سبق صحفي عالمي تنفرد به « أكتوبر» لغز سفينة التجسس ليبرتى!

سبق صحفي عالمي تنفرد به « أكتوبر» لغز سفينة التجسس ليبرتى!سفينة التجسس ليبرتى

كنوز أكتوبر20-2-2022 | 20:17

فى الإعادة كثير من الاستفادة.. فالتاريخ غالبًا يعيد نفسه. وعلى هذه الصفحات نعيد نشر موضوعات من أعداد سابقة ل مجلة أكتوبر قد تتشابه الأحداث مع واقعنا الحالى، وقد تختلف عنه ولكنها تظل جزء من ذاكرة الشعب المصرى فى فترة من تاريخ مصر

إننا نقدم لأول مرة القصة الحقيقية لضرب سفينة التجسس الأمريكية «ليبرتى» فى اليوم الرابع من حرب 5 يونيو 1967.


لقد أصيب العالم بدهشة عندما هجمت الطائرات الزوارق الإسرائيلية على السفينة الأمريكية بالقرب من شاطئ غزة وضربتها بوحشية وشراسة مجنونة، وقتلت 24 ضابطًا وبحارًا أمريكيًا، وأصابت 164 آخرين.. كان تصرفًا غريبًا.. وطائشًا.. ومجنونًا.. وحيّر العالم سؤال مهم.. لماذا ضربت إسرائيل «ليبرتى»؟!بررت القيادة الإسرائيلية هذا التصرف الغريب بأنه كان مجرد غلطة غير مقصودة، فقد توهمت أنها مدمرة مصرية.

وابتلعت الحكومة الأمريكية هذا الاعتذار، وأسدلت ستار الصمت على أغرب عمليات حرب يونيو.

وظل العالم حائرًا، ولم يعرف أحد لماذا ضربت إسرائيل المدمرة «ليبرتى»؟

اللواء البحرى المتقاعد يوسف سماحة، قائد قاعدة بورسعيد البحرية وقائد عمليات القوات البحرية بالمنطقة الشرقية.. أى جبهة المواجهة مع إسرائيل كلها على البحر الأبيض أثناء معركة 5 يونيو 1967 يروى لـ «أكتوبر» الحقيقة الكاملة.. يقول: إن رمانة هى السبب فى ضرب ليبرتى! واستطرد اللواء سماحة قائلاً:
فاجأت لنشات الصواريخ البحرية المصرية التجمعات الإسرائيلية فى منطقة رمانة شرق بورفؤاد، ووجهت لها ضربات موجعة، اشتعلت النيران فى لواء إسرائيلى مدرع ومراكز وقود وبنزين وتموين العدو، فأصيبت القيادة الإسرائيلية بهستيريا، وخرجت الطائرات والزوارق الإسرائيلية تبحث عن القطع البحرية المصرية التى وجهت هذه الضربة الموجعة.
لكنهم لن يعثروا إلا على سفينة التجسس الأمريكية «ليبرتى»، لأن لنشات الصواريخ المصرية كانت قد اختفت بعد أن استمع قائدها الشجاع إلى كلمة السر من قيادته.

صرخ القائد المصرى: سبع عُد إلى قاعدتك!

فلم يجد الإسرائيليون سوى ليبرتى!.. فضربوها بوحشية.. وهم يتوهمون أنها مدمرة مصرية!

تلك الحقيقة.. بلا رتوش، وقبل أن نقدم تفاصيل الرواية المصرية لضرب ليبرتى.. نقدم رواية أمريكية ظهرت فجأة، ونشرتها مجلة «بنت هاوس» الأمريكية فى يونيو الماضى وكتبها الصحفى الأمريكى «أنتونى بيرسون».
إنها تكشف كل المغالطات.. تزييف الحقائق.. وتزوير التاريخ.


والحقائق الثابتة تقول: كان غريبًا جدًا أن تضرب إسرائيل «ليبرتى» بالذات بعد الدور الخطير الهام الذى لعبته سفينة التجسس الأمريكية، فقد لعبت «ليبرتى» دورا من أخطر الأدوار فى حرب يونيو.. إنها كانت تقوم بعملية تجسس دنيئة.. تعرف باسم «الطبخ».
فهى مزودة بمعدات تجسس بالغة التعقيد، وتقوم بالتصنت والتقاط جميع الرسائل المتبادلة بين الزعماء والقادة العرب.. أثناء الحرب.

