بعض الأفلام تبدو هامة، ولكنها لا تصل إلى مستوى أهمية موضوعها وخطورته، ولا تكمل ذلك بمعالجات قوية وناضجة. من هذه النوعية فيلم «الكاهن»، تأليف محمد ناير وإخراج عثمان أبو لبن، وهو الفيلم الذي اختتم الموسم السينمائي لعام 2021.
إنه فيلم هام بمعيار موضوعه، حيث يمكن اعتباره أول فيلم مصري وعربي يدور بأكمله حول خطر الماسونية، كما أن الفيلم هو ثاني فيلم فى موسم 2021، بعد فيلم «العارف»، يحذر من جديد من حروب مبتكرة مادتها المعرفة والمعلومات، تسمى حروب الجيل الرابع، وهو أيضا فيلم ليس صغير الإنتاج، بالنظر الى حشد النجوم الذين قاموا ببطولته، من دول عربية متنوعة.
فمن الأردن إياد نصار ومن تونس درة، ومن سوريا جمال سليمان فى عودة جديدة للسينما، ومن مصر حسين فهمي، فى عودة أيضا للسينما، وكذلك محسن محيي الدين وفتحي عبد الوهاب وأحمد فؤاد سليم وحنان سليمان، أما مخرج الفيلم فهو الفلسطيني عثمان أبو لبن، والإنتاج سعودي مصري.
ولكن هذه الأهمية لا تكافئها معالجة متماسكة، رغم تميز عناصر فنية بعينها، مثل تصوير أحمد يعقوب، وموسيقى أشرف محروس، وديكور أيمن إلهامي، إذ سرعان ما سنكتشف، رغم البناء البوليسي المشوق، أن هناك ثغرات واسعة للغاية، ومشكلات فى الكتابة، تجعل من عمل محوره المؤامرة الكونية، والتنظيم السري العالمي، أقرب إلى السذاجة، وأبعد ما يكون عن الذكاء، وتجعل المؤامرة هشة وعبيطة، فيما يريد الفيلم أن يحذرنا من عكس ذلك على طول الخط، بل وبدت فكرة التنظيم العالمي الذي يعتمد على المعلومة والمعرفة، تفتقد إلى المعلومة والمعرفة، وتمتزج بكثير من التشوش والاضطراب، فلا تعرف بالضبط هل أنت أمام حروب مافيا وعصابات؟ أم أمام أيدلوجية غامضة؟ أم أن الأمر مجرد صراع بوليسي وتصفيات مبتادلة للحصول على النفوذ؟
سأعرض تفصيلا لهذه الثغرات، ولكن ليس قبل أن تعرف الخطوط العامة للسيناريو، الذي يبدأ مباشرة بالتحذير فى لقطات قصيرة من خطر أجهزة التليفون الذكية، التي تتجمع معلوماتها على سيرفرات (خوادم)، تسيطر عليها شركات بعينها، ومنها تلك الشركة العملاقة التي مات أحد أعضاء مجلس إدارتها، لنكتشف أن الشركة ما هي إلا تنظيم سري عالمي، يريد شراء كل السيرفرات، لاحتكار المعرفة.
وبينما يتعرض عالم يدعى مصطفى (محسن محي الدين) للاغتيال، لتحذيره فى ندوة عالمية من الشركة العملاقة، تقوم صحفية هي فيروز (درة)، وزوجها الصحفي حسن (إياد نصار)، باكتشاف طبيعة الشركة الغامضة، ويدفعان ثمنا باهظا لذلك، رغم دعم أكمل (جمال سليمان) لهما، وهو مالك لصحف ولقنوات فضائية، على الطرف الآخر، نجد محاولة من صلاح (حسين فهمي)، ومحاميه يحيى (محمود حميدة)، للسيطرة على الشركة/التنظيم السري، بشراء أسهم العضو الذي مات، لكي يصبح صلاح هو الزعيم الجديد لتنظيم يعتمد على الدم والعنف، ويمتد منذ أربعة آلاف سنة!.
