هي زاد المؤمنين الصالحين العارفين ربهم حق المعرفة واليقين ، والمدركين أنها الباب الأعظم المفتوح بينهم وبين الرحمن الرحيم الذي لو أغلق بغفلتهم عنها لتكالبت عليهم الشيطان وحرموا جنات النعيم ، وصارت قلوبهم خرابا ولا يرون بأعينهم إلا الظلام و الضباب ، وتحولت ألسنتهم إلى خرساء ، وآذانهم إلى صماء ، حتى يفيقوا من هذه الغفلة والنسيان ويتذكروا الواحد الديان.
بهذه العبادة اليسيرة التي هي عند الله تعالى كبيرة ويباهي بفاعلها ملائكته ؛ والسؤال : ما هي تلك العبادة التي نغفل عنها ؟ وما هي أنواعها ومواقيتها وفضلها وآدابها ؟، وهل الطهارة شرطاً لها أم لا ؟.
يقول الشيخ أحمد تركي ـ الداعية وأحد علماء الأزهر الشريف : إنها عبادة ذكر الله التي تحتوي كل لفظة فيها على تمجيد وتقديس وتنزيه لله ـ عز وجل ـ سواء وردت في كتابه العزيز أو على لسان نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم ، حيث تعد من أفضل وأسهل الأعمال ، وأحبها إلى الرحمن الذي حثنا عليها وأمرنا بها ، لقوله سبحانه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}[الأحزاب :41] ، وقوله جل شأنه :{ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ}[النساء : 103] ، ولهذا فهي عبادة عظيمة يستحضر فيها جلال وجمال الله تعالى في شعور إيماني يملأ القلب والنفس والوجدان ويعبر عنه بذكر اللسان مع تحريك القلب وليس بحركة اللسان وحده كما يظن البعض .
ويكمل الشيخ تركي : ولو نظرنا إلى هذه العبادة سنجد أنها نوعان : ذكر مطلق وذكر مقيد ؛ والمطلق : هو الذكر الذي ليس له وقت معين ولا لفظ معين كما بين طلوع الشمس إلى صلاة الظهر أو من بعد صلاة سُنة الظهر إلى صلاة العصر ، فهذه الأوقات يجوز فيها للمسلم أن يقول ويردد ما يشاء من أذكار ؛ وأما الذكر المقيد : فهو الذكر الذي له وقت معين كالأذكار التي تقال بعد الأذان أو بعد الصلاة أو أثناء الركوع والسجود ، أو في مناسك الحج ، أو عند حلول الصباح والمساء ، أو قبل النوم ، فهذه ينبغي الإتيان بها في أوقاتها ولا يجوز إبدالها بغيرها ، ولكن على العموم أفضل أنواع الذكر وأعظمها هو قراءة القرآن الكريم وخاصةٍ سورة الفاتحة لأنها أم الكتاب أو أم القرآن .
أما عن أفضل ذكر بالمعنى الخاص ، فهي الأذكار المخصوصة التي جاءت الأحاديث النبوية الشريفة ببيان فضلها ؛ فجميعها مشتمل على توحيد الله الواحد الأحد مع اختلاف الصيغ ، كقوله صلى الله عليه وسلم : «أفضل الذكر: لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء: الحمد لله» رواه مسلم ؛ وقوله أيضًا صلى الله عليه وسلم : «إن من قال : لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيءٍ قدير ، في اليوم مائة مرة كتبت له مائة حسنة ، ومحيت عنه مائة سيئة ، وكانت له حرزًا من الشيطان حتى يمسي ، ومن قال: سبحان الله وبحمده ، في اليوم مائة مرة ، حطت خطاياه ، ولو كانت مثل زبد البحر» رواه البخاري .
ويضيف الشيخ تركي : وعن سيدنا سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ قال: « كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة ؟ فسأله سائل من جلسائه : كيف يكسب أحدنا ألف حسنة يا رسول الله ؟ . قال صلى الله عليه وسلم : يسبح مائة تسبيحة ، فيكتب له ألف حسنة ، أو يحط عنه ألف خطيئة» رواه البخاري ؛ وعن أبي موسى الأَشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال لي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ . فقلت : بلى يا رسول الله . فقال : قل لا حول ولا قوة إِلا باللّه» رواه مسلم . مع العلم أن الاستغفار أيضًا هو نوع من أنواع الذكر ، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة»، ولهذا ينبغي ألا نغفل عن الاستغفار إلى جانب التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل في الذكر .
