في هذا الفيلم التسجيلي عن السباح المصري الأسطوري عبد اللطيف أبو هيف أمر رائع، وفيه أيضا مشكلة فنية خطيرة!
الشيء الرائع هو حضور أبو هيف الإنساني المكتسح، بتلقائيته وخفة ظله، وطاقة الحب، والروح الإيجابية التي يعبر عنها، من خلال لقاءات مصورة معه، وهو فى مرحلة الشيخوخة، لا نشعر أبدا بأنه عجوز، لأن ذاكرته شابة، ولأن روحه شابة، ولأن تفاصيل حياته مدهشة وملهمة، ولأن هذه التسجيلات نادرة، وسجلت له لكي تكون ضمن فيلم عنه، تأخر ظهوره لسنوات طويلة.
أما الخبر السىء، أو المشكلة الفنية الخطيرة، فتتعلق بغياب الأمر المحوري الذي يجعل من الفيلم التسجيلي عملا فنيًا، وأعنى بذلك غياب مفهوم البناء عن تلك المادة المصورة، مع أنها مادة معقولة، سواء بتسجيلات مصورة لحوارات مع أبو هيف، أو مع زوجته العظيمة مغنية الأوبرا منار أبو هيف، أو ابنه ناصر، أو مع سباحين مصريين وأجانب عاصروا سباح القرن، وكان يمكن عمل سيناريو يقسم حياة أبو هيف إلى مراحل، ويدمج فيها قصته الشخصية مع مخرج الفيلم نبيل الشاذلي، ولكن ذلك لم يحدث مع الأسف، وإنما توالت المشاهد والمراحل مختلطة متزاحمة كيفما اتفق، ولولا حضور أبو هيف الخارق، وروحه المرحة، وقفشاته اللامعة، لما كان ممكنا الصمود أمام هذه المادة العشوائية، ولتنبه الجمهور الى الانتقالات المضطربة من جزء إلى آخر، ولاكتشف أيضا غياب مفهوم البحث (RESEACH ) فى الموضوع، وغياب عناصر أساسية وبديهية مثل ضرورة التعريف ببعض الشخصيات التي تتحدث أمام الكاميرا.
الفيلم بعنوان "تمساح النيل"، وهو عنوان موفق لأنه اللقب الذي أطلق على عبد اللطيف أبو هيف، الإسكندراني المذهل، الذي اختاروه سباح القرن العشرين، وهو صاحب الإنجازات غير المسبوقة، فى عالم سباحة المسافات الطويلة، وأحد عابري المانش التاريخيين، وبطل العالم خمس مرات، وبطل سباق كابري نابولي الشهير، وبطل سباقات أصعب وأعقد، منها سباق فى مياه كندا الباردة، استغرق من أبو هيف 34 ساعة فى الماء، بمساعدة ودعم زوجته منار، التي كانت تلقي إليه الطعام المهروس، ليتناوله أثناء العوم، والتي ظلت ثلاثة أيام تتابعه، ليحقق مجدا ما زال يتذكره به منافسوه، وكان يسبقهم دوما إلى نهايات السباقات بمسافات طويلة، أو على حد تعبير أحدهم، فإن أبو هيف يبدو قبل النهاية وكأن فى قدميه "رفّاصات" يحركها، فيندفع الى الأمام، ويفوز بالسباق.
أمجاد أبو هيف حاضرة، ولكن ليس لدى الفيلم سوى ما يحكيه الرجل، الذي نراه وهو يقرأ من أرشيفه الصحفي، وليس هناك ترتيب للمعلومات من أي نوع، إذ نبدأ من علاقة المخرج نبيل الشاذلي القديمة بأبو هيف، حيث كان نبيل صديقا لعبد الحي، شقيق عبد اللطيف، وساهم البطل الكبير، الذي كان ملء السمع والبصر فى العام 1963، فى إقناع والدة نبيل بأن يهاجر ابنها الشاب وقتها إلى كندا، واستقبل نبيل أبو هيف بعد ذلك بسنوات فى سباق ضخم أقيم فى كندا.
