قال وزير الأوقاف الدكتور محمد مختار جمعة إن الوسطية منهج حياة، وأننا لن نستطيع أن نقضي على التشدد ونقتلعه من جذوره ما لم نواجه التسيب و الانحراف الأخلاقي بنفس القدر من الحماس، ولابد من إحلال مناهج الفهم والتحليل محل مناهج الحفظ والتلقين، مشيرا إلى أن العلاقة بين القديم والحديث ليست علاقة صراع ولا يجب أن تكون، بل هي علاقة تكامل.
جاء ذلك في كلمة وزير الأوقاف خلال أولى جلسات الصالون الثقافي الذي نظمته كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، اليوم /السبت/، تحت عنوان (حوار التراث والحداثة في الأدب في ضوء كتاب "مسيرة النقد الأدبي وقضاياه").
ودعا جمعة إلى أن تتسع الصالونات الثقافية الجامعية لأوائل الدفعات من الحاصلين على تقدير امتياز وجيد جدًا، مؤكدًا أن الأصل في الأستاذ الجامعي أن يكون أستاذًا متمكنًا من مادته العلمية مهما ارتقى في مناصب إدارية أو تنفيذية، وأن الأصل في قيادات الأوقاف أن يكون عالمًا وخطيبًا مفوهًا متميزًا.
ولفت إلى أنه لا توجد الآن بوزارة الأوقاف أي ترقيات إدارية أو علمية إلا بامتحانات حتى درجة وكيل الوزارة وحتى درجة رئيس قطاع، وذلك لتحقيق التوازن بين الجانب الإداري والجانب العلمي، معربا عن اعتزازه وامتنانه بالمشاركة في الصالون بين كوكبة من القامات العلمية واللغوية.
ووجه التحية لعميد الكلية الدكتور غانم السعيد غانم على تنظيم هذا الصالون، متمنيًا له الاستمرار وأن يتسع للمدرسين المساعدين والمعيدين فهم الفئة الأكثر حاجة لحضور هذه اللقاءات، مثمنًا دور هذه الصالونات، وأنها ليست عملية شكلية وليست إضاعة للوقت، بل هي في صلب العملية التثقيفية، لأن الطالب النابه يستفيد من هذه الصالونات استفادة بالغة.
وأشاد وزير الأوقاف باختيار موضوع الصالون "حوار التراث والحداثة"، قائلا "نحن نرسخ المناهج الفكرية، ونحن كأزهريين جميعًا علينا أن نهتم بالمنهج الوسطي في جميع قضايانا حتى في حياتنا الشخصية لتصير أمرًا لازمًا لنا، وقد قال الإمام الأوزاعي (رحمه الله) "ما أمر الله عز وجل في الإسلام بأمر إلا حاول الشيطان أن يأتيك من إحدى جهتين لا يبالي أيهما أصح، من جهة الإفراط أو التفريط أو من جهة الغلو أو التقصير""، مشيرا إلى آخر المقالات التي نشرها، وهي "التطرف الحاد والمضاد".
وأضاف جمعة أنه عبر مقاله، أكد أننا لن نستطيع أن نقضي على التشدد ونقتلعه من جذوره ما لم نواجه التسيب والانحراف القيمي والإلحاد الموجه والممول وموجات التجريف الأخلاقي بنفس القوة والحماس، فالتطرف إلى أقصى اليسار كالتطرف إلى أقصى اليمين كلاهما مذموم سواءً بسواءٍ، كما أن التيارات اليسارية الأكثر تطرفًا في نفس خطورة التيارات اليمينية الأكثر تطرفًا، مشددا على أننا في تعاملاتنا مع الناس نحتاج إلى التوازن في المعاملة.
وحول قضية الثقافة، قال وزير الأوقاف "إن قضية الثقافة قضية تراكمية أشبه ما تكون بحال الإنسان والنبات، فكلّ منهما ينمو نموا قد لا يُرى ولا يُلحظ بالعين المجردة، لكنه يظل مستمرا ومطردًا حتى يستوي الطفل رجلًا وينتج النبات ثمرًا يانعًا، وكما لا يستطيع الإنسان أن ينكر مراحل طفولته وأنها أحد أهم مراحل حياته التي ينعكس أثرها على كل ما يليها من مراحل الحياة، فإن أحدًا لا يستطيع أن يُنكر أثر الجذور والمنطلقات المؤسِّسة لكل علمٍ، ولاسيما في مجال العلوم والفنون والآداب".
وأوضح أن العلاقة بين التراث والمعاصرة في الفكر النقدي شأن كثير من المتقابلات، ليست علاقة عداء أو قطيعة ولن تكون ولا ينبغي أن تكون، وأن الوسطية التي نحملها منهجًا ثابتًا في كل مناحي حياتنا ونجعل منها ميزانًا دقيقًا نزن بها أمورنا كلها، إنما هي منهج ثابت ننطلق منه في كل جوانب حياتنا العلمية والفكرية والفلسفية والتطبيقية، لا نحيد عن هذا المنهج قيد أنملة.. مؤكدا أننا لا نتعصب للقديم لمجرد قدمه، ولا نسلم زمام عقلنا للتقليد الأعمى دون أن نمعن النظر فيما ينقل إلينا أو يلقى علينا، فقد ميز الله الإنسان عن سائر الخلق بالعقل والفكر والتأمل والتدبر والتمييز.