فضائلها
يؤكد الدكتور مختار مرزوق ـ العميد الأسبق لكلية أصول الدين بجامعة الأزهر : أنها منحة ربانية ، والسعيد من نالها وداوم عليها ، ويكفي ما قاله رب العزة في حديثه القدسي عن كل من يذكره حيث قال تعالى: "أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه . ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملاٍ . ذكرته في ملاٍ خير منه" ؛ وتحذيره ـ جل شأنه ـ من قلة ذكره ، وجعل ذلك من صفات المنافقين ، لقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}[النساء : 142] ، وحثه سبحانه على كثرة ذكره لما في ذلك من فضائل تعود على الذاكر: كالمغفرة والثواب العظيم للذاكرين والذاكرات ، لقوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[الأحزاب : 35] ؛ والطمأنينة للقلوب ، لقوله جل شأنه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد : 28] ؛ والفوز بمحبة رسول الله ، لقوله صلى الله عليه وسلم : «لأن أقعد أذكر الله تعالى وأكبره وأحمده وأسبحه وأهلله حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق رقبتين من ولد إسماعيل ، ومن بعد العصر حتى تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربع رقبات من ولد إسماعيل» رواه الإمام أحمد ؛ وتفضيلها على إنفاق الذهب والفضة ومن لقاء العدو وضرب عنقه ، لقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق ، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : ذكر الله» رواه أبو داود .
ويضيف الدكتور مرزوق : كما إن عبادة ذكر الله تعد سببًا للنجاة من عذاب الله ، لقوله صلى الله عليه وسلم : «ما شيء أنجى من عذاب اللَه من ذكر اللَه» رواه البيهقي ؛ وكذلك سببًا لنيل رضا الرحمن وطرد الشيطان ؛ ولزوال الهم والغم وجلب السعادة والرزق ، وفتح أبواب الخير والمعرفة ، وإشراق الوجوه والقلوب بنور ربها ، وأيضًا في إضفاء القوة والهيبة والوقار على كل من كان ذاكرًا لله الغفار ؛ وفي غرس محبة الله وخشيته بالنفوس ودوام استشعار مراقبته ؛ وجعل مجالس الذكر محفوفة ب الملائكة ومغشية بالرحمة والسكينة ، وبعيدة كل البعد عن الغيبة والنميمة .
آدابها
يوضح الدكتور سعيد عامر ـ رئيس لجنة الفتوى بالأزهر الشريف : أن عبادة ذكر الله تعد من أفضل الطاعات والقروبات وأجلها ، وقد رغبنا المولى تبارك وتعالى ونبيه الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ على فعلها ، لقوله سبحانه : {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا}[المزمل : 8] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه ، مثلُ الحي والميت» رواه البخاري ؛ ولكن هذه العبادة لها آداب يستحب علينا مراعاتها ، ومن هذه الآداب ـ أولاً : الوضوء فهو مستحب ولكنه ليس شرطاً عند الذكر ؛ وثانيًا: تنظيف الفم بالفرشاة أو بالسواك لأن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم كان قد أوصى به عند الوضوء والصلاة وفي مجالس الذكر ؛ وثالثًا : إخلاص النية لله وحده ، فالمسلم يجب ألا يجهر بالدعاء حتى يراه الناس لأن هذا يعد رياء ، والرياء شرك أصغر ويبطل الأعمال الصالحة ؛ ورابعًا : استقبال القبلة وإن كان هذا ليس شرطاً أيضًا ؛ وخامسًا : رفع اليدين عند الدعاء ؛ وسادسًا : الثقة واليقين بالله وحده وحسن التوكل عليه بإنه هو سبحانه المسبب الأسباب والقاضي للأمور والمؤخر لها لحكمة لا يعلمها إلا هو أما لدفع بلاءًا عنا أو لوقوعنا في المعاصي ؛ وسابعًا : البدء بالثناء على الله تعالى والصلاة والسلام على نبينا الكريم وعلى آله وصحبة وسلم عند الذكر ؛ وثامنًا : الإسرار بالذكر لأن أفضل ذكر هو الذكر الخفي ما لم يكن في موضع يجهر فيه بالذكر كمقام التعليم ؛ وتاسعًا : الخشوع والخضوع والخشية من الله تعالى أثناء الذكر ؛ وعاشرًا : استحضار القلب مع اللسان عند الذكر مع مراعاة أداء كل ذكر في وقته ، كما ورد من دون زيادة أو نقصان إلا في الذكر المطلق ، وإن كان ذكر الله - عز وجل - مستحبا في جميع الأوقات ، وذلك لما روي عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : «كان النبي صلى اللَّه عليه وسلم يذكر اللَّه على كل أحيانه» رواه مسلم .