هذه المذكرات أمانة أؤديها، كما أرادها صاحبها.. وإن كنت أتدخل أحيانًا فى تصويب بعض أخطائها الإملائية والنحوية.. ولو كنت شابا ما وافقت على بعض ما جاء فيها.. ولكن كل جيل له شباب، وكل شباب له جيل.. فلا أنا شاب.. ولا هذا جيلى.
قلت له: ما رأيك ننتحر معا ؟
قال: أنا وأنت؟.. ولكن لماذا؟ أنا أفهم انتحارك أنت.. ولكن أنا انتحر لأى سبب؟
-مجاملة لى..
-أجاملك فى الحياة، فكيف أجاملك فى الموت..
-لنقفز من ظهر سفينة.. فى مياه الإسكندرية أو بورسعيد.. وينتهى كل شىء.
-بايخة !
-إذن فلنقفز من طائرة؟
-ولكن لماذا؟
-يا أخى لأن الحياة لا معنى لها.. لا ضرورة.. لم نفهم شيئا.. لم نقل شيئا.. ولا أمل فى شىء.. ولا أمل فى أحد!
-ولكنى انتحر فعلا.. فأنا أحارب من أجل قضية لن أكسبها.. وأنا على يقين من هذا الفشل.. وكل يوم اتخيل أننى اقتلع أحجار الهرم واحدا واحدا وأدق بها رأسى.. وتصور كل يوم.. فأنا كما ترى أعيش بارتجاج فى المخ.. ولم أكن مخلصا فى الحب..
-لا أحد يخلص فى الحب.. فالرجال كاذبون والنساء أيضًا.. وإلا فقل لى بالله عليك، كيف أنت هكذا تبدو جميلا.. رقيقا شهما بطلا لا مثل لك فى الدنيا من أولها لآخرها.. وفجأة حين تختلف معها.. أقصد تختلف مع أية واحدة تحبك أو تحبها، فإذا بك قرد قطع الحبل من يد القرداتى.. وإذا بك قبيح الشكل وإذا بها لا تطيق أن تسمع اسمك أو ترى رسمك أو تشم جسمك.. كيف يحدث كل ذلك فى لحظة واحدة؟ هى تراك قردا وأنت تراها غولا.. أين كانت هذه المعانى؟ هذه المعانى موجودة عندك وعندها.. ولكن الوهم الذى اسمه الحب هو الذى جعل من القرد غزالا، ومن الغزال قردا.. فأنت كذاب.. وهى أكذب منك.. بل إن المرأة كذابة بالغريزة.. ولا تفرق بين الكذب والحقيقة.. إنها تجلس أمام المرآة بالساعات تضع الأحمر والأبيض والأسود والأزرق.. أليس هذا كذبا تعمله باتقان.. وأنت ترى ذلك سعيدا، ولو جاءت لك بعد أن غسلت وجهها أو بعد أن قامت من النوم مباشرة لتخيلت أنها زعلانة.. لأنها لم تكذب كما اعتادت أن تفعل.. ومعنى ذلك أنك ترى أن فى كذبها دليلا على العناية بك وعلى الحب.. فالصدق تراه زعلا.. والكذب تراه حبا.. فأنت لم تكذب على أحد.. وإنما فعلت ما هو طبيعى.. ولكن لأنك اعتدت على الكذب، فإذا صدقت مرة قلت لنفسك: اللهم اجعله خيرا، ثم إن الكذب فى الحب معناه الكذب فى الكذب.. كالممثل على المسرح أنه يتظاهر بالحب، وهو لا يحب، وبالموت وهى لا يموت.. فهو يكذب فى موقف كاذب فى مسرحية كاذبة.. وليس هذا انتحارا يا عبيط.. وإنما هو الصدق الذى تفرضه علينا الحياة التى لا تساوى شيئا.. اسمع كلامى.. تعال لنختار مكانا لنموت فيه!
-أنت كذاب.. بل أنت أكذب واحج فى هذه الشلة.. هل تريد أن تقول: إنه يوجد سياسى واحد صادق!