قصة طريفة فعلا تبرز حضور وإنسانية أبو هيف، ولكننا سرعان ما سننتقل إلى سرد متتالي من الرجل، الذي ينطلق بحرية، فمرة يحكي عن سباق بعينه، ومرة يعود إلى حبه للسباحة تأثرا بجوني ويسمولر، أشهر من لعب دور طرزان، ومرة يتحدث عن علاقته بالرئيس عبد الناصر، الذي طلب منه الاستمرار وعدم الاعتزال، ومرة تحكي منار، زوجة عبد اللطيف، عن سباق كندا الشهير، دون أن نعرف مثلا كيف تزوجته، ومرة يتدخل الابن ناصر بمعلومة، ومرات تظهر شخصيات لا نعرفها تشيد بتمساح النيل، ومرة يظهر شخص هناك عنوان يعرف به، مثل زميله ومنافسه البطل الفرنسي، ومرة نشاهد أبو هيف عندما كرموه بلقب سباح القرن، ومرة عندما كرموه بحضور صوفى أبو طالب رئيس مجلس الشعب السابق، وبحضور الكاتب الراحل أنيس منصور، ثم ننتقل إلى أبو هيف وهو يتحدث عن الإسكندرية قبل أن ينتهي الفيلم، ثم وهو أمام لوحة شارع يحمل اسمه، ولوحة شاطىء أيضا يحمل اسمه، ويعود صوت نبيل الشاذلي دون صورته، وهو يتحدث عن زيارته الأخيرة لأبو هيف قبل وفاته، وينتهي الفيلم دون حتى عنوان مكتوب يقول للمشاهد متى توفى هذا الإنسان والرياضي الفذ، والذي اشتهر بمواقفه الإنسانية، فعندما فاز بسباق المانش، منح جائزته المالية الى أسرة سباح إنجليزي، شارك فى السباق، ولكنه غرق تاركا سبعة أطفال، وكان أبو هيف ينتظر منافسيه لكي يلمس معهم خط النهاية، تكريما وتشجيعا لهم، وبالإضافة إلى روحه المرحة، فقد كان رجلا عسكريا تخرج فى أعظم كلية عسكرية فى العالم، وهي كلية ساند هيرست البريطانية الشهيرة، وعندما التقى الملك فاروق، لم يختر الحصول على عمارة مثل زملائه، ولكنه طلب أن يدرس العلوم العسكرية فى أشهر كلية متخصصة.
شخصية ثرية للغاية، فيها الروح المصرية والإسكندرانية، وفيها الموهبة والجهد الخارق، وتحتاج الى جهد مماثل فى الترتيب والبناء، لعمل فيلم كبير، بينما توجد مادة تساعد على ذلك، فإن لم توجد يمكن استكمال المادة، وترتيبها، كأن نبدأ بمرحلة الطفولة، وأول بطولة فاز بها فى الثلاثينيات وهو صبي، ثم مرحلة المانش مثلا، ثم مرحلة السباقات الأصعب، ثم حياته العائلية، وأخوته، وزوجته وأبنه، وحياته بعد الإعتزال .. الخ
ليس لدينا مع الأسف هذه اليد التي تشكل المادة، وتؤثر بها، مع أن علاقة أبو هيف مع المخرج نبيل الشاذلي كان يمكن أن تكون مفتاحا هاما، ومع أن بكاء السباح الفرنسي على أبو هيف عندما سئل عنه، كان يمكن أن يكون ختاما رائعا للفيلم، حتى جنازة أبو هيف قدمت وكأنها جزء من جريدة سينمائية عابرة، منفصلة عن حضوره الخارق، ومنفصلة حتى عن زمانها لو بكتابة تاريخها على الشاشة.
بقي فى الذاكرة مع ذلك كلام ودعابات أبو هيف، والتي انتزعها من قلب الفوضى، والتي وصلتنا رغما عن مادة تفتقد الترتيب، ورغما عن فيلم يفتقد فن الفيلم التسجيلي، وإن كان فيه بعض مادته الأرشيفية، أو بعض مادته المسجلة مع التمساح العظيم، ومع الإنسان الأعظم عبد اللطيف أبو هيف.