وفى يوم 8 يونيو.. رابع أيام الحرب، كانت القدس قد سقطت بعد أن لقيت القوات الأردنية هزيمة قاسية، وعربدت طائرات الميراج فى سماء المنطقة.. فقد كان سلاح الطيران المصرى قد دمر فى وقت مبكر من أول أيام القتال.
ولم يعد هناك سوى سوريا والجولان.. وكان محددًا لها اليوم الرابع من أيام القتال.

وفجأة.. وفى منتصف الليل تمت العملية الغريبة.

ذاقت «ليبرتى» طبيخها القذر، أو جرعت بعض سمومها.

فقد هجمت عليها الطائرات والزوارق الإسرائيلية، وضربتها بشراسة، وعندما سحبت إلى ميناء «فاليتا» فى مالطة فى يوم 14 يونيو.. كانت حالتها فى منتهى السوء، فقد أحصى عمال الحوض الجاف بها 821 إصابة من الصواريخ ونيران المدفعية والرشاشات، وقد أصابتهم الدهشة من أن السفينة لا تزال على قيد الحياة!


اهتزت وكالات الأنباء العالمية أمام هذا الحدث الغريب، وتابع العالم بدهشة هذه العملية، فلم يكن هناك مبرر منطقى واحد يبررها.

«مؤامرة الصمت».. رواية أمريكية

وبقى السؤال الهام.. لماذا ضربت إسرائيل «ليبرتى»؟


إن الرواية الأمريكية التى ظهرت فى شهر يونيو الماضى باسم «الهجوم على السفينة الأمريكية ليبرتى» تفضح مؤامرة الصمت.. لإخفاء الحقيقة فى قصة السفينة الأمريكية، وقد نشرتها مجلة «بنت هاوس» الأمريكية، وكتبها الصحفى «أنتونى بيرسون».

وكانت رواية أكثر غرابة من عملية الهجوم على السفينة نفسها، فقد قدم تفسيرات أكثر شذوذا.. غير منطقية، وغير معقولة.. عن ضرب «ليبرتى».

فقد أفتى المستر بيرسون بأن إسرائيل ضربت ليبرتى.. حتى تتمكن من التوسع فى عملياتها العسكرية على الجبهات العربية، بعد الانتصارات المبكرة السريعة التى حققتها.

واعترف بيرسون بعملية «الطبخ» الرسائل بين الزعماء العرب، وبخاصة بين الرئيس ناصر والملك حسين.. وقال: إن هذه الرسائل المطبوخة دفعت الملك حسين والرئيس ناصر إلى الاعتقاد بأن الحرب يمكن أن تسير لصالح العرب.

ودفعهم هذا الاعتقاد إلى الاستمرار فى الحرب، وقد أتاحت هذه الطبخة.. أو الخديعة لإسرائيل بعض الوقت لدعم انتصارها، وسمحت لها بتدمير الجيوش العربية التى عمت الفوضى صفوفها، ومكنتها من الاستيلاء على أراض عربية جديدة.
لكن بيرسون يقول: إن إسرائيل هى التى قامت بعملية طبخ الرسائل بين الزعماء العرب.

أما ليبرتى فكانت ترقب الأحداث التى تجرى فى المنطقة.

ويحاول بيرسون أن يقنعنا بأن ليبرتى كانت جاسوسة بدرجة مراقب.. أو عسكرى دورية للقوات الإسرائيلية.

فهو يقول: (إن ما لم يعرفه إنسان – باستثناء عدد محدود على أعلى مستوى فى الحكومتين الإسرائيلية والأمريكية – هو أن إسرائيل كانت تنفذ خطة متفقا عليها.. وضعتها وكالة المخابرات الأمريكية، وكبار المسئولين فى حكومة جونسون والساسة الإسرائيليون البارزون).

وكانت الخطة تقضى بأن تقوم إسرائيل بشن حرب محدودة ضد العرب خاصة مصر، ولم تكن الخطة تتضمن التأثير على الحدود الإقليمية لسوريا أو الأردن.. وكانت ليبرتى هى التى تراقب تنفيذ إسرائيل لهذه الخطة فى حرب يونيو.. وتضيء الضوء الأصفر فى لحظات الإحساس باحتمالات تجاوز القيادة الإسرائيلية للخطة.. وتضىء الضوء الأحمر عند حدوث أى توسع أو تجاوز متفق عليه.. أى عسكرى مرور مزود بأحدث وسائل التجسس الإلكتروني.