-طبعا لا يوجد.. ففى السياسة كل شىء معقول.. لا شىء محتقر.. لا شىء سافل.. كل الأشياء حقيرة وكل الناس سفلة.. صح ومائة ألف صح! هل تعرف لماذا أنا قررت الانضمام إلى هذا الحزب.. لكى أكون واحدا من الناس.. واحدا مثل كل الناس.. واحدا يضيع بين الناس.. فقد تعبت من أن أكون نفسى.. من أن أقنع نفسى بأننى مختلف.. متفوق.. أو يجب أن يكون مكانى أعلى.. فى أول الصف ولا أقف فى الطابور.. أريد أن أقنع نفسى أننى من طينة غير الطينة.. ومن عجينة غير العجينة.. ولم أسأل نفسى على أى أساس بنيت هذه الأوصاف؟ لا أساس! ولكن هذا هو إحساس عندى.. وتعبت جدًا.. أما فى داخل الحزب فأنا دخلت فى «يونيفورم» - أى فى الزى الموحد.. والفكر الموحد.. فأنا كالببغاء أقول ما يقولون.. ولا أخرج عنه.. وعندما أنطق بعض الكلمات اضغط على حروفها، لكى أؤكد لمن يسمعنى أن لها معنى عندنا غير الذى عند الناس.. وأننا نعرف أسرار الكلمات.. وأننا وحدنا القادرون على تنفيذها.. شىء غريب.. فى داخل الحزب: نحن ضائعون حائرون باترون وأمام باب الحزب يقف الواحد منا وقد باعد بين ذراعيه وجسم يبدو عريضا.. ويشب على أطراف أصابعه ليبدو أطول.. أى أننى أطول وأعرض.. أى أننى اشغل مساحة من هذا الفراغ أكبر مما ينبغى.. فأين الحقيقة، خارج الحزب.. انهض.. تعال لكى ننهى هذه الحياة معا.. الآن.. فورا!
-يا أخى أنا أريد أن أعيش.. وكل شىء يدل على ذلك.. فأنا أكل بحساب وأتعامل مع الناس بحساب.
قلت: تأكل بحساب.. تقصد الفول والطعمية والعدس والأرز وكلها نشويات.. هل هذا هو الحساب.. خوفا من زيادة وزنك؟! وإذا فتح الله عليك وعلى أهلك.. أكلتم الأرز بالبطاطس والخبز.. وكلها نشويات.. فأى حساب؟
قال: المهم أن يكون هناك حساب.. سواء كان الذى ابتلعه هو الأرز أو هو اللحم.. ثم انظف ملابسى وامسح المقاعد إذا جلست حتى لا يتسخ ملابسى فلا تذوب أبدًا واقتصد فى القليل الذى أنفقه.. واقتصد أيضًا فى النظرات والكلمات التى أقولها للفتيات.. فلست صيادا يلقى شباكه على أية فتاة.. فلا أنا أهرب من الفتيات ولا أشجع على ذلك، وأنا أعرف أن شرايين البنات نصفها دم والنصف الثانى صمغ.. لا تكاد تنظر إليها حتى ترمى نفسها عليك وتسألك إن كانت حماتها على قيد الحياة.. وتسألها: من هى حماتك؟ فتقول لك: الست مامتك!.. أو تقول: أحب أن اتعرف بآمال؟ فتقول لها: ومن هى آمال؟ فتقول: أختك! وتصحح لها هذا الخطأ قائلًا: اسمها كاميليا.. وهناك يتحول دمها كله إلى صمغ إلى «أوهو».. ولا تمضى أيام حتى تفاجأ بأنها دعت أختك إلى الغداء والعشاء وأعياد الميلاد.. وبسرعة مذهلة تتكون عصابة من بنات حواء تتآمر على زواجك.. وما اجتمع رجلان إلا يتكون منهما حزب.. وما اجتمعت امرأتان إلا تكونت منهما عصابة.. والرجلان يتآمران على رجل، والامرأتان على رجل أيضًا، وأكثر من ذلك أننى متدين جدا.. أو محافظ.. وقد ادهشنى ذلك.. فمنذ أيام رأتنى أختى الكبرى أصلى العشاء فوقفت ورائى.. ولما فرغت من الصلاة قلت لها: إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم نهى عن الزينة والإسراف فى وضع العطور.. ولكى أكون دقيقا فإنه نهى عن ذلك فى المساجد، وقال: انهوا نساءكم عن لبس الزينة والتبخير فى المساجد، فإن بنى إسرائيل لم يلعنوا إلا عندما لبست نساؤهم الزينة وتبخترن فى المساجد.. ويقال أيضًا إن امرأة مرت بأبى هريرة فكان لها عطر قوى فسألها: إلى أين؟ قالت: إلى المسجد! فقال لها: وتطيبت؟ قالت: نعم، قال: عودى إلى البيت واغتسلى، فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يقبل الله صلاة من امرأة خرجت إلى المسجد وريحها تعصف، حتى ترجع فتغتسل!.. ولقد عذبت أختى وهى تقول: أنا احترت معك.. إن لم أضع عطرا تقل لى: ألا تشمين رائحة عرقك! وإذا وضعت عطرا قلت ألا تخافين من رائحة عطرك؟!
