قبس من إبداع الغيطانى عن: المقاهى

قبس من إبداع الغيطانى عن: المقاهىقبس من إبداع الغيطانى عن: المقاهى

*سلايد رئيسى11-3-2017 | 00:26

[caption id="attachment_9897" align="aligncenter" width="300"]الغيطانى يرتشف قهوته مع نجيب محفوظ الغيطانى يرتشف قهوته مع نجيب محفوظ[/caption]
دار المعارف
ليس أروع ولا أجمل ممن خط بيمينه كلاما عن مقاهى القاهرة من عاشق الأماكن جمال الغيطانى، وفى الآتى اختارت "دار المعارف" من إبداعات الكاتب الكبير الراحل بعض مما كتب عن المقاهى، وتنقله لكم لتسيحوا معه فى جولاته، فتروا سحر، وتسمعوا أنغام، وتتشمموا عبق المكان.. ودون تطويل .. تفضلوا فى جولة مع الغيطانى:
" يبهجني ويثير عندي التوقع والرغبة الحميمة في القربى مرأى المقاهي لحظة الشروق, ما قبلها أو بعدها, بداية النهار, إنها البداية, حتى في تلك المقاهي التي لا تغلق أبوابها على مدار الأربع والعشرين ساعة, مقاه عدة الآن في القاهرة تعمل بلا توقف, وقبل ربع قرن من بدء الألفية الثالثة, كان مقهى الفيشاوي العتيق الوحيد المصرح له بالسهر حتى الصباح, لذلك كان يقصده أهل الليل من الممثلين, والصحفيين والشعراء, والمتقاعدين الذين ينتظرون أن يفتح مسجد سيدنا الحسين أبوابه لصلاة الفجر, كان البشر من مختلف النوعيات والجنسيات, العقلاء والمجاذيب, يمرون به, أو يمر بهم, فالمكان هم وهم المكان.
في بدايات النهار يتم كنس المقهى, ورشه بالماء, ونثر نشارة الخشب فوق أرضه حتى يسهل كنسه وإزالة الفضلات, للمقهى والعاملين بها أصول وقواعد, فكل شيء يجب أن يكون نظيفا, والمكان داع لا منفر أو طارد. قبل تمام الشروق لابد أن تكون (العدة) جاهزة, و(العدة) تشمل الأكواب الزجاجية, والفناجين, والملاعق, والماء الساخن, وجمر الفحم المتقد في الراكية لزوم النرجيلات, كذلك مواد المشروبات من شاي, وقهوة, وقرفة, وحلبة, وزنجبيل وكاكاو وحليب.
تتشابه المقاهي في الظاهر أو تختلف, لكن مضمونها متقارب, إنها مكان اللقاء بين الأصدقاء الذين لا تتسع بيوتهم لضجيجهم وصخبهم, أو لقضاء الصفقات وإدارة الأعمال, كثير من المقاولين وأصحاب الأعمال الصغار لا مكاتب لديهم أو مقار, يجيئون في الصباح لتوزيع الأعمال, وعند المساء لمراجعة ما تم وترتيب الأحوال للغد الآتي.
زبائن الصباح الباكر معظمهم عابرون, من الحرفيين أو صغار الموظفين أوالتجار, هنا يكون المقهى بمنزلة نقلة, محطة تتوسط الرحلة بين البيت ومقر العمل, كل منهم جاء ليعمل (اصطباحة) مشتقة من كلمة الصبح, أي يشرب كوبا من الشاي, أو يرشف فنجان قهوة, وربما يتناول إفطاره.
غير أن هنا في المدينة القديمة مقاهي ليست للعبور, إنها محطة انطلاق للعمل, أعداد كبيرة من العمال والحرفيين, ليس لديهم عمل منتظم, إنهم بالتعبير الدارج (أرزقية) يخرجون مع شروق كل يوم, وهم يجهلون إذا كانوا سيعملون هذا اليوم أملا?
المقهى مكان مناسب للانتظار, ومع مضي السنين أصبح هناك تقسيم نوعي, وما يشبه التخصص, جنوب المدينة, أشهر مقهى للطباخين, يقع ناحية زينهم, في الصباح الباكر نرى الطباخين, معظمهم من النوبة, يجيء الزبائن, بعضهم راجل والآخر راكب, تبدأ المفاوضة حول الأصناف المطلوبة, وزمن إعدادها, والأجرة.
