شكوى من.. وإلى.. وزير الداخلية حكاية السيد اشور – مثالًا!!

شكوى من.. وإلى.. وزير الداخلية حكاية السيد اشور – مثالًا!!أنيس منصور

كنوز أكتوبر4-3-2022 | 20:26

هناك نوعان من الحروب: الحرب التى تستخدم فيها الدول كل أسلحتها علنا؛ تعبئة وحشد وهجوم واستمرار فى القتال بعد ذلك، والحرب السرية التى هى جمع المعلومات عن الاستعداد للحرب وعن القوة الاقتصادية للدولة وكيف يمكن التغلب عليها وتحطيمها أثناء الحرب.. ومعرفة كم يوما تستطيع الدولة المعادية أن تستمر.. أى كم يوما تمتد هذه الحرب.. وأين تتجمع قواها ومدخراتها.

وفى الحالتين لا بد من المعلومات، ولذلك كانت العيون البشرية فى كل مكان والعيون الإلكترونية وأجهزة التصنت وسفن الفضاء التى تصور وتسجل وتفك الشفرات وتدخل فيها وتعطل وتضلل وتعطى معلومات خاطئة – وكل ذلك بديهيات!

وليس من الحكمة أن تتوهم لحظة واحدة أن الحرب مستحيلة، ولكن يجب الاستعداد لها.. كأنها سوف تقع بعد غد.

وكل يوم نجد أمريكا تلقى القبض على جواسيس روس، والروس يفعلون نفس الشىء، ولا أحد يستنكر ذلك، وإنما يرون ذلك ضرورة من ضرورات الحياة: معرفة العدو، حتى لو كان صديقا فهناك معارك اقتصادية مستمرة كالتى بين أمريكا واليابان وألمانيا.. فكل هذه الدول تتجسس وتدفع الملايين من أجل أن تعرف الأسرار العلمية التى سوف تتحول إلى سلع جديدة تنافس وتقتل السلع الأخرى الأقل تطورا.

ونحن نقول إننا خسرنا حرب سنة 1967 لأننا دخلنا حربا مع إسرائيل دون أن نعرف كل شىء عن قدرة إسرائيل العسكرية، ودون أن نعرف كم هى قدرتنا، ولكننا وقعنا فى خداع النفس.. قلنا إننا: الأقوى.. إننا الأعظم.. إننا أقوى أكبر قوة ضاربة فى الشرق الأوسط.. وأن إسرائيل لن تأخذ فى أيدينا «غلوة» وبعدها تقول على نفسها يا رحمن يا رحيم!

نحن الذين قلنا ونحن الذين صدقنا ذلك.. وليست نكتة تلك التى رويت عن المشير عبد الحكيم عامر أنه قال لأهل بيته يوم 5 يونيو عام 1967: أعدوا الشنط سوف نقضى الصيف فى تل أبيب.. وبعد الظهر قال لهم: لا داعى.. فالناس الذين كنا سنزورهم فى تل أبيب قد جاءوا إلى القاهرة!
وهذا ما حدث فعلا!

هل كانت حرب 1967 مناورة.. مغامرة.. مظاهرة.. تهويشًا مصريا للعالم كله.. انقلب علينا وعلى أهلنا وبيوتنا ومستقبلنا الاقتصادى وحالتنا المعنوية؟ صحيح كل ذلك، والسبب أنه لم تكن لدينا معلومات صحيحة لا عن عدونا ولا عن أنفسنا!

وبعد 1967 رحت اتنقل بين العواصم العربية والمصرية بمعرض للكتب عنوانه «اعرف عدوك».. وكان الهدف منه أن نعرف إسرائيل أكثر.. حاضرها وماضيها ومستقبلها.. ومستقبلنا معها، لا مصر وحدها ولكن كل العرب!

وفيما بين 1967 و1973 أصلحنا الخطأ الكبير، فعرفنا عدونا.. واكتشفنا أننا نحن أقسى أعدائنا.. فقواتنا يجب أن يعاد ترتيبها وتنظيمها.. ويجب أن نزيل آثار العدوان على نفوسنا قبل بيوتنا.. فبيوتنا لن تدخل المعركة، وإنما نحن الذين نحمل السلاح، ووجدنا أننا انهزمنا قبل أن نشترك فى المعركة، وأننا قيادة مفككة وزعامة مرتجلة مهتزة.. وأنه ما كان من الممكن أن ننتصر إذا حاربنا.. وهذا ما حدث!