إذن لماذا ضربت إسرائيل ليبرتى؟

يقدم لنا المستر بيرسون تفسيرا ساذجا، أو لعله يفترض فينا قدرا كبيرا منها.. فهو يقول إن إسرائيل ضربتها.. لأنها شعرت بأن هذه السفينة تقف عقبة فى طريق تحقيقها للتوسعات العسكرية المتاحة لقواتها.. أى لأنها كانت سفينة «خباصة» مهمتها أن «تفتن» إلى كبار المسئولين فى الولايات المتحدة بكل ما تلتقطه من رسائل وبرقيات متبادلة بين القيادات، وما تتضمنه من أوامر بالتوسع فى الجولان والضفة الغربية.. فقد اكتشفت ليبرتى نوايا إسرائيل فى التمرد على الخطة الموضوعة.. أى ستخرج على النص وتنفذ الديانيزم (نسبة إلى ديان وأسوة بالمدبوليزم).. وقامت ليبرتى بإبلاغ البيت الأبيض والبنتاجون.. أى وزارة الدفاع الأمريكية بذلك.

وتم إبلاغ السفير الإسرائيلى فى واشنطن مساء 7 يونيو بأنه يجب على بلاده أن تتوقف فورًا عن تصعيد الهجمات.. وكانت أمريكا قد حرمت على إسرائيل غزو الأردن، وبعد ذلك بثماني ساعات صدرت الأوامر من تل أبيب بتدمير السفينة..ونجح الإسرائيليون بسبب ضربهم للسفينة الأمريكية فى تحقيق أهدافهم التوسعية، وعزمهم على تغيير خريطة الشرق الأوسط بما يتفق مع مصالحهم.

لم تكن هذه هى آخر نكتة يقدمها بيرسون.. فقد قال: «إن ليبرتى كانت الصوت المحايد الوحيد القادر على إطلاع الأمم المتحدة فى نيويورك والبيت الأبيض ووزارتى الدفاع والخارجية.. على أن الإسرائيليين يتحركون للاستيلاء على الجولان».

هذا هو التفسير الغريب العجيب الذى قدمه لنا المستر بيرسون.. ولا مانع أن نستمر فى قراءة بعض صفحات روايته.. حتى يعرف القارئ العربى بعض ما حدث هناك.

مثلا ماذا فعل الرئيس جونسون والبنتاجون الأمريكى؟

وماذا كان موقف أعضاء الكونجرس؟

وكيف تصرفت أسر القتلى والجرحى من ضباط وجنود السفينة؟

الرئيس جونسون أشاد ببطولة السفينة.. وشجاعة طاقمها، وبراعتها فى النجاة من الموت والتدمير، ومنح القائد الماكوناجل نوط الشرف العسكرى.. وصرح متحدث باسم البنتاجون بقوله: حتى يمكن التوصل إلى تفسير معقول لما حدث.. لا يمكن القول: بأنه كان نتيجة خطأ بشرى.. وهكذا كان الموقف الرسمى فى البيت الأبيض ووزارتى الخارجية والدفاع.. والعمل على إحاطة العملية كلها بستار من الصمت، فقد كانت مناقشة سبب ضرب ليبرتى يمكن أن تجر إلى مناقشة حقيقية دور ليبرتى، أى إلى فضح الطبخة..!

وصدر بيان رسمى أمريكى - تدخلت إسرائيل كما اعترف أحد أعضاء لجنة العلاقات الخارجية فى الكونجرس - فى صياغته، فقد حذفت منه كل العبارات التى تشير إلى جنسية المعتدين على السفينة.

ونص الأمر الرسمى - فى الثناء على قائد السفينة ومنحه نوط الشرف - على أن الحادث كان حادث طائرة نفاثة مقاتلة أجنبية وزوارق طوربيد!

أما فى الكونجرس فقد ارتفعت أصوات عدد من النواب الجمهوريين والديمقراطيين تطالب بالتحقيق فى الحادث وتفسيره، وطالب بعض النواب بأن تدفع إسرائيل تعويضًا مناسبًا للحكومة الأمريكية ولأسر القتلة والجرحى.. بل إن أحدهم (روبس جروس) تطرف وطالب بعدم دفع معونات خارجية إلى إسرائيل..!