قلت له: وأنت ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا فيك.. فى القميص الأحمر والكرافتة الزرقاء والجزمة من لونين (أبيض وأحمر).. والمنديل المشغول عليه اسمك.. وشعرك المسبسب.. ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا فى هذه الأنوثة؟.. قال: أنوثة؟ إنها أناقة.. الرسول قال إن الله جميل يحب الجمال.. والشاعر قال كلاما بهذا المعنى عندما عاتبه أحد السخفاء مثلك فقال:
خلقت الجمال لنا فتنة
وقلت: يا عبادى أتقون!
وأنت جميل تحب الجمال
فكيف عبادك لا يعشوقن
قلت: أنت تحفظ من الأحاديث ما يعجبك.. ولا تحفظ ما يضايقك.. وليس صحيحا أنك متدين كما تتصور ولا أنت محافظ متشدد كما تدعى.. يقال إنهم أتوا للرسول صلى الله عليه وسلم بشاب قد خضب يديه ورجليه بالحناء فقال الرسول: ما بال هذا؟ قالوا: إنه يتشبه بالنساء يا رسول الله! فأمر الرسول بنفيه أى إبعاده إلى مكان آخر.. فقالوا: يا رسول الله نقتله؟ فقال الرسول: إنى نهيت عن قتل المصلين!
ولولا هذا الحديث لقتلتك ودخلت فيك الجنة!
قال: هذا تهريج.. اسمعنى.. إننى لاحظت أننى متشرد.. وأننى حريص على الصدق والزهد والشفقة والشرف وكنت اتصور أننى غير ذلك.. ثم.. ولكنى أخاف.. ومن خاف سلم: وأنا أريد أن أعيش سالما مسالمًا.. فليس صحيحا أننى راغب فى الموت.. ولذلك لا أستطيع أن أجاملك وأموت معك.. ثم إنك كذاب أيضًا.. إن جيبك ملىء بالعقاقير.. ولو كانت الحياة قد هانت عليك لتركت نفسك للمرض.. ولكنك تخاف المرض وتتفادى الألم.. وليست هذه من صفات الذين يريدون أن يصفوا حسابهم مع الدنيا.. أو الذين قرروا الفرار منها دون دفع الحساب!
قلت: لماذا لا تقتلنى أنت؟
قال: تريد أن تجعلنى مجرما لأعز أصدقائى؟!
قلت: أعطيك هذا الشرف !
قال: أرد لك هذا الشرف!
قلت: أنت جبان!
قال: وأنت أستاذى!
هذه المشاكل لها أصل.. والأصل عند أستاذنا الفيلسوف أرسطو.. فقد قال من 25 قرنا إن الإنسان حيوان سياسى.. يقصد إنه حيوان أولا وسياسى ثانيا.. أى أنه حيوان يعمل فى السياسة أو سياسى فى حديقة حيوان.. أى أن السياسة هى الملعب الذى تظهر عليه الوحوش فى نعومة ورقة وأدب يدعون إلى الخير من أجل الإنسانية.. ومن أجل الأغلبية.. أو أنهم الساسة المنافقون الذن يخفون أنيابهم ومخالبهم وأنانيتهم عن الناس.. فالسياسى إذن هو ذلك الكائن الذى يرتدى الجوانتيات الحريرية فوق مخالبه والذى يضع طاقما من الذهب بدلا من أسنانه.. أو الذى يتظاهر بالإنسانية وهو حيوان.. وقد فهم الناس منذ ذلك الحين أن السياسة هى الحياة، وأن الحياة سياسة.. فاتجهوا بكل قدراتهم إلى العمل السياسى وتركوا الأعمال الأخرى.. تركوا أكل العيش والخدمة الوطنية.. ولذلك نجد الطبيب قد ترك العيادة إلى الحزب والمهندس والمدرس والمشايخ أيضًا.. لماذا؟ لأن السياسة هى السلم الذى يرتفع بالناس.. فلا يبذلون جهدا.. وإنما يقفون عليه، وهو يقوم بالباقى ارتفاعا وتسلقا وانتهازا واغتيالا لكل القيم الإنسانية.