ولكن بعد أن عرفنا وعرفنا.. ودرسنا وتدربنا وتأكدنا وامتلأت عقولنا بالعلم والتجارب وقلوبنا بالثقة بالنفس والرغبة فى الثأر لكرامة الجندى المصرى والمواطن العربى.. وأقمنا كل ذلك على أسس علمية.. بعد كل ذلك أصبح عندنا يقين راسخ بأننا سوف نحدث شيئًا جديدًا فى الحرب.. ففى الوقت الذى استهانت بنا إسرائيل واحتقرت شأننا، قررنا أننا لسنا بهذا الهوان ولا نستحق هذا الاحتقار!

فالغرور ركب إسرائيل وانتشت الرءوس بالنصر فى حرب 1967.. فأعلن قادة الحرب فى إسرائيل أنهم لم ينهزموا فى 1973 وإنما انهزموا فى سنة 1967.. فقد أدى انتصارهم وغرورهم إلى الاستخفاف بالقوات المصرية.. فالنصر كان بداية الهزيمة عندهم.. كما كانت الهزيمة عندنا هى بداية النصر.. نحن عرفنا أنفسنا وعدونا، فانتصرنا.. وهم بالغوا فى ضعفنا وقدرتهم، فانهزموا.. إنها إذن حرب المعلومات.

وليس سؤالًا جادًا أن نقول: هل نحن نريد أن نعرف كل شىء عن إسرائيل؟ لأنه من البديهى أن نعرف ذلك، إذن فكيف نعرف ذلك؟ هناك الطرق التقليدية المعروفة.. جواسيس معروفة وعيون فى كل مكان، ولا أدعى العلم بكل فنون جمع المعلومات المتطورة جدًا، ولكن لا بد أن هناك أجهزة كثيرة للحصول على كل ما يجرى فى إسرائيل وخارجها.

ولكن كيف – بعد تطبيع العلاقات مع إسرائيل – نمسك كل من سافر أو حاول أو التقى بواحد إسرائيلى فى القاهرة ونحاسبه ونعاقبه كأنه إسرائيلى ضبط متلبسًا بالتجسس على مصر؟ كيف نهدد كل من يحاول أن يذهب إلى هناك ويرى ويعود يقول لنا: ماذا رأى.. ماذا سمع.. ماذا قالوا.. ماذا قال؟

إن مئات الألوف من إسرائيل قد جاءوا إلى مصر.. من كل نوع ولون ودين ولغة.. رأوا وسمعوا.. وعادوا يقولون ويصفون كل شىء فى مصر – جبال من المعلومات تدخل العقول الإلكترونية ويسجلونها ويحللونها لتكون لديهم صورة متجددة عن كل الذى يحدث فى مصر، كبرى الدول العربية ومصدر الحرب والسلام فى هذه المنطقة، كل الكتب المعروضة فى المكتبات وعلى الأرصفة قد نقلت إلى إسرائيل.. كل دفاتر التليفونات.. كل الأغنيات.. وكل شىء.. إن إسرائيل قررت ألا تفاجأ مرة أخرى بما حدث فى عام 1973.

فما الذى فعلناه نحن؟.. ما الذى علمناه؟ ما الذى نقلناه؟ ما الذى سمعناه؟ أريد أحدًا غيرى يجيب عن هذه الأسئلة.

وعندى عشرات الأمثلة على خطأ هذه السياسية التى تتخذها وزارة الداخلية فى مواجهة كل من تحدثه نفسه أن يذهب أو يلتقى.


مثل واحد: التاجر السيد عاشور.. هذا رجل تخرج فى الجامعة وتخصص فى دراسة التاريخ القديم، والتاريخ العبرى بصفة خاصة، ولأنه تاجر أقمشة فى حى الحمزاوى فقد كان على صلة بالتجار اليهود من عشرات السنين.. ثم أنه درس اللغة العبرية وتفقه فيها.. وله أصدقاء من علماء اللغات الشرقية من مثل د. حسن ظاظا أستاذ اللغة العبرية، وكذلك كاتب هذه السطور.

وهذا الرجل لا يريد شهرة ولا مجدًا ولا كسبًا ماديًا، ولذلك فمؤلفاته هى مجموعة دراسات لرجل هاو عنده مزاج خاص، وهى مطبوعة طبعًا رديئًا.. وهو لا يبيعها، وإنما يعطيها لأصدقائه.. فقط كأنه يريد أن يقول لهم إنه أيضًا ما يزال يفكر.. وتكون هذه الكتب مثل نشرات سرية.. لأنه لا يريد نشرها.. كأنه يتحدث إليك فى التليفون.. آخر هذه الكتب دراسة عن مدينة «بلبيس» التى كانت ملتقى الأنبياء إبراهيم ويعقوب ويوسف وموسى عليهم السلام ومرت بها السيدة العذراء وطفلها المسيح عليه السلام.

