إيهاب الملاح يكتب: في اليوم العالمي للغة العربية.. ذكريات وخواطر!

إيهاب الملاح يكتب: في اليوم العالمي للغة العربية.. ذكريات وخواطر!إيهاب الملاح يكتب: في اليوم العالمي للغة العربية.. ذكريات وخواطر!

*سلايد رئيسى20-12-2017 | 17:42

خصصت الأمم المتحدة يوم الثامن عشر من ديسمبر، من كل عام، يومًا عالميا للاحتفال باللغة العربية، إحدى اللغات الست الرسمية المستخدمة في أروقة المنظمة الدولية. يتمثل الغرض من هذا اليوم في زيادة الوعي بين موظفي الأمم المتحدة بتاريخ كلٍّ من اللغات الرسمية الست وثقافتها وتطورها، ولكل لغة من اللغات الحرية في اختيار الأسلوب الذي تجده مناسبًا في إعداد برنامج أنشطة لليوم الخاص بها، بما في ذلك دعوة شعراء وكتاب وأدباء معروفين، بالإضافة إلى تطوير مواد إعلامية متعلقة بالحدث.

قصة هذا الاحتفال تعود إلى القرار رقم (3190) الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 18 ديسمبر من العام 1973 خلال دورتها الـ28، والذي قررت بموجبه إدخال اللغة العربية ضمن لغات العمل الرسمية في الأمم المتحدة، فيما اعتمدت إدارة الأمم المتحدة لشؤون الإعلام قرارًا عشية الاحتفال باليوم الدولي للغة الأم الذي يحتفل به في 21 فبراير من كل عام، بناء على مبادرة من اليونسكو للاحتفال بكل لغة من اللغات الرسمية الست للأمم المتحدة.

يقول أستاذنا د.محمود فهمي حجازي، شيخ شيوخ علم اللغة العربية وعلم اللغة الحديث في الجامعات العربية والعالمية، عن موقع اللغة العربية بين لغات الدنيا: "اللغة العربية من حيث عدد المتحدثين بها، كلغة أولى أو ثانية، تحتل المركز الرابع بين لغات العالم، وهذا موقع متقدم جدا".

وأعترف بأنني لم أكن أعلم شيئًا عن الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، إلا منذ عامين فقط. وفوجئت حينها بحالة عارمة من الاشتياق، وطوفان من الإعزاز والتقدير للغتنا الجميلة، ومن خارج الأوساط التقليدية والمحافظة الجامدة.. ثمة تيار عام ساعدت على تنميته وإذكائه وسائلُ السوشيال ميديا، وما تلعبه من أدوار خطيرة في حياة البشر؛ سلبا وإيجابا، وكان من أفضالها التي لا بد أن نعترف بها ونشكرها عليها صعود هذا الشعور الجارف المحب، وإن لم يترجم بعد بكامل حمولته الحماسية وعنفوان طاقته إلى تعميم ثقافة لغوية شاملة، وتوفير حد أدنى من الاستخدام اللغوي المقبول، على الأقل في أجهزة الدولة ومؤسساتها وبين مسؤوليها.. لأسباب كثيرة أفضنا في الإشارة إليها مرارا وتكرارًا..

لكن الأهم، الآن، أن ثمة رغبة عارمة، مخلصة، صادقة تشيع بين أوساط عديدة تتباين ثقافاتهم ومستويات تعليمهم وتتسع لتشمل فئات عمرية تبدأ من الثانية عشرة حتى السبعين! رغبة فيها حنين وافتقاد واحترام للغتنا العربية؛ ورغم كل الظروف السيئة وحالة التردي المرعبة التي وصل إليها تعليمنا البائس، ومناخ فاسد يعاني فيه المخلصون والقابضون على جمر العلم والمعرفة يتنقلون فوق حقول ألغام، ومجال عام خلا من التفكير والسؤال والنقد، وتسيده أصحاب الآفاق المنغلقة والنظرات المتطرفة، لكن دائمًا ما تبزغ نقطة نور في وسط العتمة قد تكون هي البداية، هي نقطة الانطلاق..

لذا، ولكل ما سبق، فإنني أحببت أن أحتفل باليوم العالمي للغة العربية، هذا العام، على طريقتي الخاصة، أستعيد ذكرياتٍ ونصوصًا تكشف جانبا من جمال وحيوية ونضارة وعصرية هذه اللغة، وتجتهد في الإشارة إلى كتب وأعلام وأساتذة بذلوا من الجهد ما قدموا به إسهامات جليلة لهذه اللغة الجميلة ولثقافتها العريقة.

