كانت أمنيتى دائما أن أقتنى كلبا.. فأنا أهوى تربية الكلاب وأحب أن أعلمها النظام والانضباط وأصول الأدب. ولكنى لا أحب أن أعاشر الكلاب؛ لأنه مهما قيل فى وصفها ومديحها لا تخرج عن كونها كلابا من ظهر كلاب. ومأساة الإنسان أبدا أنه مها احتاط لنفسه فإنه يقضى حياته محاطا بالكلاب.
ضحكوا علينا يوما وحكوا لنا قصصا وحكايات عن وفاء الكلب وقالوا فيه ما لم يقل مالك فى الخمر.. ولكن المغالطة الواضحة أنهم تجاهلوا أنهم نسبوا صفة الوفاء لكلب.. بينما جميل الصفات متبعها وأصلها ومرجعها للإنسان وليس للحيوان..
لم تكن هذه هى المرة الأولى فى حياتى التى أتعامل فيها مع جنس الكلاب، ولكنها كانت تجربة فريدة ورائدة فى التعرف عن قرب على صفات صنف الكلب.. أما الفارق بينها وبين سابقاتها فهو أنى فى المرات الأولى كنت أتعامل مع الكلاب فرادى كل كلب على حدة. أما هذه المرة فقد قدر لى أن أتواجد وسط مزرعة للكلاب جمعت كل أجناس هذا الصنف، وغصت بأشكال وألوان وصنوان وغير صنوان من سلالة هذا الحيوان.
رائع جدا أن تسلك أذنيك بسيمفونية النباح.. تعزفها فرقة موسيقات الكلاب.. كل يرفع عقيرته كيفا يحلو له.. كل ينبح على هواه.. فى مملكة الكلاب، لا يوجد لحن سائد ولا نوتة مكتوبة، ولا مقام متعارف عليه.. حرية النباح مكفولة لكل كلب..
فذلك فى حد ذاته هدف، أما المضمون فمنعدم لأن مبدأ الحوار لم يسبق به التعامل! ليس فى تكوين جسم الكلب أجهزة للاستقبال وليس من طبيعة الكلب أن يستقبل وجهات النظر وأن يعيها، فكل همه موظف فى استعمال أجهزة الإرسال وتلك هى المصيبة الكبرى فى مجتمع الكلاب.
لم يكن لى سابق خبرة ولا تجربة فى التعرف على أخلاقيات الوولف والبلاك جاكيت والكانيش واللولو.. أيضا هناك صنف ردى اسمه "السلافى"، وهو صنف "واطى" وشوارعى وعديم التربية ويسميه البعض "كلاب السكة"، كان على أن أتعامل مع هذا النوع أيضًا بحكم تواجده بكثرة بين كلاب المزرعة. ويقال إن التعامل معه يتم بدون قاعدة، ولا مبدأ ذلك أنه صنف منحط لا يخضع لقاعدة ولا يعترف بمبدأ.
كان على أن أختار كلبا أو جماعة من الكلاب كى أمارس معها هوايتى فى تعليم النظام والانضباط وأصول الأدب.. القصد شريف ولكن ليس من عادة التعامل مع صنف الكلب أن يستعمل كلمة الشرف!
المبدأ العام فى مجتمع الكلاب ألا تختار أنت الكلب الذى ترغب فى تربيته وتأديبه وتعليمه أصول الأدب.. اتفقت الكلاب فيما بينها على أن يقلبوا الآية، وأن يحتفظوا لأنفسهم بحق الخيار والاختيار! عزيز على النفس أن يهبط الإنسان من عليائه ويعرض نفسه ويعرضها للقبول أو الرفض على أيدى فئة من كلاب السكة، ولكنهم قالوا عندما تكون فى روما افعل كما يفعل الرومان!.. كدت أقف خطيبا فى المزرعة وأوشكت أن أرفع عقيرتى بالصياح فى جميع الكلاب، ولكنى لم ألبث أن تراجعت.. إن أصوات الكلاب أعلى نباحا من صوتى الضعيف.. وإن أنا صحت فيهم فلا فرق إذن بين نباحهم وصياحى.. إنها لاشك غلطة، ومن الخطأ أن يؤذن الإنسان فى مالطة.
الكلاب جميعا يمتازون ويتميزون بأنهم كلاب أولاد كلاب.. هم جميعا يجيدون هز الذيل والتمسح فى حذاء الشرفاء.. هم جميعا يخفون أنيابهم ويلهثون كعدائى الماراثون ليتظاهروا بضعفهم وإجهادهم.. هم جميعا يحاولون أن يظهروا أمامنا كالطواويس ويشحذون عطفنا ورضاءنا بالكذب والخداع والتدليس.. الغاية تبرر الوسيلة.. ذلك مبدأ الكلاب وأس الفساد وأصل الرذيلة.. ليس فى إمكانك أن تجنى من الشوك العنب، ولا أنت بمستطيع أن تعلم الدون الفضيلة!
كدت أسرح فى أحلام اليوتوبيا.. لعبت بى الظنون فصدقت حينا أن ذيل الكلب يمكن أن يستقيم.. وأن مملكة الكلاب كما تحكى الحواديت.. هى مملكة الحب والإخاء والوفاء، كدت أعبر بحر الشك وبحر الظن وكل أعماق الشقاء.. وعندما أحسنت ظنى.. كان ما أبصرت ليس سوى سراب.. ليس بحرا.. وليس فى مجراه ماء.
انصرفت كلاب السكة من حولى لحال سبيلها بعد أن تجمعت بمحض اختيارها وتلك طبيعة الكلاب.. وحمدت الله الذى لا يحمد على مكروه سواه.. فقد شاء الله أن يحفظنى بعيدا عن مستنقع الصنف إياه.. ونظرت إلى نفسى فى المرآة.. فوجدتنى.. اختلف تماما من هذه وتلك وهذا وذاك.. ما الذى جعلنى أخطئ تلك الخطيئة؟ أى شيطان ساقنى إلى هناك؟ أستغفر الله وأتوب إلى الله. ولا حول ولا قوة إلا بالله.. لقد خلقت بشرا سويا.. ومكانى هنا بين البشر مكرما وعليا.. وتلك آخر مرة أفقد فيها الصواب.. وأهبط من عليائى إلى مجتمع النميمة والضغينة.. مجتمع النباح والصياح.. مجتمع الغوغائية و النرجسية والسوقية.. مجتمع الذئاب والعنزات والكلاب.
تم نشر المقال فى مجلة أكتوبر، ونعيد نشره ضمن كنوز أكتوبر