ونوه بأن تراثنا النقدي من الفكر والثراء والتنوع ما يحتم علينا إعادة قراءة هذا التراث قراءة جديدة عصرية يمكن أن تشكل أساسًا قويًّا ومتينًا لبناء نظرية عربية في النقد الأدبي لا تنفصل عن تاريخها ولا عن هويتها ولا عن واقعها، بل يمكن أن تكون حال نضجها أحد أهم ملامح هويتنا الواقية وخصوصيتنا الثقافية في زمن العولمة والتيارات النقدية والفكرية والثقافية الجارفة.
ونبه إلى أهمية ألا نتخلف عن الركب، فنتشبث بآراء ونظريات ثبت عدم جدواها عند الغربيين أنفسهم، فدعا نقادهم إلى ضرورة مراجعتها أو تخلوا هم عنها وبحثوا عن نظريات أو رؤى أخرى جديدة رأوها أكثر دقةً وملاءمةً ونفعًا أو وجدوا فيها خيط نجاة جديد يخلصهم من تعقيدات وفلسفات بعض النظريات التي خرجت بالنقد الأدبي عن لبابه إلى معالجات انحرفت بالنص الأدبي عن مساره الطبيعي إلى مسارات أخرى ربما كان من الأجدى تطبيقها على علوم وفنون أخرى غير النص الأدبي ، إذ تبقى عظمة وخصوصية النص الأدبي والنقدي في كون كل منهما نصًّا ينطق أدبًا ويفيض أدبًا ويشع أدبًا قبل أي شيء آخر.
كما أكد أن العقلية العربية لم تكن أبدًا عقلية جامدة، بل كانت عقلية واعية وفطنة ناضجة، فهم أرباب الفصاحة والبلاغة والبيان، وإن اقتضت طبيعة حياتهم الأولى أن يكون نقدهم فطريًّا ذاتيًّا، مبينا أن الجذور التراثية لنقدنا الأدبي العربي قد شكلت منطلقًا ومرتكزًا قويًّا لنظريات النقد الأدبي العربي في عصوره المختلفة وصولاً إلى العصر الحاضر.
ومن جهته، أشاد الدكتور يوسف عامر رئيس لجنة الشئون الدينية والأوقاف بمجلس الشيوخ بجهود وزارة الأوقاف، مشيرا إلى جهود وزير الأوقاف الواضحة، حيث استطاع أن يضبط بقوة وحسم شئون المساجد، وأنه يدرك ظروف العصر ومستجداته ويدرك فقه الواقع واستفاد من التراث وعالج الواقع واستفادت منه الدولة المصرية والمسلمون والعرب، لأنه جدد الدعوة من حيث الأسلوب والمضمون والفكر وضرب النموذج الأمثل للأزهري المعتدل.
وبدوره، قال الدكتور غانم السعيد غانم "إن وزير الأوقاف استطاع أن يطهر المنابر من الأدعياء وأصحاب الفكر المتطرف، فلم يعد يصعد المنابر الآن إلا الأزهري المعتدل، كما أنه يجمع بين المناهج التراثية والحداثية في النقد الأدبي، فكما أنه متمكن من قضايا التراث فهو أيضًا متمكن من مناهج الحداثة وقضايا التجديد في النقد"، منوها بأن هذا اللقاء هو باكورة لقاءات سوف تتكرر في الصالون الثقافي لكلية اللغة العربية.
وأهدى غانم درع الكلية إلى وزير الأوقاف تقديرًا لجهوده الدعوية والعلمية والوطنية المخلصة، وسعيه الدائم وجهده المتواصل في نشر الفكر الوسطي المستنير وتصحيح الأفكار الخاطئة، واهتمامه الدائم باللغة العربية دراسة وتطبيقًا والعمل على نشرها.
وقد حضر الجلسة كل من: الدكتور إبراهيم صلاح الهدهد رئيس قسم البلاغة والنقد بالكلية رئيس جامعة الأزهر السابق، والدكتور صلاح الدين عاشور وكيل كلية اللغة العربية لشئون التعليم والطلاب، والدكتور محمد عبدالوهاب المليجي وكيل كلية اللغة العربية لشئون الدراسات العليا، والدكتور السيد أبو شنب رئيس قسم الأدب والنقد بالكلية، والدكتور حسني التلاوي وكيل كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين لشئون التعليم والطلاب، والدكتور زهران محمد جبر أستاذ الأدب والنقد ورئيس اللجنة العلمية لترقية الأساتذة بجامعة الأزهر، والدكتور علاء جانب الأستاذ بقسم الأدب والنقد بكلية اللغة العربية، ولفيف من أعضاء هيئة التدريس والهيئة المعاونة وعدد من الباحثين.