تحل اليوم الإثنين، ذكرى وفاة أحد أشهر علماء المسلمين مُجدِّد عصره، وإمام زمانه و حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، والتي توافق 14 جمادى الآخرة.
ومن خلال السطور التالية نقدم نبذة بأبرز المحطات في مسيرته الخالدة:
مولده ونشأته
وُلد الإمام أبو حامد، محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزَالي -بالتَّخفيف- نسبة إِلَى قَرْيَةٍ يُقَالَ لَهَا: غَزَالَةُ، في طوس إحدى مدن «إيران» الأثرية، (450 هـ /1058م - 505 هـ / 1111م)، وعاش بها في صدر حياته، وبدأ فيها طلب العلم.
وكان والده يغزل الصّوف ويبيعه في دكانه بطوس، فلما احتضر أوصى به وبأخيه أحمد إلى صديق له صُوفيّ صالح، وترك لهما شيئًا من المال، فظلَّ الرجل يُعَلِّمُهما حتى فَنِيَ ما خَلَّفَه لهما أبوهما، وتَعَذَّرَ عليهما القُوتُ، فدَفَعَهُما إلى المدرسة كأنهما طالبا علم؛ لتحصيل القوت لا لتحصيل العلم؛ طلبًا لما كانت تفرضه المدارس لطلابها من الرعاية والقوت آنذاك.
رحلته العلمية
ظلَّ أبو حامد الغزالي يطلب العلم بطوس على يد كبار علمائها؛ حتى فاق أقرانه، ثمَّ ارتحل منها إلى جُرجان، ثم إلى نيسابور؛ ليلازم إمام الحرمين أبا المعالي الجويني -رحمه الله-، ولينهل من علومه.
ثم رحل إلى بغداد، وتولى بها التَّدريس في مدرستها النِّظَامية في عهد الدولة العباسية بطلب من الوزير السلجوقي (نِظَام المُلْك)، وكان في تلك الفترة قد اشتُهر شهرةً واسعةً، وذاع صِيتُه في الآفاق؛ حتى صار مَقْصدًا لطلاب العلم من جميع البلدان، وكان يحضر مجلسه أكابر العلماء؛ للاستماع إليه وتلقي العلوم على يديه أمثال ابن عقيل، وأبي الخطاب، وعبد القادر الجيلاني، وأبي بكر بن العربي؛ لما رُزِقَه -رحمه الله- من حظٍّ وافرٍ في حُسْن التَّصانيف وجودتها، مع تبحُّر في غيرِ ما نَوْعٍ منها بدرايةٍ، وإتقانٍ، وتَمَكُّنٍ بالغٍ في دقائق ما يُتفنَّن فيه.
اعتزاله الناس
بعد فترة طويلة من التعلم والتعليم وتصنيف الكتب شعر الإمام الغزالي أنه أغرق في العلوم الفلسفية والباطنية، وابتعد عن علم التصوف والتزكية الروحية، وعلوم الآخرة؛ فاعتزل التدريس، وابتعد عن الناس فترة من الزمان، وتعمق في تجربته الصوفية؛ مصاحبًا الشيخ الفضل بن محمد الفارمذي، تلميذ الشيخ القشيري.
ويصف الإمام حاله هذه في كتابه المنقذ من الضلال بقوله: «ثم لاحظت أحوالي، فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من الجوانب، ولاحظت أعمالي -وأحسنها التدريس والتعليم- فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة، ولا نافعة في طريق الآخرة، ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني قد أشفيت على النار، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال .. فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا، ودواعي الآخرة، قريباً من ستة أشهر أولها رجب سنة 488 هـ، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يومًا واحدًا؛ تطييبًا لقلوب المختلفة إلي، فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة، ولا أستطيعها البتة، ثم لما أحسست بعجزي، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأهل والولد والأصحاب».
