أنا أسمى: ك...
كل الظروف تدعونى إلى أن أكون متشائمة، ولكنى لست كذلك.. فقد تعلمت ذلك من أمى، فهى من أكثر الناس الذين عرفتهم صبرا وقدرة على الاحتمال، وتحويل الخرائب إلى بيوت صغيرة، وتربية البيوت الصغيرة لتكون قصورًا، كيف؟ هذه قدرتها..
أنا ولدت مع النكسة العسكرية فى مصر، نفس اليوم، وولد فى هذا اليوم ملايين فى الكرة الأرضية، وضعف هذا العدد من الحيوانات، وأضعاف هذا العدد من الحشرات.. فما المعنى؟ لا معنى.. إنها صدفة، ولا بد أن يولد وأن يموت وأن تظهر شمس وتغرب فى مثل هذا اليوم وفى كل يوم.. ولا أظن أن هناك علاقة بين الأرقام على ساعاتنا أو فى نتائج الحائط وبين حياة الناس ومصائرهم.. هذا ما كانت تقوله أمى كلما تشاجرت مع إخوتى وقالوا لى: أنت ولدت فى يوم نحس.. ويكون رد أمى على إخوتى: ويوم مولدك كان فيه كذا وكذا.. وأنت يوم مولدك ماتت فيه عمتك وانكسرت ساق خالك.. إلخ.
ولم أعرف بوضوح معنى النكسة أو الهزيمة.. أو «الوكسة» كما كانوا يسمونها.. ولكن بمرور الوقت عرفت.. وكل الذى عرفته أتفه كثيرا جدًا من الذى عانيته فى بيتنا.. فقد عاد أبى مريضًا من الجبهة، لا أعرف مرضه بالضبط.. فهو سليم اليدين والساقين والعينين، وإنه رجل لطيف، يحب النكتة، وكانت نظرته لى فيها الكثير من الحزن.. كأنه يريد أن يقول: وأنت ما الذى أتى بك.. لقد كانت الدنيا قبلك وبغيرك أجمل.. فأنت همّ جديد.. لا أعرف كيف أواجهه ولا كيف أتخلص منه!
وعلى الرغم من أن والدى عاد سليما.. بينما صديقاتى وزميلاتى فى الدراسة وجاراتي فى الشارع فقدن الأخ والأب.. وارتدين السواد سنوات طويلة.. وكنت أفكر كثيرا فى حالنا.. لماذا لسنا سعداء، كل شىء موجود عندنا.. الأكل والشرب والشقة والسيارة، وملابس جديدة، وأعياد الميلاد تقام فى مواعيدها ونتلقى جميعا الهدايا.. ولكن لسنا سعداء.
وفى يوم سألت أخى الأكبر: هل هناك شىء؟ فقال لى: ماذا تقصدين؟
قلت: سر لا أعرفه.. فالحزن واضح فى ملامح والدى.. وأحيانًا ألاحظ أمى تبكى إذا جلست وحدها، وتحاول أن تبدو غير ذلك إذا رأت واحدا منا.. كأنها أرادت أن يكون حزنها لها وحدها.
فأجابنى أخى: وكان كلامه نوعا من الزغد والقرص لكى أصحو من النوم: أنت لا تعرفين أن والدنا يتردد على أحد المستشفيات.
قلت: لماذا؟
قال: للأهوال التى رأها فى الحرب.. إنه يصرخ فى عز النوم، ويقفز على السرير ويطلق الرصاص على العدو.. يجعل يديه كأنهما تحملان سلاحا، ثم يقول بصوت مرتجف: طخ.. طخ.. طخ.. أرفع يديك!
قلت وأنا فى ذهول: متى؟!
قال: كل ليلة!