لكن أحد لم يهتم باحتجاجات النواب فى الكونجرس أو استجواباتهم، سكتوا جميعًا لأسباب مختلفة.. لينضموا صراحة إلى مؤامرة الصمت!
أسرة أمريكية تقاضى إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية

أما أسر القتلى والجرحى، فقد قام بعضهم بدور إيجابى فى المطالبة بالتعويضات، وقام مستر بيلى وزوجته بتكوين منظمة اسمها «منظمة العمل العاجل لعائلات وأصدقاء ضحايا السفينة ليبرتى».

فقد فقدَ بيلى وزوجته وحيدهما «توماس» الصغير الذى استقرت شظية فى رأسه لتنفذ إلى المخ ولتحطم جمجمته، ولم يكن قد تجاوز العشرين من عمره!

ورفعت المنظمة قضية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية فى «لاهاى»، واتهمتها بقتل وتشويه الأبرياء، وطالبتها بدفع 50 مليون دولار تعويضًا لأسر الضحايا.

وتدخلت الحكومة الأمريكية، وحاولت الضغط على مستر بيلى ليسحب الدعوى، لكنه أصر على موقفه.

وتجاهلت محكمة العدل الدولية الدعوى أيضًا نتيجة لضغوط أمريكية رسمية.. طبعًا!

وعندما أصر الكابتن البحرى المتقاعد توث والد الملازم ستيفن أحد ضحايا السفينة على المطالبة بتعويض مناسب، ورفع قضية ضد وزارة الخارجية الأمريكية تعرض لمضايقات واضطهادات عاما كاملا حتى مات!

وقالت زوجته.. لقد قتلوا زوجى كما قتلوا ابنى!

وهكذا.. بالرغم من كل هذه المحاولات الأمريكية الرسمية فى محاولة تطويق الموضوع، وإحاطته بالسرية، لا يخجل المستر بيرسون من القول بأنه بعد ضرب الطائرات والزوارق الإسرائيلية للسفينة ليبرتى.. غضب المسئولون الأمريكيون، وقرروا تأديب إسرائيل، وصدر أمر بتوجيه ضربة جوية ضد قاعدة زوارق الطوربيد الإسرائيلية فى حيفا التى خرجت منها الزوارق المهاجمة.. لكن البيت الأبيض تراجع بسرعة، وألغى هذا القرار!

وإذا تركنا هذا الدجل الذى يبدو أن المستر بيرسون قد كتبه بعد أن أفرط فى تناول الماريجوانا أو عقاقير الهلوسة.. فإنه قدم فى نهاية روايته واقعة خطيرة وغريبة، فقد كشف عن الدور المريب للاتحاد السوفيتى فى حرب يونيو.. فقد أكد أن جونسون اتصل بالزعيم الروسى «برجنيف» عبر الخط التليفونى الساخن عقب أن قام الأدميرال «مارتن» قائد الأسطول السادس بإرسال المقاتلات لإنقاذ ليبرتى.. أى أنه كان هناك تنسيق روسى أمريكى، وبمعنى آخر كان هناك «تطنيش» روسى وتخطيط أمريكى يهدف إلى ترك إسرائيل لتعمل على هزيمة مصر والعرب، حتى تضطر مصر للارتماء تمامًا تحت سيطرة السوفيت!
وقد تكون هذه الرواية هى أصدق ما فى رواية بيرسون.. لا لأننا نرغب فى تلويث سمعة الروس، إنما لأنهم لم يحاولوا تكذيب هذه الرواية، ولم ينفوا اتصال جونسون وبريجنيف.


تلك كانت الرواية الأمريكية لضرب سفينة التجسس ليبرتى، كما نشرتها مجلة «بنت هاوس» الأمريكية فى يونيو الماضى.
قد تكون رواية بيرسون محاولة لتخفيف صورة الوجه القبيح للرئيس جونسون ودوره الأكثر قبحا فى حرب يونيو.. أى تخفيف قيمة الدور الأمريكى الرسمى.

وقد تكون محاولة تنفى فضيحة الهستيريا المفاجئة التى أصيبت بها القيادة الإسرائيلية وحالة الفزع والخوف الذى سيطر عليها، رغم المكاسب الضخمة التى كانت قد حققتها.

