقةً على حكم محكمة جنح أمن دولة طوارئ بالتجمع الخامس، فى القضية المتهم فيها علاء عبدالفتاح، ومحمد الباقر، ومحمد أكسجين، بتهمة الانضمام لجماعة إرهابية وتهمة إذاعة ونشر أخبار وبيانات كاذبة داخل وخارج البلاد.

كانت وزارة الخارجية الألمانية قد سبقته بل وسبقت حكم المحكمة ببيان لها يوم الجمعة قبل الماضي فى محاولة لاستباق حكم المحكمة.

هنا جاء رد الخارجية المصرية على بيان وزارة الخارجية الأمريكية والحكومة الألمانية مفندًا ما جاء فى كليهما من مغالطات ومحذرًا من التدخل فى الشؤون الداخلية للدولة المصرية.

واعتبرت الخارجية المصرية البيان تدخلًا سافرًا غير مقبول ويصادر على المسار القضائي الذي سارت فيه القضية والمتهمين فيها.

هنا نتوقف عند عدة نقاط:

لماذا استبق بيان الحكومة الألمانية حكم المحكمة؟
ولماذا جاء بيان وزارة الخارجية الأمريكية عقب الحكم؟
وهل ثمة علاقة بين علاء عبدالفتاح ومحمد الباقر ومحمد أكسجين وبين منظمات ألمانية وأمريكية؟
ولماذا يظل ملف الحريات المزعومة هو أحد ملفات تهديد دول المنطقة؟

(1)

فى الحقيقة إن رد الخارجية المصرية كان وافيًا سواء فى الرد على بيان الخارجية الأمريكية أو الحكومة الألمانية.
فقد أكد السفير أحمد حافظ على أنه «ليس من المناسب إطلاقًا التعليق بأي شكل، أو التطرق إلى أحكام تصدر عن القضاء تنفيذًا للقانون واستنادًا لأدلة وأسانيد دامغة وقاطعة فى إطار مسار قضائي عادل ونزيه ومستقل».
ولا يجوز تناول مثل تلك المسائل القضائية فى أي أطر سياسية، أو ربطها بمسار العلاقات بين البلدين، لما ينطوي عليه ذلك من تعقيدات غير مبررة.

وردًا على بيان الحكومة الألمانية قالت الخارجية المصرية إنها تعتبر «هذا الأسلوب، الذي ينطوي على تجاوزات غير مقبولة، تدخلًا سافرًا وغير مبرر فى الشأن الداخلي المصري، ويُصادِر على مسار قضائي دون دليل أو سند موضوعي؛ ومن الأحرى أن تلتفت الحكومة الألمانية لتحدياتها الداخلية بدلًا من فرض وصايتها على الغير».

برد وزارة الخارجية علمت تلك الدول أن دولة 30 يونيو دولة تختلف تمامًا عن سابقتها فلديها ثوابت راسخة استمدتها من قوة الدولة المصرية وتاريخها.

لكن ما زالت الأسئلة المطروحة لم تتضح الإجابة عنها بعد؛ وهنا نبدأ بالنقطة الأولى .. وهى لماذا استبق بيان الخارجية
الألمانية حكم المحكمة بثلاثة أيام؟

لقد ظنت الحكومة الألمانية أنها بما قدمته من بيان لها تستطيع الضغط على الدولة المصرية للتدخل فى شؤون القضاء.
لم تدرك الخارجية الألمانية أن مصر الآن لا تقبل مثل تلك التصرفات الخارجة عن أصول العلاقات بين الدول، كما لم تدرك أن العلاقات بين البلدين لا يمكن أن تمنحها حق ارتكاب مثل تلك التجاوزات غير المقبولة.

فالقضاء المصري الشامخ لا يستطيع أحد أن يؤثر عليه، أو يصادر على أحكامه.

فقد ظنت الحكومة الألمانية الجديدة أنها تستطيع أن تضغط على الدولة المصرية، وهي لا تدرك قوة وقدرة الدولة المصرية.
فبعد إشادة ميركل، المغادرة للمستشارية، بما تقوم به مصر من دور فى المنطقة وما حققتها من نجاحات على المستوى الداخلي والخارجي، ظنت الحكومة الجديدة أنها بورقة حقوق الإنسان المزعومة تستطيع الضغط على مصر.
فكان رد الخارجية المصرية ملجمًا قويًا.

لم لا؟ والحكومة الألمانية التي تتحدث عن الحريات و حقوق الإنسان لديها سجل حافل بمخالفة حقوق الإنسان وانتهاك الحريات؛ كما أنها تدافع فى تلك القضية عن متهمين خالفوا القانون وعمدوا إلى الإضرار بالدولة وهناك أدلة ثابتة عليهم وإجراءات قانونية اتُخِذت معهم، وهو ما يعد تدخلًا فى الشؤون الداخلية وهو ما يمنعه ميثاق الأمم المتحدة.