لقد انتهت الحرب فى الميدان.. ولكن الحرب قائمة فى عقل والدى ونومه وأحلامه.. وأمى تقوم كل ليلة فى فزع تحاول إقناعه بأنه يحلم.. وأنه لا حرب.. كل ليلة؟ يا نهار أسود.. هذا الرجل اللطيف الرقيق الوسيم يصرخ كل ليلة.. وهذه الأم الضاحكة دائمًا لا تعرف طعم النوم كل ليلية منذ عشرين عاما.. ما هذه الكيمياء التى تستخدمها أمى.. كيف تحول الفزع والخوف والقلق والأرق والحزن إلى ابتسامة صافية على وجهها.. كل ليلة؟ كيف تستطيع أن تعزل نفسها وزوجها عنا.. كيف إننى لم أسمعها تشكو مرة واحدة.. كيف لم أسمعها تذكر اسم المشتشفى الذى يتردد عليها والدى.. ولا مرة.. ولا غلطة واحدة.. إلى هذه الدرجة هى حريصة على شعور أبى.. وإلى هذه الدرجة تحمل على ظهرها وعلى عقلها وعلى قلبها كل هذه الهموم القديمة والجديدة فى ثبات الجبال.. عظيمة أنت يا أمى.. ومسكين وبطل أنت يا أبى.. فما الذى يمكن أن أساهم به.. هل أستطيع أن أظل فى حالة صمت، كأننى لا رأيت ولا سمعت.. فهل أستطيع بعد أن سمعت كأننى رأيت.. بل لست فى حالة إلى أن أرى.
وفى إحدى الليالى رأيت فى نومى حوارا دار بينى وبين أبى، قلت له: إننى حزينة من أجلك.. حزينة عليك وأكثر حزنا لأننى لم أعرف، ولا نهاية لعذابى بعد أن عرفت.. وبعد أن رأيت حرصك الهائل على أن تعزلنا عنك.. فلا تنتقل عدوى آلامك إلينا.. إن الأبوة شىء خارق للعادة.. والأمومة نوع من المناعة الجبارة.. فالأم تعزل نفسها وسط همومها وتمنعها أن تتسرب إلينا.. سبحان الله لقد زود الأمهات والآباء بقدرات إلهية من أجل ألا تحمل الأجيال القادمة خطايا الأجيال السابقة.. ولكن لقد عرفت يا والدى كل شىء!
وإذا به يغضب ويقول: غلطانة أمك.. ما كان يجب أن تقول كلمة واحدة.. لقد حلفت على المصحف.. فماذا أفعل بها الآن؟
قلت: إنها لم تقل.. أنا الذى سمعت ذلك عند منتصف الليل.
قال: وماذا سمعت؟
قلت: كلاما كثيرا وصراخا..
قال: أقسم لك يا ابنتى أننى عندما وقفت على بابك فى تلك الليلة.. كان من الخوف عليك.. لقد رأيتهم يعتدون على النساء.. سبعة يعتدون على واحدة.. رأيت ذلك بعينى.. وتمنيت أن أنام على بابك حتى لا تخرجى إلى الشارع.. ولكنى قتلتهم جميعًا.. فتحت بطونهم بالسكين واحدا واحدا.. هكذا..
وصحوت من نومى.. واندهشت كيف جاءتنى هذه المعانى، مع أننى لم أسمعها من أحد، لا من إخوتى ولا من أمى، ولم أستطع أن أسكت وحدى وطالت جلساتى وحدى، ورأت أمى الدموع فى عينى، وسألتنى واخترعت لها قصصًا محبوكة، قلت لها: إن فلانة تعيرنى بأن أحدًا لم يخطبنى، وأنها مخطوبة من خمس سنوات، وكان ردى عليها أننى لن أفكر فى أى أحد قبل تخرجى فى الجامعة.. كذبت عليها وقلت لها تقدم لى فلان وعلان وابن عمى وابن خالتى.. ومليونير مصرى يعيش فى أمريكا.
وقالت أمى: ولكنك لم تكذبى يا حبيبتى.. فعلًا تقدم لك كل هؤلاء.. وآخرهم الشاب الذى زارنا مع ابن خالتك أمس.. إنه مهندس كيمياء يعمل فى شركات الأدوية بألمانيا.. وقلت له: بعد أن تتخرجى.. ولما طلب منا أن نعرض عليك الأمر رفضت أنا ووالدك، لأن والدك لا يريد أن يشغلك عن الدراسة.. فوالدك لا يجب أن يكرر قصتى أنا.. فقد تزوجت قبل أن أكمل تعليمى.
وفى مرة أخرى وجدتنى أبكى.. فسألتنى، فقلت لها: إنه أحد الزملاء السخفاء وصفنى بأننى سمينة!