وكان هذا الخوف والفزع والهستيريا سببها ضربة مفاجئة تمكنت البحرية المصرية من توجيهها إلى إسرائيل، وكانت الضربة موجعة بحيث أخافت القيادة الإسرائيلية وأربكتها.. لكن الحقيقة كما رواها لنا رجل ظل صامتا لمدة تسع سنوات كاملة..
إنه لم يفتح فمه بالرغم من أن كل شىء تم أمام عينيه، وكان له دور هام فى تطورات الموقف الذى أدى إلى ضرب السفينة الأمريكية ليبرتى.

وتكلم هذا الرجل مرتين:

مرة.. أمام لجنة كتابة تاريخ ثورة 23 يوليو التى يرأسها حسنى مبارك نائب رئيس الجمهورية.. ومرة أمام مجلة «أكتوبر»..
وقد حرصنا على أن نقدم روايته طبق الأصل كما سجلها أمام لجنة كتابة التاريخ.. إنها شهادة للتاريخ، يقدمها الشاهد الذى عاش جميع تفاصيل إغراق السفينة ليبرتى.. من أجل الحقيقة والتاريخ.. نترك اللواء البحرى المتقاعد يوسف سماحة، قائد قاعدة بورسعيد البحرية وقائد عمليات القوات البحرية بالمنطقة الشرقية، أى الجبهة المواجهة لإسرائيل على البحر المتوسط أثناء معركة 5 يونيو 1967.. ليتكلم.
إنه يقول: إن يوم ضرب سفينة التجسس الأمريكية ليبرتى من الأيام التى لن أنساها، ويجب ألا ينساها أى مواطن مصرى، فقد استطاعت القوات البحرية المصرية أن توجه ضربة موجعة إلى إسرائيل.. فى تلك الأيام السوداء، ورغم الهزيمة السريعة الثقيلة، كانت الضربة المصرية فى ذلك اليوم عملا أعاد بعض الكرامة الضائعة، ورد الدماء الهاربة من وجوه العسكريين المصريين!

أمر من قائد البحرية «اضربوا الرمانة»

فقد اتصل بى المرحوم الفريق أول سليمان عزت قائد القوات البحرية، وطلب منى فى يوم 7 يونيو 1967 – أى فى اليوم الثالث للمعركة – أن أجهز وأعد سربًا من لنشات الصواريخ لضرب التجمعات الإسرائيلية فى منطقة رمانة، وتقع فى الشرق من بورفؤاد.. وكانت تقارير الاستطلاع المصرية فى تلك الأيام قد أكدت أن لواء إسرائيليا مدرعا يتجمع عند رمانة.


وقمت بوضع خطة لتنفيذ تعليمات قائد السلاح البحرى، وتقرر أن يقود العقيد البحرى جمعة إبراهيم (وهو لواء بحرى الآن) سرب لنشات الصواريخ المكلف بتنفيذ المهمة.

وكانت خطتنا جديدة وجريئة.. وكانت تعتمد على عنصر المباغتة والمفاجأة، فقد كانت القوات الإسرائيلية المدرعة مطمئنة تماما.. وهى تتمركز فى المنطقة، ولم تكن تتصور أن يستطيع المصريون الاقتراب منها.. وكانت الطائرات الميراج الإسرائيلية تعربد فى السماء فوقنا، ولم يكن يعترضها أحد.. وأيضًا كانت المرة الأولى فى تاريخ الحروب فى العالم التى يتم فيها ضرب أهداف عسكرية أرضية بلنشات الصواريخ البحرية.

وطلبت من قائد العملية عدم الاتصال بى حتى لا تلتقط ليبرتى، وبالتالى إسرائيل، أي معلومات عن خطتنا.. على أن أقوم بإبلاغه بالنتيجة بعد إتمام العملية!

واتفقنا على كلمة سر معينة لأناديه بها بواسطة أجهزة اللاسلكى.. وتمكن رجال البحرية بقيادة جمعة إبراهيم من تنفيذ العملية ببراعة وشجاعة.. وقاموا بتوجيه ضربة موجعة للقوات الإسرائيلية.. لقد أحالوا رمانة إلى جحيم من النيران.. واشتعلت الحرائق فى المنطقة كلها.