في أول شارع محمد علي الذي صممه علي باشا مبارك في القرن التاسع عشرعلى نمط شارع ريفولي الشهير في باريس, يقع مقهى التجارة, إنه واحد من أقدم مقاهي القاهرة, رواده من الفنانين المتخصصين في إحياء الأفراح, بعضهم يعزف على الآلات الموسيقية, وبعضهم يؤلف كلمات الأغاني, وآخرون مطربون, منهم من عرف طريقه إلى الإذاعة والسينما والتلفزيون وحقق شهرة, مثل عبدالعزيز محمود في الأربعينيات والخمسينيات, وقد رأيته مراراً في المقهى, في ذروةمجده, وبعد أن بدأ غروبه الفني, المطرب الآخر الذي خرج من شارع محمد علي هو محرم فؤاد.
في مقهى التجارة يعيش بعض الفنانين على حافة الحلم والواقع, حدّثني أحدهم بثقة أنه لا يقل موهبة ولا علما عن أشهر المطربين والموسيقيين, لكن محمد عبدالوهاب يقف في طريقه.
قرب ميدان باب الشعرية مقهى فسيح من مقاهي القرن التاسع عشر, مازال على مراياه ملصقات إعلانية لأنواع من السجائر لم تعد متداولة, هذا المقهى يقصده عمال الأفران, المتخصصون في خبز العيش والشطائر, على مقربة منه مقهى للمنجدين, هذه المقاهي الخاصة بالحرفيين مراكز تجمع, ومنها يمكن العثور على العمال المهرة والاتفاق معهم على أداء مهمة محددة.
كما أن مقاهي الحرفيين معروفة, فكذلك مقاهي المثقفين في وسط المدينة, والتي كانت مركزاً لنشاط التنظيمات اليسارية, خاصة في الستينيات, وأشهرها مقهى ريش الذي شهد ميلاد حركات فنية وثقافية مهمة, وكان مركزا لجلوس نجيب محفوظ, ولهذا المقهى تاريخ ممتد, كان يجتمع به أعضاء الجهاز السري لثورة 1919 ضد الاحتلال الإنجليزي, ومنه جرت محاولة اغتيال رئيس وزراء مصر في العشرينيات يوسف وهبي القبلي والذي اختار الثوار شابا قبطيا ليحاول اغتياله, هو طالب الطب عريان سعد, وقد عرفته بمقهى الفيشاوي في الستينيات, وكان من أمهر لاعبي اليوجا في مصر, عندما قابلته كان قد اعتزل العمل السياسي.
في ميدان التحرير, كان مقهى إيزائيفتش, أحد المراكز المهمة لتجمعات المثقفين اليساريين في الستينيات, كان صاحبه خواجة من يوغسلافيا, هرب إلى مصر بعد انتصار تيتو وقيام النظام الشيوعي, الطريف أن المباحث العامة كانت تغلق المقهى وتضع صاحبه تحت الرقابة كلما وفد جوزيف تيتو في زيارة إلى مصر, وكانت تربطه علاقة قوية بالرئيس جمال عبدالناصر.
 من أغرب المقاهي التي عرفتها, مقهى الخرس, يقع في وسط المدينة, مقهى فسيح, جيد الإضاءة, لايقصده إلا الخرس, كنت أدخل إليه فأخجل من النطق, ذلك أن معظم رواده يتحدثون بالإشارة, يجيء كل منهم عبر مسافة بعيدة ليلتقي بالآخرين, وكان أحدهم بديناً, يجلس دائماً بمفرده, غير أن الابتسامة لا تفارق ملامحه, يتطلع إلى هذا, ويرفع يده تحية لذاك, إنه في حال تواصل وانقطاع مع الوجود المحيط به.
من أقدم الشخصيات المرتبطة عندي بالمقاهي, المارشال علي.
عندما كنت طفلا في السابعة أو الثامنة, أصحب والدي لزيارة سيدنا الحسين أمر بمقهى المجاذيب, عند الاقتراب منه تنتابني رهبة, فسوف أرى المارشال علي.
كان رجلاً أبيض الوجه, أحمر شعر اللحية, مكحول العينين, يرتدي حلة ضابط كبير بجيش لا يمكن تحديد هويته, على كتفيه رمانتان من الخيوط الحريرية وكأنه جنرال في جيش نابليون بونابرت, أما غطاء الرأس فيشبه الأغطية القوقازية.