فإذا جاءه اليهود إلى الدكان تحدث إليهم باللغة العبرية كما نتحدث مع الإنجليز باللغة الانجليزية، وهم الذين احتلوا مصر ثمانين عاما.. ولكننا نسينا!
فإذا حدث ذلك، وهو يحدث كثيرًا، جاء البوليس يستدعى الرجل الكبير فى السن الرقيق الطيب وبمنتهى العنف يسألونه: ماذا قلت لهم.. ماذا قالوا؟
بالذمة هل هذا أسلوب لجمع المعلومات؟.. بالذمة هل هذا سلوك مع رجل لا علاقة له بالسياسة أو بالدين.. رجل باحث طيب.. وما هى الحكمة – إن كانت هناك – وراء هذا الاستدعاء السخيف؟ وهذا الإزعاج الذى يعاقب عليه رجل يتكلم العبرية – مع أن فى مصر ألوف من الشباب يعرفون اللغة العبرية التى قررتها الدولة – إلا إذا كانت المباحث ليس عندها خبر فتبقى مصيبة سوداء.

سيادة الوزير عبد الحليم موسى، ما المعنى؟ إننى على يقين من أنك لا تعرف ذلك.. وأنا لا أتدخل فى شئونك.. ولكن فقط أريد أن أعرف إن كان هذا هو الأسلوب الصحيح لجمع المعلومات؟

أحب أن أقول لك يا سيادة الوزير إن كل مواطن إسرائيلى هو مجند لخدمة بلده.. وهو ينقل ما يرى وما يسمع.. ووزارة السياحة فى إسرائيل رمزها هو رجلان يحملان عنقودا من العنب.. هل تعرف معنى ذلك؟ معناه أن موسى عليه السلام عندما رأى أرض الميعاد بعث باثنى عشر رجلا من الجواسيس ليروا وليعودوا يحدثونه عن هذه البلاد وأهلها.. فعاد عشرة يقولون: بلاد قفراء جدباء، ولا حياة فيها ومن الأفضل ألا يدخلها بنو إسرائيل، ولكن اثنين من الجواسيس عادا إليه يحملان عناقيد العنب ويقولون: إنها أرض تفيض باللبن والعسل.. أى بها حيوانات تدر اللبن.. وبها حدائق وحقول يعيش عليها النحل ليفرز العسل.

وفى الكتاب المقدس – سفر العدد – أن الرب هو الذى قال لموسى ابعث رجالا يتجسسون ليعرف الأرض والمدن والناس.. هل الأرض خصبة أو جدباء.. قليلون أو كثيرون.. والمدن هل هى خيام أو حصون.. وكانت أيام باكورات العنب، حملوا عنقودا كبيرا مع الرمان والتين.. وعادوا بعد أربعين يوما يقولون: إن الأرض تفيض لبنا وعسلا: والشعب أقوياء جبابرة عمالقة.. وقال بعضهم: بل ندخل الأرض ونملكها.

والمعنى يا سيادة الوزير: أن كل مواطن إسرائيلى هو جاسوس لبلده.. كل سائح جاسوس – صدقنى، يرى ويسمع ويناقش ويعود إلى بلده محملا بما لا نهاية له من المعلومات!

أما هذا الذى يحدث عندنا بمعناه أننا بعد أن انتصرنا فى حرب أكتوبر، لسنا فى حاجة إلى معلومات، كفاية كده، وكل ما يحاول أن يعرف، فهو يعرف لحسابه الخاص.

وهو يفعل ذلك دون موافقة الدولة.. فكأنه يتجسس لإسرائيل وليس مصر.. وعلى ذلك يجب قطع لسانه حتى لا يقول، وخرم أذنيه حتى لا يسمع!


من سنوات نشرت مجلة «أكتوبر» حكاية مطربة من إسرائيل جاءت وسجلت لحنا فى أحد استديوهات التليفزيون وخرجت دون أن يدرى بها أحد.. ويومها اتصلت بالمخابرات اعرف إيه الحكاية.. وعرفت.. وكانت الحكاية أن هذه المطربة اتفقت مع فنانة مصرية فى باريس، التى اتفقت مع ملحن مصرى مجهول على تلحين أغنية باللغة العربية التى لا تعرفها المطربة الإسرائيلية.. وجاءت إلى مصر وذهب إليها الملحن المجهول وحفظت اللحن، ودخلت تحت أى اسم آخر إلى مبنى التليفزيون وسجلت اللحن.. وكما جاءت سرًا خرجت من مصر سرًا.. كيف؟

والقضية هى: كيف اتصلت.. كيف نجحت.. كيف دخلت.. كيف خرجت.. وليس المهم أن مطربة دخلت وخرجت.. ولكن المهم هو «اختراق» أمن التليفزيون.. اختراق الاستديوهات.. اختراق كل الاحتياطيات.. المهم هو تجنيد عدد من الفنانيين أو المواطنين الطيبين.. أو الذين ليسوا طيبين.. كل ذلك قد حدث دون أن يدرى به أحد.. لولا أننى عرفت ذلك بالصدفة من مكالمة تليفونية من مدينة حيفا.. الصدفة فقط.