وقد تم ضرب رمانة فى الساعة الثانية عشرة فى منتصف ليلة 7 يونيو.. وبعد دقيقتين اتصل بى محافظ بورسعيد. ليستفسر منى عن الذى حدث فى بورفؤاد.. ولم أتمالك نفسى وبادرت بإبلاغ المحافظ بأن النيران قد أشعلتها قواتنا فى قوات العدو عند رمانة.. وكان الحريق مروعا، لأن لنشات الصواريخ أصابت مراكز وقود وبنزين وتموين القوات الإسرائيلية فى هذه المنطقة، مما أدى إلى تعطيل اللواء الإسرائيلى المدرع عن مواصلة تقدمه.. وأصيبت القيادة الإسرائيلية بهستيريا وفزع وخوف!. سبع.. عد إلى قاعدتك

ويصمت اللواء البحرى يوسف سماحة، ثم يواصل شهادته أمام التاريخ وهو يقول:

كنا نتوقع ردود فعل شرسة من العدو، وكان فى توقعنا أن يخرج بطائراته بسرعة ليضرب اللنشات المصرية التى قامت بهذه العملية، لذلك عندما أبلغنى قائد العملية جمعة إبراهيم بإتمام العملية.. ناديت عليه بكلمة السر المتفق عليها.. وكانت (سبع.. عد إلى قاعدتك الأصلية) وكررت له النداء.. وكان معنى هذا الأمر أن يتوجه سرب لنشات الصواريخ إلى الإسكندرية، ولا يعود إلى بورسعيد لأن القاعدة الأصلية للسرب فى ذلك الوقت كانت هى الإسكندرية، ونفذ الأمر بسرعة فائقة.


وحدث ما توقعنا فعلا.. لأنه بعد لحظات قليلة خرجت الطائرات الإسرائيلية.. وألقت القناديل المضيئة التى أضاءت المنطقة كلها، كانت تبحث عن الوحدات البحرية التى وجهت لها هذه الضربة المفاجئة.

ويقدم لنا القائد المصرى لعمليات القوات البحرية فى الجبهة الشرقية وقائد قاعدة بورسعيد أثناء حرب يونيو الرواية الحقيقية لضرب سفينة التجسس الأمريكية ليبرتى.. ويقول:

كانت الطائرات واللنشات البحرية الإسرائيلية تبحث عن مصدر ضرب رمانة.. لم يكن أمامها فى المنطقة سوى سفينة واحدة.. هى سفينة التجسس والتشويش الأمريكية ليبرتى.. ويبدو أن حالة الهستيريا والعصبية التى أصيبت بها القيادة الإسرائيلية نتيجة الضربة القاسية فى رمانة جعلت الطائرات واللنشات الإسرائيلية تتوجه إلى السفينة الأمريكية وتضربها بقوة وشراسة، ولم تستطع نتيجة الخوف والفزع أن تميزها، أو لم تفكر حتى فى ذلك.

ويبتسم اللواء يوسف سماحة وهو يقول: ولم يعثروا طبعا على جمعة ورجاله فى المنطقة كلها.. لأنه كان قد وصل إلى دمياط فى طريقه إلى قاعدته الأصلية ب الإسكندرية وقد وصلها سليما فجر 8 يونيو.. تلك هى شهادة القائد المصرى أمام التاريخ، وهى الرواية الحقيقية لضرب ليبرتى.. فالحادث جاء نتيجة الهستيريا والخوف والفزع ورد فعل عصبى غير مميز للقيادة الإسرائيلية، نتيجة للضربة المفاجئة غير المتوقعة، فلأول مرة تضرب لنشات الصواريخ المخصصة لضرب الأهداف العائمة البحرية.. هدفا أرضيا.. أى لم يكن هناك قرار إسرائيلى أو تخطيط لموشى ديان.. لا «ديانيزم» ولا غيره، كما حاول المستر بيرسون أن يوهم العالم فى روايته التى نشرها فى مجلة بنت هاوس الأمريكية فى يونيو الماضى.

فقد تم ضرب ليبرتى بعملية مصرية.. إنه انتقام السماء من السفينة الجاسوسة.. ذاقت من طبيخها المسموم الفاسد، وكانت الضربة دامية.. لأنها جاءت على أيدى من كانت تطبخ لهم.