(2)

تخرجتُ في كلية الآداب، قسم اللغة العربية وآدابها، وأعترف أن نظرتي وفهمي لهذه اللغة قد تغير بالكلِّيَّة خلال سنوات الدراسة الأربع، امتلكتُ مفاتيح ومداخل مكنتني من اكتشاف آفاق وكنوز لم أكن أعلم عنها شيئًا قبل دراستي بها. وأتمنى أن يأتي يوم قريب، إن شاء الله، وأكتب تفصيلا عن هذه الفترة من العمر؛ حينما كنا نكتشف ذواتنا ونكتشف قدراتنا وإمكاناتنا، ونعيد اكتشاف العالم من حولنا، حيث لعب قسم اللغة العربية وآدابها، بتقاليده العريقة وأساتذته العظام الذين مَخَضوا عقولنا مخضًا، أهمَّ وأكبر الأدوار في ذلك.

علمنا أساتذتنا أولَّ درسٍ وأهمه؛ تقديرك للأستاذ لا يعني خضوعك له وانمحاء ذاتك في شخصه.. علمونا أن تكوين وجهة نظر وطرح سؤال سليم ومتماسك أهم من إطلاق الأحكام والانحياز الأعمى لأي رأي.. علمونا أن نعتد بأنفسنا وأن نتمرد لكن بتحقيق شرطه اللازم، المعرفة، لا تمرد أصيل بلا معرفة ولا تجاوز إلا بوعي وثقافة. علمونا أن رؤية العالم نسبية ولا يقين في إبداء رأي أو اختلاف..

لو لم يكن في حياتي إلا هذا لكفاني وأغناني..

(3)

وفي اليوم العالمي للغة العربية، أحببت أن أنوه إلى جهود أحد الكتّاب الكبار الذين تفننوا في الكشف عن جمال العربية وخصائصها الذاتية، وهو عميد الأدب العربي، والرئيس الراحل لمجمع اللغة العربية، الدكتور طه حسين (1889 - 1973)، الذي نقلت عنه بعض نصوصه الرائعة التي تدور حول اللغة العربية؛ همومها وشجونها، وتحمل بعضا من بصيرته النافذة وحسه المذهل، فكان ذلك التجاوب  الرائع المدهش مع تلك النصوص..

طه حسين هو صاحب المقولة الخالدة "لغتنا يسر لا عسر"، وقد كان من نفاذ البصيرة ونقاء الحس أن يقرر «إننا لا نُعلِّم اللغة العربية؛ لأنها لغةُ الدين أو لغةُ القدماء فحسب، بل نُعلِّمُها ونتعلَّمُها لأنها لغتُنا ولغةُ أجيالنا القادمة»، وهو الذي أدرك صدقا أننا "لا بد من أن نعترف بأن أخص ما تمتاز به مدارسنا هو أنها تُبغِّض اللغة العربية إلى التلاميذ في سنيهم الأولى، وتبغضها إليهم في أول الشباب حين يكونون في المدارس الثانوية، وما أرى أنها تحببها إليهم حين يبلغون التعليم العالي في الجامعة أو في غيرها من المعاهد؛ وذلك لأن اللغة العربية وآدابها تدرس في هذه الأيام كما كانت تدرس منذ اثني عشر قرنًا؛ لم يتطور تعليمها، والدنيا من حولها قد تطورت وتغيرت تغيرًا تامٍّا؛ فالنحو - كما يعلم الآن - هو نفس النحو الذي كان يعلم منذ اثني عشر قرنًا، والأدب -كما يدرس الآن- هو الذي كان يدرس منذ اثني عشر قرنًا، تضاف إليه الآداب التي أنشئت على اختلاف العصور؛ فتزيده ثقلًا إلى ثقل، وجفوة إلى جفوة، وعسرًا إلى عسر..". وهذا بعض ما كتبه طه حسين في كتابه «أدبنا الحديث ما له وما عليه» عن أزمة تعليم اللغة العربية في المؤسسات التعليمية.. وما زال ما كتبه يصدق على حالنا حتى اليوم!