هاينر بيلفيلد (أستاذ مادة حقوق وحريات الشعوب بجامعة إيرلنجن) رأى أن الحكومة الألمانية لم تبذل أي جهد يُذكر لوقف ظاهرة انتهاكات حقوق الانسان وممارسة العنصرية فى ألمانيا.

كما انتقد اجتماع لهيئة المراجعة الدورية ل حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة سياسة ألمانيا بشأن التطرف اليميني والعداء ضد الأجانب والمساواة بين الجنسين، وانتقدت الهيئة أيضًا سياسة دمج أطفال المهاجرين ووضع طالبي اللجوء.
وحذر رئيس مركز حقوق الإنسان بمدينة نورنبيرج «ميشائيل كرينِريش» الحكومة الألمانية من فقدان ثقة العالم بسياستها حول حقوق الانسان.

ويبدو أن حكومة إشارة مرور (الحكومة الألمانية الجديدة) قد أخطأت تقدير الموقف ولم تدرك أن الطريق الذي سلكته بالاعتداء على القانون والتدخل فى شؤون الدول الداخلية جعل مصر تضيء لها الإشارة الحمراء لتوقفها عند مكانها الصحيح.

(2)

كما جاء بيان الخارجية الأمريكي عقب الحكم على علاء عبدالفتاح بالسجن 5 سنوات ومحمد الباقر ومحمد أكسجين بالسجن 4 سنوات، ليكشف محاولات واشنطن جس النبض بين وقت وآخر وكان الرد قاطعًا.. أنه لن يُسمح بالتدخل فى الشؤون الداخلية، وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تنادي دائمًا باحترام القانون، فلماذا لم تحترم القانون وتحترم أحكام القضاء التي جاءت وفق صحيح القانون.

لكن الوضح أن الإدارة الأمريكية تتناسى ما تقوم به من مخالفات وانتهاكات ل حقوق الإنسان وتبيض سمعتها تلك من خلال مثل تلك البيانات المخالفة للمواثيق الدولية.

فبموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 103 /63 الصادر فى 9 ديسمبر 1981، ووفقًا لميثاق الأمم المتحدة، لا يحق لأية دولة أن تتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر، ولأي سبب كان، فى الشؤون الداخلية والخارجية لأية دولة أخرى.
من جانب آخر فالولايات المتحدة لها سجل حافل من التجاوزات وانتهاكات القانون وانتهاك حقوق الانسان وكانت حادثة «جورج فلويد» التي وقعت مؤخرًا خير دليل على التجاوزات التي يعاني منها المجتمع الأمريكي.

ومن انتهاكات داخل الولايات المتحدة إلى انتهاك الولايات المتحدة ل حقوق الإنسان خارج أراضيها ومنها ما حدث فى العراق «سجن أبوغريب» و«جونتانامو» وأفغانستان.

وذكرت ميشيل باشيليت، مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، «أن الهجوم على مبنى الكونجرس الأمريكي أبرز بجلاء التأثير المدمر للتشويه المستمر والمتعمد للحقائق والتحريض على العنف والكراهية من قبل قادة سياسيين أمريكيين»
إن بيان الدولتين كان بمثابة تأكيد على حالة الفصام التي تُصاب بها الدول عندما تظن أنها قادرة على التدخل فى الشؤون الداخلية والضغط على الدول، لكن تلك الحالة سرعان ما واجهتها قوة الرد المصري، فأدركت كل منهما أن الخطوة التي اتخذتها لم تكن فى المسار الصحيح؛ وعليهما إدراك أهمية احترام السيادة المصرية وعدم التدخل فى شؤون مصر الداخلية، لأن لديها مؤسسات قوية مستقلة، لا يمكن الضغط عليها أو التأثير على قراراتها.

إن ما حدث لم يكن من قبيل الصدفة فعلاء عبدالفتاح والباقر وأكسجين وأمثالهم هم إحدى أوراق محاولات التدخل فى شؤون الدول باسم الدفاع عن الحريات و حقوق الإنسان المكذوبة.

أما حقوق الإنسان الحقيقية (الصحة، التعليم، السكن، الحياة) فهي ليست على أجندة اهتمام تلك المنظمات.
فهل تظن تلك الدول التي تعاني «الفصام» فى علاقاتها الدولية أن العالم لم يدرك حقيقة المرض المصابة به؟

يقول الرئيس الأمريكي السادس عشر «إبراهام لينكولن»: «يمكن أن تخدع كل الناس بعض الوقت، وبعض الناس كل الوقت، لكن لا تستطيع خداع كل الناس كل الوقت»

أضف تعليق