لقد ظلت هذه الحقائق غامضة، تغلفها مؤامرة الصمت، وكما مزق انتصار 6 أكتوبر خرافة الأسطورة الإسرائيلية عن إسرائيل التى لا تقهر، وتمكنت قواتنا من قهر إسرائيل.. وسقط ديان ومائير وإليعازر.. فإن صحافة «أكتوبر» تكشف الحقائق التى حاولوا التستر عليها.. وإخفاءها.. وتزييفها.

محاضرة صلاح نصر

ويواصل الشاهد روايته.. يروى لنا وقائع وحقائق جديدة.. وغريبة عن حرب يونيو.

أقسم الرجل بالله، وبالوطن، وبشرفه العسكرى أن يروى كل الحقائق التى عرفها.

إنه يقول: قصتى مع حرب يونيو بدأت بحكاية غريبة يوم 14 مايو 1967، كنت أنا وعدد كبير من القادة ندرس فى الدورة الثانية بأكاديمية ناصر العسكرية.

وفى الساعة الثامنة مساء كنا نستمع إلى محاضرة عن الأمن القومى.

وكان المحاضر هو صلاح نصر مدير المخابرات العامة فى ذلك الوقت، وفجأة توقف صلاح نصر عن إلقاء المحاضرة.. فقد دخل إلى القاعة مدير الأكاديمية، وسلم إلى صلاح نصر ورقة.. قرأها فى صمت، ولاحظنا أنه يحاول التظاهر بعدم الانفعال، عاد إلى المحاضرة لكنه لم يتمكن من الاستمرار فيها، وأنهاها بعد بضع عبارات، وتكلم مدير الأكاديمية.. وصلاح نصر.. وقالا: يجب على جميع الضباط تسليم أنفسهم فورا إلى قياداتهم المباشرة.

فقد ألغيت الدورة الدراسية بالأكاديمية، لأنه صدر قرار برفع حالة الطوارئ القصوى فى القوات المسلحة.
أى أن صلاح نصر رئيس هيئة الأمن القومى ومدير المخابرات العامة عرف بهذا القرار القومى الخطير وهو يلقى محاضرة على بعض قادة الجيش.

كان الرجل الذى يفترض أنه أول من يعلم.. هو آخر من يعلم.

كيف يصدر هذا القرار بينما رئيس الأمن القومى.. المصدر الأول للمعلومات عن العدو.. يلقى محاضرة، ويعرف بالقرار بعد صدوره..
ولا يمكن الادعاء بأنه كان يعرف.. وإلا لما كانت هناك حاجة للدورة.. وتجميع القادة، ولا حاجة للمحاضرة، أى أن مدير المخابرات العامة.. لا يعرف، ولا مخابرات ولا حاجة.. ويبدو أنه لم يكن يعرف إلا حاجات خاصة.. أو الحاجات الخاصة فقط!

تحذير من المشير عامر

ويقول اللواء يوسف سماحة: قد يدهشنا جميعًا.. أن نعرف أن جميع القيادات العليا فى الجبهة المصرية، كانت تتلقى تحذيرا يوميا من المشير عامر فى الأيام الأربعة السابقة ليوم 5 يونيو، يطالب الضباط والجنود باليقظة وتوقع هجوم العدو.
كنا يوميا منذ أول يونيو 67 وحتى 4 يونيو.. نتسلم فى تمام الساعة الثامنة مساء إشارة من المشير عامر تقول أناشدكم اليقظة يا رجال.. الليلة الحرب الفعلية.. توقعوا غدر العدو وهجومه.. تيقظوا.. احترسوا من الهجوم حتى صبيحة اليوم التالى.
هذه شهادة لله.. وللتاريخ.

إن نائب القائد الأعلى والقائد العام.. المشير عامر، كان يرسل هذا التحذير اليومى، وقد تسلمته بنفسى طوال الأربعة الأيام الأولى من يونيو، وأبلغته لقواتى.. إذن كيف وقعت النكسة؟ أو حتى كيف تقع بهذا الحجم.. وبهذه الخسارة الفادحة رغم توقعنا لهجوم العدو، وإذا كنا نتوقع هجوم العدو وغدره فلماذا كنا ننتظر.. أو من الذى نصحنا بالانتظار؟ وكيف صدقناه؟

تم نشر الخبر فى مجلة أكتوبر بتاريخ العدد الثانى 7/11/1976

أضف تعليق

تدمير المجتمعات من الداخل

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2