وبعد 11 سنة من العزلة والتنقل بين «الشام والحجاز، والقدس، ومصر» -ألف فيها كتابه الشهير «إحياء علوم الدين»- عاد مرة أخرى للتدريس بالمدرسة النظامية، ولم يدم الأمر طويلًا حتى عاد إلى بلدته طوس؛ موزعًا وقته بين العبادة، والتدريس، والعزلة في خلوته.
مؤلفاته
ألف الإمام الغزالي العديد من التَّصانيف البديعة الغزيرة في شتى الفنون، حتى قيل: إن تصانيفه لو وُزِّعت على أيام عُمُره لأصاب كلَّ يومٍ كتابٌ! وقد تميزت كتاباته بحسن العرض، ودقة العبارة، وبراعة الاستدلال، وقوة الحُجَّة، وصِدق الحِسّ.
ومن أبرز مؤلفاته: «الاقتصاد في الاعتقاد»، «إحياء علوم الدين»، «المنقذ من الضلال»، «بغية المريد في مسائل التوحيد»، «إلجام العوام عن علم الكلام»، «المقصد الأسنى شرح أسماء الله الحسنى»ن «المعارف العقلية ولباب الحكمة الإلهية»، «القانون الكلي في التأويل»، «بداية الهداية»، «مكاشفة القلوب المقرب إلى حضرة علام الغيوب»، «غاية الغور في دراية الدور»، «المستصفى في علم أصول الفقه»، «المنخول في علم الأصول»، «تهذيب الأصول»، «المبادئ والغايات»، «شفاء الغليل في القياس والتعليل»، وغيرها من الكتب النافعة والمؤلفات الفائقة.
تلاميذه
تلقى العلم على الشيخ العديد من طلاب العلم، والمريدين، الذين أصبحوا من كبار أئمة عصرهم، ومن أشهرهم: الشيخ عبد القادر الجيلاني، والشيخ الإسفرايني، والشيخ أبو بكر بن العربي القاضي المالكي، والشيخ محمد بن يحيى بن منصور، والشيخ أبو الفتح أحمد بن علي بن محمد بن برهان، والشيخ أبو الفتح أحمد بن علي بن محمد بن برهان، وغيرهم كثير ممن ملئوا طباق الأرض علمًا.
أقوال العلماء عنه
قال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: (الشيخ الإمام البحر، حجة الإسلام، أعجوبة الزمان، زين الدين أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي، الغزالي، صاحب التصانيف والذكاء المفرط).
قال عنه الإمام الجوزي في المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: (صنف الكتب الحسان في الأصول والفروع، التي انفرد بحسن وضعها وترتيبها، وتحقيق الكلام فيها).
وقال عنه الإمام أبو الحسن الشاذلي كما جاء في لطائف المنن: (إذا عرضت لكم إلى الله حاجة فتوسلوا إليه بالإمام أبي حامد).
وفاته
عاش الإمام الغزالي حياته مؤدِّيًا حقَّ دينِه ودعوته، ومُدافعًا عن هُوية أمَّته، وتاركًا تراثًا علميًّا ومعرفيًّا ضخمًا، وتلاميذ ومُرِيدين، وللإمام سيرة ثريَّة مضيئة سَجَّل جُلَّ أحداثها في كتابه: «المُنقِذ من الضلال» لمن أراد الاستزادة منها.
روى أبو الفرج بن الجوزي في وفاته عن أبي الفتوح أحمد الغزالي -أخي الإمام أبي حامد الغزالي- قال: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ الاثْنَيْنِ وَقْتَ الصُّبْحِ تَوَضَّأَ أَخِي أَبُو حَامِدٍ، وَصَلَّى، وَقَالَ: "عَلَيَّ بِالْكَفَنِ"، فَأَخَذَهُ وَقَبَّلَهُ وَتَرَكَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: "سَمْعًا وَطَاعَةً للدُّخُول عَلَى الْمَلِكِ" ثُمَّ مَدَّ رِجْلَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَمَاتَ قَبْلَ الإِسْفَارِ» [الثَّبات عند الممات]،وكانت في 14جمادى الآخرة 505 هـ، بمدينة طوس.