القاهرة ومقاهيها.. بين عبق المكان وسطوة المثقفين
القاهرة ومقاهيها.. بين عبق المكان وسطوة المثقفين
[gallery type="slideshow" columns="1" size="large" ids="9888,9889,9890,9891,9892,9893"]
الشباب الجدد اختاروا العزلة بعيدًا عن لغو الكتاب الكبار فى المقاهى المعروفة وجلسوا فى مقاهى أخرى ليشكلوا وجدانهم وعالمهم
"وسط البلد" نقطة تنوير ثقافية بدأت فى الستينيات
كتب: خالد بسيونى
القاهرة تلك العاصمة العتيقة باختلاف شوارعها وعماراتها وتنوع مبانيها وساكنيها من مسلمين ومسيحيين ويهود أيضًا.
العاصمة التى لا تنام أبدًا والتى عندما تطأ قدماك شوارعها وحارتها وميادينها المضيئة يجول فى ذهنك شوارع صمدت طويلا أمام غزوات واحتلال ومظاهرات ومطاردات لشباب كانوا يختبئون بمنشوراتهم التى كانت تنادى بالحرية، ودوى انذار لغارة كانت تهز العاصمة من دون رحمة، ودماء الفدائيين السريين التى كانت تملأ الشوارع الذين كانوا يحاربون الظلم والاحتلال، ومسيرات يتقدمها شيوخ وقساوسة تنادى بالجلاء عن هذا البلد، ونساء كتبن اسماءهن فى التاريخ.
عمارات عتيقة صمدت أمام التاريخ وظلت بعمرانها المختلف وتراثها غير المسبوق بيدروماتها التى كانت تستقبل المختبئين فى الغارات كل يوم.
"وسط البلد" كلمة لا تعبر عن معناها ففى اللغة تعنى منتصف البلد، وهى ليست كذلك، إذ لها دلالة ارتبطت بحركة الجغرافيا السكنية والسياسية والإعلامية فى المنطقة التى تمتد من ميدان التحرير "الإسماعيلية سابقًا" حتى حدود شارع عماد الدين ومن ميدان الأوبرا حتى حدود محطة مصر "رمسيس".
وتعد المقاهى جزءًا من ذلك الكيان العالمى –وسط البلد- اذ ارتبط المقاهى بتشكيل وجدان الشارع المصرى من تنظيمات سرية كانت تتكون على المقهى أولًا قبل أن تتخذها لها مكانًا بعيدًا، جلسات سمر كان يقضيها رواد تلك المقاهى مع الزجالين شعراء الربابة وحكائى السير، واستوعبت المقاهى طوال القرن العشرين تجليات الحراك الاجتماعى والطموح السياسى وعبرت عن قناعات ومشروعات ثقافية وأيديولوجية متباينة، وشكلت –أحيانًا- البديل المؤقت للمؤسسة الثقافية والمؤسسة الإعلامية.
والمقاهى القاهرية ثلاثة أنواع: النوع الأول مقاهى الحرفيين والعمال وتلك تضج بهم صباحًا ومساء، والنوع الثانى مقاهى الموظفين وأرباب المعاشات حيث يرتادونها بداية من العصر وحتى العشاء، والنوع الثالث مقاهى المثقفين وتلك برتادها المثقفون فى فترات متباينة طوال النهار نظرًا للحالة المزاجية المختلفة للمثقف وكانت قديمًا تشتهر بندوات السير الشعبية.
أصبح النوع الثالث فيما بعد قبلة للمثقفين المصريين من جميع المحافظات، فعندما يشدون الرحال إلى القاهرة لخوض الحروب من أجل نشر قصة أو قصيدة شعر أو رواية فلا يجدون مأوى لهم سوى تلك المقاهى التى تعج بالمثقفين وانصاف الموهوبين والمدعين، يقول الكاتب أدريس على تلك المقاهى أنها شهدت بين جدرانها صعود من لا قيمة له لأعلى المناصب الثقافية فى مصر بمجرد أن جاملهم أحد رواد المكان بقصة أو بقصيدة شعر، واختفاء الموهوبين الأصليين الذين لم يجدوا عبرات الشكر والمدح لأعمالهم التى ربما كانت جيدة وقال الشاعر الراحل "نجيب سرور
إن المثقف يعمل نهارًا فى مؤسسات البرجوازية ويسبها ليلًا فى المقاهى والبارات.
مقاهى وسط البلد التى كانت تسمى فى ستينيات القرن الماضى "مقاهى اليسار" والتى كانت بداية عصر من التنوير الثقافى بصدور عدد كبير من المجالات الثقافية وافتتاح مبنى الإذاعة والتليفزيون وتنامى نشاط الأدباء ونادى القصة واتيليه القاهرة وازديادها بثورة يوليو، وكان من تلك المقاهى التى بدأ فى ارتيادها المثقفون "نادى التحرير-وادى النيل-ريش-زهرة البستان-الجريون-اتيليه القاهرة".
أما الآن فلم تعد "ريش والبستان والجريون" قبلة المثقفين الشباب فى مصر فقد تركوها لكبار الكتاب يتحدثون عن أمجادهم القديمة وقصصهم البالية ويسترسلون فى ابداعاتهم العتيقة التى عفى عليها الزمن ليبتعدوا بأدبهم الحديث فى مكان ربما لا يليق بهم ولا بابداعاتهم ويشكلون فيه عالمهم الخاص المختلف عن عالم الستينيات والسبعينيات فمفهوم المثقف اختلف كثيرًا مع الأجيال الجديدة التى اصيحت تنظم مظاهرات على "الفيس بوك" ومن ثم "الإنترنت" ومتغيراته على ثقافة عاصمة عتيقة مثل القاهرة التى يفوح منها عبق التاريخ.
المقاهى الجديدة التى اختارها الشباب الجدد ليس لها ملامح خاصة وأحيانًا تكون فى إحدى الحارات الضيقة والعادية جدًا، فالمهم لديهم هو الجلوس والاستماع فى حضرة ذلك المكان القديم الذى يبث فيهم روح الكتابة ووحى الزمن القديم.
أما أحلام القرويين المثقفين الذين يعيشون فى ريف مصر البعيد فهى الجلوس ولو للحظة قليلة على تلك المقاهى التى قرءوا عنها فى المجلات والصحف والجلوس مع أدبائها الكبار وعرض قصصهم وأشعارهم عليهم والافصاح عن آرائهم المختلفة فى الفن والسياسة والرياضة وعرض أفكار لمشروعات قادمة فى الرواية أو الفن أو السينما أو المسرح، ذلك الحلم الذى كان سرايا فى يوم من الأيام، أصبح حقيقة بعد سفره إلى القاهرة والسير فى دروب العاصمة والتسكع فى أرجائها، وجلوسه مع بقايا أدبائها على "طاولة واحدة" ورؤية تلك الحارات الضيقة والأزقة التى طالما قرأ عنها فى روايات محفوظ.
فهى أجواء لا تقاوم لها بريق خاص وحضور طاغ فى وعى الزائر المثقف الذى يراها للمرة الأولى والتى لا ينساها أبد الدهر.