كان صدره مسرحا لنياشين قديمة, بعضها مصري أو عثماني أو أوربي, وإلى جانب النياشين علامات لسجائر بطل إنتاجها, ومشروبات من أول القرن, وعلامات غامضة, وكان يرتدي قفازات جلدية صيفا وشتاءً, يجلس فوق مقعد مرتفع وكأنه كرسي العرش.
كنت أهابه, لكنني بعد دخولي المدرسة, وتجرئي على التجوال بصحبة زملائي بعد انتهاء اليوم الدراسي, صرت أقترب منه معهم, نقف على مسافة قريبة ونرفع أيدينا بالتحية العسكرية, عندئذ يقوم واقفا, يرد تحيتنا بأخرى أحسن منها, مارشالية, وكأنه يستعرض قواته.
غير أن الموقف لا يستمر هكذا, إذ سرعان ما يصيح أحد الصبية بكلمة بذيئة جدا, موجهة إليه.
عندئذ يشهر سيفه, ويزأر مهددا, وبالطبع ننطلق جريا بأسرع ما في وسعنا لكن المارشال علي لم يغادر مكانه قط, حتى عثروا عليه يوماً مغمض العينين مفارقاً الحياة في جلسته التي لم أره في غيرها, حتى أنني لأعجب الآن, أين كان يرقد? أين كان يغفو?
ماذا بقي من الحاج فهمي الفيشاوي?
مقهى يحمل اسمه, معظم رواده لا يعرفون صاحبه الأصلي, يطالعون لوحة زيتية, رسمت له عام أربعين, أي قبل مجيئي إلى الدنيا بخمس سنوات, غير أن ما بقي منه عندي (قعدته) عندما بدأت أتردد على المقهى بصحبة والدي في مطلع الخمسينيات, كان الحاج فهمي الفيشاوي صاحب المقهى قد لزم مكانه عند المدخل, فوق دكة خشبية عريضة تمكنه من النوم متمددا إذا غفا. وفي يقظته يتكئ إلى مجموعة من الوسائد, يحدق إلى المارة وإلى زمنه القديم, بينما النرجيلة لا تفارق يده, نرجيلة رشيقة, جميلة, يفوح منها دخان التمباك الفاخر, إلى يمينه يقف جواده العربي الأصيل, كان يبذل عناية خاصة به, يداعبه, ويتبادل معه النجوى, ويغسله بيده, لكنني لم أره يمتطيه, لم أشهده يركبه إلا في الصور أو اللوحات المعلقة فوق جدران المقهى.
في شتاء عام تسعة وستين من القرن الماضي, أصدر محافظ القاهرة قراراً غبياً لإزالة المقهى الشهير, ولم تنجح الحملة التي نظمها عدد كبير من المثقفين لوقف القرار, وتحدد يوم معين لبدء الهدم.
قبل يومين من الموعد المقرر أغمض الحاج فهمي الفيشاوي عينيه, أغمضهما إلى الأبد, لم يحتمل رؤية المعول يرتفع ليهدم المقهى. مقهاه, مكانه, أيامه, عمره وحضوره .
ولم يتبق من المقهى إلا ركن صغير مازال يحمل الاسم القديم, الفيشاوي, مجرد, اسم مجرد, مازال قادرا على جذب الرواد, ومعظمهم الآن من الشباب الذين لا يعرفون إلا اسم المكان, ويجهلون ما كان عليه من مجد قديم.
من الذين عبروا بالمقهى وتتردد سيرتهم أحيانا, إبراهيم الضرير, بائع الكتب, كان قزما, قصيرا جدا, ممتلئا, يحمل عددا كبيرا من الكتب القديمة, يمشي متمايلا, يقف ليصيح.
(معنا الكتب الممنوعة....)
كان يقصد بالنداء, الكتب الممنوعة من التداول, مثل الطبعات القديمة من ألف ليلة وليلة, و(رجوع الشيخ إلى صباه) و (المفاكهة والائتناس في ذكر مغامرات أبينواس) و(الروض العاطر). كانت هذه الكتب ممنوعة, وضبط نسخة واحدة منها مع شخص قد تسبب مشاكل لا يمكن التنبؤ بمداها, لكن إبراهيم الضرير اعتُبر استثناء, لا أحد يقربه, ليس لأنه من معالم المكان, إنما لأنه (بركة) هكذا يعتبر البعض في القاهرة القديمة, يتفاءل الناس به, وإذا كان درويشا, هائما يعتقد الناس فيه."
أضف تعليق

خلخلة الشعوب و تفكيك الدول

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2