(4)

ثم كان ما كتبته على صفحتي الشخصية على «فيسبوك» من تحية صادقة مخلصة -في سياق الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية- لأحد رجالات اللغة العربية الأفذاذ في هذا الزمان، رجل يوازي جهده ومنجزه مؤسسة بأكملها. وجهت التحية إلى العلّامة الجليل الدكتور سعد مصلوح الذي لم أتشرف بلقائه ولو مرة واحدة. لكن كان لي شرف التتلمذ على بعض علمه الوافر الغزير، ثم أدركت لاحقا -أمام ما أنجزه هذا الرجل- معنى كلمة "عالم" بكل ما تعنيه الكلمة. وهو، كما يقول جابر عصفور، ممن تعلم على تراث ممتد، وآمن بمقولة الشيخ أمين الخولي إن "أول التجديد قتل القديم درسا"، وكلهم أشبه بشهرزاد ألف ليلة وليلة، قرأ ودرس، وعرف علوم العرب والعجم، فسعد مصلوح دارس استثنائي للتراث اللغوي والبلاغي، وحصل على الدكتوراه في اللغويات من جامعة موسكو، وأكمل ذلك بمعرفة مصادر اللغويات الحديثة، وعلومها الأحدث، ومنها نظرية الترجمة، في التقاليد الأنجلوسكسونية التي لا تزال متجددة.

وفي اليوم العالمي للغة العربية، أحببت أيضًا أن أشير إلى عبقرية لغوية وجمالية فذة أنتجتها الثقافة العربية في القرن الخامس الهجري، اللغوي والبلاغي الفذ عبد القاهر الجرجاني (توفي 471هـ) صاحب كتابي «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز»؛ وهما ما هما في حقل الدراسات اللغوية والجمالية للغة القرآن الكريم.. وكان المرحوم محمد مندور يعتبر عبد القاهر الجرجاني من ذلك النفر القليل من أعلام العرب القدماء الذين تخطوا عصرهم وسبقوا إلى نواحٍ من البحث اللُّغويّ والجمالي، لا يمكن فهم فضلهم فيها وبلورة هذا الفضل وبنائه في كل موحد متجانس إلاَّ في ضوء ما انتهت إليه الأبحاث العالمية في علوم اللُّغة والجمال.

يُشبِّه مندور عبد القاهر الجرجاني بابن خلدون، يقول "مثله في ذلك مثل ابن خلدون بالنسبة لعلم الاجتماع الذي كان يسميه علم العمران، فلا يستطيع فهمَه واستخلاصَ نظريةٍ عامَّة متكاملة من أبحاثه إلاَّ مَنْ يحيطون بما وصل إليه علمُ الاجتماع الحديث على النطاق العالمي من نظريات وأبحاث فلسفية متكاملة".

وكل من أوتي حظا من البصر بالعربية، واتصل بعلومها، يعلم فضل ومكانة الجرجاني بما أبدعه في هذين الكتابين الجليلين (أحسن طبعاتهما ما قام بقراءته والتعليق عليه المحقق الجليل المرحوم محمود محمد شاكر، الذي لا أتصور أن يقرأ الكتابين بمعزل عن تعليقاته وإيضاحاته وشروحه)..

وما زلت على قناعتي بأن من يفرغ لقراءة هذين الكتابين باستيعاب وعمق ويتحضر لهما تحضيرا حسنا فإنه قد أوتي نصيبا وافرا من العلم بالعربية لا لغة فقط بل جمالا أيضا وعبقرية تركيب وأداء وتعبير.. ويقع على كنوز باهرة من طاقات هذه اللغة وجمالياتها النضرة العذبة البهيجة..

(5)

وأخيرًا.. كانت لفتة كريمة من مجمع اللغة العربية بالقاهرة؛ واحد من هيئاتنا العلمية الرفيعة ذات التقدير والتوقير، أن يقرر تكريمي خلال الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية السبت القادم. لفتة كريمة ومهذبة، لا أملك إلا شكر المجمع والقائمين عليه شكرًا وافرًا وجزيلًا.. وأخص بوافر الشكر والتقدير الأخ والصديق الأستاذ أحمد أبوحوسة؛ أحد أركان المجمع ودينامو النشاط والحيوية الذي أضفى رونقا وحضورا مجددا لهذه الهيئة العلمية العريقة..

وكل عام وحضراتكم بخير.. ولغتنا جميلة، بهية، نضرة.. ويسر لا عسر.

    أضف تعليق