هذه هى الجريمة، فكل الشباب قد رفع شعار إنه حيوان سياسى.. فلا دراسة ولا قراءة ولا بحث.
غلطة راحت ضحيتها: العلوم والفنون والأدب والأخلاق فارتبكت القيم والنظريات وخرجت مسامير وصواميل العلاقات الاجتماعية.. وأصاب الناس ما أصاب عباس بن فرناس أول عربى حاول الطيران فركب لنفسه أجنحة.. هذه الأجنحة لم تقو على احتمال جسمه فسقط.. ومن قبله سقط بطل إغريقى.. يقال إنه ألصق أجنحة بالشمع فى جسمه.. فلما ارتفع واقترب من الشمس ذاب الشمع وسقط الكائن الأسطورى الذى تمنى أن يرتفع.. ولكنه لم يستعد لهذا الارتفاع.. وكان فى حاجة إلى قدرات ضخمة.. لم تعرفها الإنسانية إلا بعد ثلاثين قرنا.
غلطة كبيرة جدا أن نوجه كل طاقاتنا إلى ناحية واحدة ونهمل بقية النواحى لحياتنا اليومية والعائلية والقومية والإنسانية.. ولأن الهدف صعب، فكان عجزنا صارخا.. ثم إننا لا نشعر بهذا العجز.. وإنما نقول لأنفسنا: طبيعى أن نعجز لأن الهدف صعب.. والحقيقة أن الهدف ليس صعبا أنه مستحيل.. مستحيل أن نطير بأجنحة قد لصقناها فى أجسامنا بشمع من الكذب السياسى: الكذب على أنفسنا وعلى غيرنا.
رأيت فيلما فرنسيا للسخرية من المسلمين.. الفيلم عبارة عن طائرة فى داخلها مسجد.. والمسجد من ورائه حمام للسباحة.. والطائرة متجهة من مكة إلى واشنطن.. وفى مواقيت الصلاة يجيئ الكابتن ويؤذن، وبعد الآذان تتجه الطائرة إلى مكة.. ناحية القبلة.. وبعد أن يفرغ المسافرون من الصلاة تتجه الطائرة إلى واشنطن.. فإذا جاء الظهر والعصر والمغرب والعشاء اتجهت الطائرة إلى مكة.. والمسافرون لا يصلون فى موعد واحد.. وفى كل مرة يصلى أحد المسافرين فإن الكابتن يتجه بطائرته إلى الكعبة.. وبعد أيام من الطيران اكتشفوا أنهم ما يزالون فوق مكة؟
هذه هى النكتة.. وكان المنطق يقول: إن تتجه الطائرة إلى واشنطن.. والمصلون يتجهون إلى مكة.. أو لا يتجهون مطلقا.. وفى أماكنهم يصلون جلوسا ويتجهون بقلوبهم إلى مكة، وتمضى الطائرة فى طريقها الصحيح.. ولكن الغلطة التى أضحكت الناس على المسلمين أن تتجه الطائرة كلها إلى مكة.. وهكذا فإنها لا تصل إلى أى هدف!
وكذلك الذين يتجهون كلهم إلى السياسة.. لا يتقدمون ولا يبرحون مكانهم ولا يبلغون هدفا.
فلم أكن جادا عندما فكرت فى الانتحار.. وإنما ساذجًا عبيطًا.. فقد تصورت أننى إذا لم أنجح فى أن أكون عضوا فى اتحاد الطلبة، فلا معنى للاتحاد ولا معنى للعلم.. ولا معنى لحياتى الدراسية.. ولا حبى لبلدى ولا إخلاصى لدينى.. ولهذا الشاب.
