الحكاية الأولى
امتلأ عاشور بأنفاس الليل، انسابت إلى قلبه نظرات النجوم المتألقة، هفت روحه إلى سماء الصيف الصافية، قال ما أجدرها ليلة بالعبادة، كى يجثو فوق الأعتاب، كى يناجى رغبات نفسه الكظيمة، كى ينادى الأحبة وراء سياج المجهول.
وثمة شبح يقف منه على بعد شبرين يعكر عليه صفوه ويشده إلى عالم القلق، فرفع صوته الأجش متسائلا:
- ماذا تنتظر يا معلم درويش؟
فلكزه درويش فى صدره وهمس بحنق:
- اخفض صوتك يا بغل!
كانا يلبدان وراء تعريشة عند طرف القرافة بمشارف الصحراء. الجبل فى أقصى اليمين، والقبور إلى اليسار. لا نأمة، لا عابر سبيل، حتى أرواح الموتى مستكنة فى مقر مجهول، فى تلك الساعة من الليل. والخواطر تتجسد فى الظلمة كالنذر، ويخفق القلب الطيب فى غير ما ارتياح.
همس عاشور:
- نورنى نور اللَّه قلبك..
فنهره هامسا:
- انتظر، أليس عندك صبر؟
ثم وهو يميل نحوه:
- لا أطالبك بعمل، سأقوم بكل شيء، عليك أن تحمى ظهرى إذا اقتضى الأمر حماية..
- ولكنى لا أدرى عما تنوى شيئا..
- اسكت، سيكون لك الخيار..
وتمخض جانب الصحراء عن نأمة. وحمل الهواء عطرَ حيٍّ وارتفع صوت موسوم بالشيخوخة يقول:
- توكلى على اللَّه..
وعند القرب وضح أن العجوز يمتطى حمارًا. وعندما حاذاهما تماما وثب عليه درويش.. ذهل عاشور وتحققت مخاوفه. لم ير شيئًا بوضوح، ولكنه سمع صوت درويش وهو يقول متوعدا:
- هات الصرة وإلا..
فتردد صوت مرتعشا بالكبر والذعر:
- الرحمة.. خفف قبضتك..
اندفع عاشور إلى الأمام بلا وعى وهتف:
- دعه يا معلمي!
صرخ به درويش:
- اخرس..
- قلت لك دعه..
وطوقه بذراعيه وحمله بلا جهد فضربه الآخر بكوعه قائلا:
- الويل لك..
لم يتحرك فى درويش بعد ذلك إلا لسانه، أما عاشور فخاطب العجوز قائلا:
- اذهب بسلام!
حتى إذا اطمأن إلى نجاة الرجل أطلق درويش وهو يقول معتذرا:
- اغفر لى خشونتي..
فصاح به:
- أيها اللقيط الجاحد!
- لقد أنقذتك من شر نفسك..
- أيها البغل الخسيس المخلوق للتسول..
- فليسامحك اللَّه...
- أيها اللقيط القذر..
فصمت عاشور محزونا فعاد الآخر يقول:
- لقيط، ألا تفهم؟ هذه هى الحقيقة.
- لا تستسلم للغضب، لقد قال الشيخ المرحوم كلمته..
فقال بحقد:
- الحقيقة هى ما أقول. لقد وجدك فى الممر مهجورا من أم فاسقة!
- رحم اللَّه الطيبين..
- بشرفى ورحمة أخى إنك لقيط ابن حرام، لماذا يتخلصون من وليدٍ بليل؟!
فاستاء عاشور وصمت، فراح درويش يقول:
- ضيعت جهدى، أغلقت باب الرزق فى وجهك، إنك قوى ولكنك جبان، وهاك الدليل.
وهوى بكفه على وجهه بجامع قوته فبوغت عاشور بأول لطمة يتلقاها فى حياته، وصاح درويش بجنون:
- أيها الجبان الرعديد!
عصف الغضب بعاشور. اجتاحت عاصفته جدران معبد الليل. وجه من راحته الكبيرة ضربة إلى رأس معلمه هوى على أثرها فاقد الوعي. لبث يصارع غضبته حتى تراخت للسكون. أدرك خطورة ما أقدم عليه. غمغم:
- غفرانك يا شيخ عفرة.
انحنى فوق الرجل فحمله بين يديه. مضى به يشق سبيله بين القبور حتى دخل به البيت. أنامه على الكنبة. أشعل المصباح. مضى ينظر إليه فى قلق وإشفاق. تتابعت دقائق ثقيلة حتى فتح عينيه وحرك رأسه..
تطاير من عينَى درويش شرر ينم على التذكر. ترامقا مليا فى صمت. خيل إلى عاشور أن عفرة وسكينة حاضران، ينظران فى وجوم..
غادر عاشور البيت مغمغما:
- توكلت على خالق السماوات والأرض.
تم نشر المقال فى مجلة أكتوبر، ونعيد نشره ضمن كنوز أكتوبر