وغضبت أمى وهى تقول: تخينة.. وزنك 68 كيلو جراما وطولك 175 سم.. إنه هو صاحب العقل التخين.. أنت صغيرة يا ابنتى.. فمن عادة الرجل أن يعاكس المرأة بإثارة اهتمامها.. بأن يلفت نظرها فيغضبها.. وفى اليوم التالى يعتذر لها، وكلمة من هنا وكلمة من هناك.. فتكون العلاقة السهلة التى يريدها الشبان.. إن زواجى من والدك كانت له بداية مضحكة.. فنحن جيران.. وفى إحدى المرات كان يمشى وراءنا هو وعدد من الشبان.. وفجأة وجدته يقول: بصوت مسموع، ولا أدرى لماذا أحسست أنه يتحدث عنى أنا ويقول: يمكن موضة.. الشكل ليس مهما.. المهم اللون.. وبسرعة نظرت إلى حذائى.. فوجدت أننى قد ارتديت جزمة كل فردة شكل.. وإن كانتا من لون واحد.. فنظرت ورائى فى غيظ.. وإذ به يقترب منى قائلًا: أنا أسف.. والله لا أقصد السخرية، وإنما أنا لا أستبعد أن تكون موضة.. فموضة المرأة لا منطق لها.. والحقيقة أنه كان جادًا.. ورأيت الصدق والخجل فى وجهه.. ثم رأيته ورائى.. وكانت النظرة التى أفضت إلى الزواج.
ونسيت أمى أنها روت لى قصة أخرى أدت إلى الزواج – ولكنها تحاول أن تخفف عنى!
وشجعنى هذا الحوار مع أمى.. وشجاعتها الرقيقة.. وصدقها وإخلاصها وحرصها على أن تخفى متاعب والدى عنا.. كل ذلك جعلنى كلما رأيتها بدلا من أن أقبل خديها.. أقبل يديها.. وأبكى.. وأمى لا تفهم.. وكانت تضحك وهى تقول: وما الذى عملته لك يا ابنتى حتى تغرقينى بقبلاتك ودموعك.. مالك يا ابنتى.. كلمينى!
قلت: فعلا عندى ما أريد أن أقوله لك.. عندى منذ وقت طويل.
قالت: وهذا إحساسى الذى لا يخطئ.. قولى يا ابنتى.. أنا أمك وأختك..
قلت: أنت أكثر من ذلك.. أنت مثلى الأعلى.. أنت الأمومة فى أسمى صورها..
قالت: هل نجلس معا بعد المذاكرة.. بعد أن يكون بابا قد نام..
قلت: لا.. لا.. يا ابنتى قبل أن ينام.. لأن والدك يحب أن يأخذ الدواء فى موعده..
وكانت هذه أول مرة أسمع من أمى أن والدى يتعاطى دواء فى مواعيد محددة.. حتى هذا، قد أخفته أمى عنى.. مع أن كل الناس يتعاطون دواء من أى نوع.. وقد خجلت من نفسى وتمنيت أن أضرب رأسى فى الحائط أو أقطع لسانى.. فقد طلبت منها أن يكون اللقاء بعد أن ينام أبى، لعلى أسمعه وهو يصرخ وأراها وهى تسرع إليه.. خجلت من نفسى أن تدفعنى الرغبة فى المعرفة إلى هذه الفضيحة.. فضيحة أبى حبيبى وأمى حبيبتى.. واحتقرت قسوتى عليهما.. ورغبتى فى أن أعرف.. وأن تكون هذه المعرفة على شكل ضبط جنائى.. على شكل «كبسة».. ووجدت لنفسى العذر فقلت لعلها دراسة القانون هى التى أنستنى من هو ومن هى ومن أنا.. وماذا يفعلان من أجل سلامة نفسى وأمانى الاجتماعى ومستقبلى.
وقلت لأمى: ليكن اللقاء فى أى وقت تجدينه مناسبًا، وأعذرينى إذا كنت قد طلبت أن يكون بعد نوم والدى.. فأنا لم أكن أعرف أنه يتعاطى دواء من أى نوع.. فهو الشباب والحيوية والصحة والمرح والحنان وعظيم الاحترام لنا جميعًا، إنه أعظم أب وأنت أعظم أم!
وإنه لذكاء فريد من أمى أن تدعونى إلى غداء خارج البيت.. وهى تقول: أنت لم تعودى صغيرة يا ابنتى.. أنت عروسة جميلة.. أخذت من والدك لون بشرته وسحر عينيه وطوله.. وأخذت منى الأنف والشفتين والقوام.. والباقى قد أعطاه الله من عنده.