اعتمد السرد على الانتقالات السريعة، ربما بأسرع ما يحتاج الفيلم، واعتمد كذلك على عدد كبير نسبيا من الشخصيات، مما أحدث بعض الاضطراب، بالذات فى النصف الأول من الفيلم، لكنه عموما بناء مشوق، ينقل المشاهد إلى قلب الصراع، يبدأ بدمج الخطوط معا، ثم يقوم بتفكيكها، ويشرح سر هذا التشابك، كما يحتفظ السيناريو بأكثر من مفاجأة فى الجزء الأخير منه، ولكنه يبدو رغم كل ذلك أسيرا لثغرات مزعجة وواضحة، فبينما تدور الأحداث حول مؤامرة كونية مهولة، تديرها منظمة شرسة، فإن طرف الصراع الثاني (الصحفي وزوجته) هزيل، ولا يحركه إلا الانتقام الفردي، وهو أمر لا يمكن تخيله لو واجها بلطجية أو عصابة صغيرة، فما بالنا بمواجهة محفل خطير ومهول؟ّ!
المحفل نفسه وأهدافه تبدو غامضة فى الفيلم، وحكاية ظهوره من عصر ما بعد إخناتون تبدو «واسعة شويتين»، وبينما تجري الأحداث فى مصر بالتحديد، فإن الفيلم لا يوضح سبب وجود تنظيم سري عالمي على أرضنا على وجه الخصوص، فيما يفترض أننا أمام تنظيم عابر للحدود والدول، وأعضاء مجلس الإدارة متعددو الأسماء الأجنبية. لن تعرف بالضبط ما هو الهدف من السيطرة على معلومات الناس؟ هل هو هدف اقتصادي أم سياسي أم ديني أم استعماري؟ إنه خطر كبير ما يقوده بشر يفتقدون المكر، ولديهم شركة معلنة، ونرى فى أول الفيلم صلاح وهو ينظم حفلة كبيرة، ويواجه علنا تحدي غريمه أكمل!
وامتدادا للتشوش عليك أن تخمن لحساب من يعمل علي لأن الفيلم لا يوضح شيئا؟ وأن تتخيل أين اختفى صلاح فجأة؟ وكيف عاد للظهور فجأة؟ وعليك أيضا أن تتحمل صرخات درة وإياد نصار طوال الفيلم حزنا على ابنتهما، مع تكرار التأكيد على حكاية الابنة وكأن المعلومة لم تصل، وعليك أيضا أن تصدق لعبة عجيبة تجعل تنظيميا عالميا خطيرا يطارد صحفية لا تملك سوى اختراق حسابات شركة، لكي تتهمها بأنها تنظيم سري كوني!! وأن تبتلع أن شراء أحد أعضاء مجلس الإدارة لأسهم شريك متوف يعني أن هناك مؤامرة معلوماتية هائلة فى المجرة الأرضية، أما حكاية استخدام أرقام مستمدة من الحضارة الفرعونية لمعرفة مكان انعقاد المحفل، فهي مسألة مدهشة تعيدنا إلى مغامرات الأصدقاء الخمسة اللطيفة.
هناك جهد كبير بلا شك فى بناء أحداث مشوقة، إذا نظرت للفيلم بلقطة بعيدة، ولكن ما إن تقترب فى كلوز أب، حتى تكتشف سذاجة التفاصيل، والانصراف إلى التشويق، بدلا من الدراسة بالعمق للمؤامرة المزعومة، وبدلا من ضبط أطراف الصراع ومبرراتهم، على الأقل حتى نقتنع بأن ما نراه يتجاوز شغل المافيا، وحتى نصدق أن هناك أجهزة قوية تواجه الخطر، بصورة ذكية، وليس بطريقة أكثر عبطا وسذاجة من التنظيم العجيب.
لا يبقى فى الذاكرة بعد كل هذا الجهد سوى مشاهد جيدة منفصلة، أبرزها تتابعات الذهاب إلى اجتماع المحفل، بمراكب خاصة، ولا تسألني عن مكان اللقاء، فهو سري وغامض جدا، فربما يكون فى السخنة أو شرم، المهم أن تؤمن بوجود خطر مخيف، رغم أنك رأيت بنفسك أن التنظيم يصفي نفسه بنفسه، وأن صحفية وصحفي ينوبان عنا، قد أرعبا التنظيم السري وزعيمه، وأن محسن محي الدين قد ثرثر فى ندوة بكلام عام وساذج، فأزعج المتآمرين على البشرية من أربعة آلاف سنة!!
اطمئنوا ولا تقلقوا، صحيح يوضع سره فى أضعف خلقه.