ولا بد أن اعتذر لكل الناس الذين أسأت فهم سلوكهم فى الأيام الأخيرة.
واعتذرت لعم محمود صاحب البوفيه.. فالرجل كان وما يزال مهذبا، وإذا طالبنى بفلوسه كان فى غاية الخجل، فليس صحيحا أنه كان وقحا جريئا.. وليس صحيحا أنه فعل ذلك لما علم أننى سقطت فى انتخابات الاتحاد.
واعتذرت للأستاذ «........» فلم يكن يغمز ويهمز ويلمز.. والآية القرآنية التى قالها صحيحة فى كل زمان ومكان وتنطبق على كل إنسان فقد قال الأستاذ: ما جعل الله لرجل من قلبين فى جوفه.
أو بعبارة أخرى: صاحب بالين كذاب.. أى إما العلم، وإما السياسة.. فأنت لا تحب اثنتين فى وقت واحد.. وأنت لا تخدم سيدين معا..
وذهبت لأمى أقول لها: أعطنى رجلك أبوسها.. وصرخت أمى تقول: حرام عليك يا ابنى تضاعف عذابى وذنوبى!
قلت: والله العظيم إذا لم تعطنى جزمتك فسوف ألقى بنفسى من النافذة.. أنا غلطت فى حقك.
فقالت: أبوس أنا جزمتك يا ابنى.. حرام عليك.. الله لا يسيئك!
وأمسكت قلما وكتبت على خدى الأيمن: جزمة..
وطلبت منها أنا تبوس الجزمة، بينما قبلت قدميها معتذرا: يا أمى أنا عندى إحساس أنك تحبين أخى الأكبر أكثر.. أنا غلطان يا أمى.. أعصابى.. أعذرينى.. دعواتك يا أمى!
لقد كان الطبيب بقراط حكيما عظيما.. فهو أول من تنبه إلى أن الأطعمة لها أثر السحر فى حياتنا.. أى أن المعدة هى بيت الداء والدواء.. وكان سقراط يضع فى جيبه الأيمن بعض السكر وفى جيبه الأيسر بعض الملح.. فإذا وجد إنسانًا قرفانا أعطاه السكر.. وإذا وجده مصهللا أعطاه الملح.. إنه يريد أن يكون الناس فى حالة من اعتدال المزاج والسلوك.. هذا الاعتدال يبدأ من المعدة وفى المعدة!
فهل لأننى لا أكف عن شرب القهوة السادة؟ هل لأننا فى المدن لا نشرب إلا القهوة مرّة الطعم.. فكانت حياتنا عصيبة مريرة.. وكانت أفكارنا فى لون القهوة وطعمها؟!
هل نحن لا نشعر بالسبب الحقيقى لليأس والقرف والتشاؤم؟
هل غلب على أفكارنا الخيال والوهم والاستغراق فى المستقبل ونسيان الحاضر والندم على الماضى؟ هل سبب ذلك أننا نشرب القهوة ونقلب فى الفنجان ونتطلع إلى قارئة الفنجان وإلى كهنة فى السياسة وفى الدين؟!
شطحات.. وشطحات؟!.. ربما.
سأحاول النوم، فكل مرض علاجه النوم.. وكل نوم ليس عميقا هو أرق متقطع..
ولو عرف الحكام كيف ينامون بعمق، لنام الناس أيضًا بعمق.. ولكن أرق الحكام يصبح قلقا عندنا.. وصداع الحكام يتحول إلى تمزق بيننا.. ومرارة الحكام تتحول إلى وحل فى أرضنا وفراشنا..
ولست حاكما لأحد.. وإنما حاكم لجسمى هذا.. والصداع الذى فى رأسى ليس إلا صدى احتجاجات وصرخات بقية أعضائى ضد عقلى.. ضد طغيانه على بقية الأعضاء.. ضد حكم العضو الفرد!
تم نشر المقال فى مجلة أكتوبر، بتاريخ 1 مايو 1988، العدد"601"، ونعيد نشره ضمن كنوز أكتوبر