هل تتصور يا سيادة الوزير أن فى استطاعة محرر صغير أن يبعث مع د. عاطف صدقى رئيس الوزراء مجموعة صور أزياء ليسلمها إلى الملحق الصحفى فى لندن؟! ولكن حدث أن حمل إسحاق رابين وهو فى زيارته للقاهرة مجموعة فساتين ومايوهات بعث بها محرر صغير من تل أبيب.. لإحدى مصممات الأزياء فى القاهرة.. ولم يجد رئيس الوزراء السابق حرجا فى ذلك.. ولا وجدت المحررة الصغيرة ولا مصممة الأزياء حرجا أيضا.. إلى هذه الدرجة من الممكن لأى إنسان أن يقوم بأى عمل.. بل إن الشخص الذى لا يتصور عقل أن يقوم بشىء من ذلك، قد قام به ونفسه راضية تماما!

هل تصدق يا سيادة الوزير أنه قبل زيارات السادات إلى حيفا نشرت صحف إسرائيل أن زوجة رئيس الدولة المريضة فى المستشفى هى التى سوف تعد له قائمة الطعام وأنها سوف تحذف من سلطة السادات خضار الأفوكادو.

وسألت الرئيس السادات عن الأفوكادو هذا فقال: إنه لا يعرفه.

وسألت السيدة جيهان السادات فوصفت ذلك.. وأنها تضعه فى السلطة.. ولكن السادات لم يلاحظ ذلك.

وبعثت اسأل عن سبب استبعاد الأفوكادو من سلطة السادات.. فقالت السيدة أوفيرا نافون زوجة رئيس إسرائيل إن المخابرات نقلت إليها أن السادات كان يتناول طعام العشاء على مائدة صديقه المستشار هلموت شميت فوجد الأفوكادو هذا فى السلطة فاستبعده!

وهذه ليست إلا معلومة صغيرة.. ولكن هذه المعلومة تدل على اهتمام أجهزة المعلومات بالصغير والكبير فى سلوك الشخصيات الكبيرة.. ولا بد أن هناك معلومات أخرى أصغر وأخطر ولكننا لا نعلم.. ولكن مهمة أجهزة المعلومات أن تجمع المعلومات.. أما المعنى والتحليل والاستخدام فليس شأن الذين يجمعون المعلومات، فالذى لاحظ أن السادات لا يأكل الأفوكادو، عندما نقل هذه المعلومة لم يكن يعرف فى أى شىء يمكن الاستفادة منها بعد ذلك.

وأذكر أننى ذهبت إلى قسم الوثائق البريطانية اقرأ فوجدت شيئًا عجيبًا.. أن كمية المعلومات التى تبعث بها السفارة البريطانية فى القاهرة لا يمكن للعقل أن يتصور حجمها ولا تنوعها.. فهم ينقلون أسعار الخضراوات وملابس الباشوات والنكت والخناقات بين زوجات الوزراء وأخبار الراقصات والكباريهات – كأن جميع موظفى السفارة وخدامها وسائقيها كلهم يكتبون عن كل شىء، هم يبعثون بالمعلومات وليس من شأنهم أن يعرفوا أهميتها.
ومن هذه المعلومات تتخذ القرارات!


وليس الصديق التاجر العالم السيد عاشور إلا نموذجا.. ولا بد أن كثيرين غيره يلقون نفس المضايقات – أنت لا تعرفهم ولا أنا..
فإن كنت تريد معلومات عن إسرائيل، وهى ضرورية جدًا، فليس هذا هو الأسلوب.. إننا نكمم أفواه ونسد آذان المصريين المثقفين، ولا نفعل ذلك مع أصحاب العيون والأذن الإلكترونية الذين يجمعون الكتب ودليل التليفون وأسماء أعضاء النقابات المصرية وعناوين الضباط والوزراء فى كل مدينة.. إنها حرب المعلومات التى ليست لها هدنة ولا وقف إطلاق نار ولا سلام!

تم نشر المقال فى مجلة أكتوبر، بتاريخ 25 مارس 1990 ، العدد"700"، ونعيد نشره ضمن كنوز أكتوبر

أضف تعليق

حكايات لم تنشر من سيناء

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
تسوق مع جوميا

الاكثر قراءة

إعلان آراك 2