فى ذلك اليوم شعرت بسعادة لا أعرف كيف أصفها.. أنا وأمى أختان.. الله على المعانى.. الله على الكلام.. نجلس معا.. أنا الجميلة التى تجمع صفات الأبوين.. والله قد أضاف صفات أخرى من عنده.. أروع وأجمل ما سمعت.. ولا أعرف كيف استطاعت هذه الكلمات أن تزرع الريش فى كل جسمى.. فكنت لا أمشى وإنما أطير.. ولا أعرف كيف أن الدنيا أمامى قد اكتسبت ألوان الأفلام الأمريكية.. السماء زرقاء جدًا.. والسحب بيضاء جدًا.. والسيارات كاديلاك.. والفتيات جميلات والشبان فى غاية الرشاقة.. وكل شىء يضحك.. يضحك لى.. وأضحك له.. ونظرت إلى أصابعى فقد امتلأت بالخواتم الماسية.. وتخيلت أن فى كل يد طفلا صغيرا.. على جانبى طفلان.. وأمامى ابنتى الكبرى.. وورائى ابنى المتوسط.. أما زوجى ففى مكتبه.. كل ذلك تخيلته وأنا أمشى إلى جوار أمى.. أما أمى فهى جميلة جميلات الشاشة.. وتخيلت أن الناس يقولون لى: هى أختك الكبرى.. فأقول: نحن توأمتان.. ويضحك الناس.. قائلين: لا بد أنها ولدت قبلك بيوم.. ونضحك.. ونضحك.. وأجدنى أعانق أمى وأميل على كتفها.. وأقول لها: أتمنى ألا ينتهى هذا الطريق.. وأن نظل هكذا جنبًا إلى جنب.. فأعظم ما فى الدنيا هذه السعادة.. أليس كذلك يا أمى!
ووجدت أمى تهزنى وتقول لى: أنت ذهبت بعيدًا.. وصحوت فوجدت أننى أجلس فى مواجهة أمى فى إحدى السفن النيلية.. وأمامى وأمامها عصير البرتقال.
وبدأت هى الكلام فقالت: أنا عرفت كل شىء يا ابنتى!
فانزعجت وقلت: أى شىء يا ماما؟
قالت فى هدوء شديد: عرفت أنك فى حاجة إلى هذه الجلسة.. أعذرينى يا ابنتى.. إنها مشاغل ومشاكل.. الحمد لله.. مادمت ناجحة فى الكلية.. وأخوك الأكبر قد وجد عملا.. وأخوك الأوسط سوف يتخرج هذا العام.. وأنت؟ والله يا ابنتى لا أعرف.. إن والدك يفكر بعد أن تتخرجى وربنا يسعدك فى بيتك، يسافر إلى أوروبا شهورا.. تعبنا يا ابنتى.. وأبوك تعب جدا ويريد أن يستريح بعيدا.. وسوف ندعوكم إن شاء الله لتمضية بعض الوقت معنا.. فليس من السهل أن تنقطع هذه الصلات العميقة بينننا لأى سبب.. ربنا كريم!
قلت لها: تصورى يا ماما.. كان نفسى أقول لك هذا الكلام.. ولكن خفت أن يساء فهمى..
قالت: يساء فهمك؟ من الذى يسيئ فهمك يا ابنتى والعياذ بالله.. أنت؟ أنت الفراشة.. الوردة.. النسمة.. النعمة التى أرسلها الله لنا.. من يومين كان والدك يقول لى: لو كان ربنا جعل زواج الأب من ابنته حلالا.. لتزوجتها.. فليس أحد أحق بها منى.. وضحكنا.. وقلت له: والله نفرض أن هذا صحيح.. كيف يكون شعور الأم إزاء البنت التى أصبحت منافسة لها فى زوجها.. الحمد لله أن ربنا قد جعل ذلك حراما!
ولم أكن أعرف أن هذا هو شعور أبى.. كلام جديد.. ومشاعر باهرة.. كل ذلك فى يوم واحد.. إن هذه غارة جوية بكل الأسلحة على أعصابى وعلى خيالى.. ولا أذكر أننى نمت فى تلك الليلة.. ولا أذكر أن ليلة مضت دون أن أجدنى نائمة على صدر أبى وهو يبكى وأنا أبكى..
واعتدت أن أصحو والدموع على وجهى.. على مخدتى..
واندهشت أمى كيف أننى أحرص على أن أضع مخدتى فى البلكونة كل صباح لتجف دموعى.. ثم اعتادت على ذلك.. ولكنها لم تعرف السبب!
تم نشر المقال فى مجلة أكتوبر بتاريخ العدد«646»، 12 مارس 1989 ونعيد نشره ضمن كنوز أكتوبر