غدًا ذكرى مولده

غدًا ذكرى مولدهطه حسين

كنوز أكتوبر6-3-2022 | 16:24

فى طريقنا للمدرسة ذهابًا وعودة.. كنا نمر على مجلة "الرسالة"، وكنا نسمع عن طه حسين الذى كان له مكتب بالرسالة – أشياء كثيرة أشبه بالأساطير، ذات يوم دفعنا الفضول – ونحن صبية إلى أننا يجب أن نرى طه حسين لم يكن أمامنا سبيل لذلك، إلا أن نراه من النافذة، النافذة عالية، إذن فليتسق الواحد منا زميله حتى يقف على كتفيه ليلقى نظرة على طه حسين الأسطورة كنا ثلاثة، تبادلنا الحمل والصعود حتى شاهدناه كلنا.

بهذا المعنى قدمت لحديث أجريته مع طه حسين منذ ثلاثة وعشرين عامًا فى مجلة الرسالة الجديدة أرسلت له بروفة من الحديث لمراجعتها قبل النشر، كلمنى تليفونيًا وقال بصوته المتميز: لا ملاحظات على الحديث، ولكن ملاحظتى على مقدمة الحديث، ولكن ملاحظتى على مقدمة الحديث التى قالت فيها إن الثلاثة هم: وزير سابق، ووزير حالى وأنت، سأكون سعيدًا لو ذكرت لى من هما زميلاك؟

وقلت له اسمى زميلى..

وضحك طويلاً.. طويلاً.. رحمه الله

وغدًا.. تحل ذكرى مولده..

وعظماء البشر لا يحتفل بذكرى رحيلهم.. ولكن يحتفل دائمًا بذكرى قدومهم إلى دنيانا، لأن العظيم عندما يرحل.. تبقى ذكراه تبقى أعماله التى جعلت منه ذلك العظيم.

وغدًا فى ذكرى مولد الدكتور طه حسين يحتفل البرنامج الأوروبى بالإذاعة بهذه المناسبة، الدكتورة آمال فريد تلميذة طه حسين وعاشقة أدبه.. ومدرسة الأدب الفرنسى المعاصر بكلية آداب جامعة القاهرة.. تقدم فى هذه المناسبة صفحات من "معك" مذكرات "سوزى" حرم طه حسين التى تنشرها أكتوبر مترجمة إلى العربية.

وفي نهاية عام ١٩٤٧ كنا نتخلَّص بالكاد من الخوف الكبير من الكوليرا، وكان يمكن لهذا المرض أن يسبِّب كارثةً لولا حكمة وفعالية الإجراءات التي اتُّخِذَتْ على الفور؛ فقد علمنا بذلك عندما كنا في مرسيليا لحظة إبحارنا، وأظنُّ أننا ونحن على ظهر الباخرة، بعيدين عن الأخبار الدقيقة، كنا في منتهى القلق، لم نكن وحدنا القلقين، وككل ربَّات البيوت، قمتُ باتباع القواعد الصحِّية الضرورية المطلوبة في مثل هذه الحالة بدقة، وكان الجميع في بيتي يطيعني، بَيْدَ أنَّه لم يقبل أحدٌ منهم تناول الموز المغلي، وكان ذلك منهم سلوكًا طفوليًّا.

وتطوَّعَت ابنتي مع غيرها من الفتيات والنساء للمساعدة في التطعيم العام، لم تكن قد مارست إعطاء الحقن مِنْ قَبْل قطُّ، وكانت أولى زبائنها التي اختارتها امرأة قوية من الدرب الأحمر بدا عليها الذعر، قالت لها أمينة بصوت حاسم: «هيا معي! لا تخافي؛ فمعي لن يؤلمك ذلك أبدًا» وغرزت إبرتها بجرأة في ذراعٍ على قدرٍ كبير من السُّمنة أتاح للإبرة أن تدخل وحدها، وبعد هذا النجاح، قامت بتطعيم مئات الناس حتى الوجه القبلي؛ حيث ذهبت بصحبة فريق من الصليب الأحمر.

حفلت سنوات ما بعد الحرب بلقاءات سعيدة، وكان أوَّل هذه اللقاءات لقاؤنا مع أندريه جيد، كان عائدًا من الأقصر، وكان ينزل ضيفًا على أسرة «فييت»، وقد صحبه غاستون فييت لمنزلنا ذات صباح، كان طه في مكتبه يحدث الحبَّ أحيانًا منذ النظرة الأولى، وكذلك الود، ولقد كان هذا اللقاء الأوَّل بين طه وجيد واحدًا من هذه المرَّات، كان طه يُعجَب بجيد، ولا شك، ولكن من بعيد قليلًا؛ فهما لا يتشابهان كثيرًا، غير أنهما ما إن التقيا حتى تفاهما على الفور إثر مناقشة عفوية كانا فيها كلاهما على رأي واحد، وأظنُّ أنَّ كلًّا منهما قد تعرَّف في الآخر هذا الانفتاح الروحي النادر والبساطة التامة، وقد عاد جيد لزيارتنا وتقاسم معنا بعض وجباتنا، وعرفتُ ما يحب: الشيري براندي، والجانرك، ولاحظ طه أنَّ جيد أُعْجِبَ بالسجائر التي كان يُدَخِّنها، وهي سجائر «الميراكل»، فأرسلنا له منها إلى باريس، وأسعده ذلك.

وكان عددٌ من أصدقاء أمينة أعضاء سابقين في جماعة «الطلبة» فيما أظنُّ، قد قرروا أن يقدِّموا عرضًا لمسرحية «أوديب» لأندريه جيد، لا بشكل تمثيلي، إنما بإلقاء حوارها إلقاءً، فحضر جيد إلى البيت للاستماع إلى تمارينهم.

فجأة انتبهنا إلى أننا لم نَعُدْ نرى بوضوح، وأنَّ السماء غَدَتْ في منتصف النهار سوداء تمامًا، تَعْبُرها من حين لآخر نقاط حمراء غريبة، وأذكر أنَّ آنية أزهار رقيقة كانت تحوي فيما أظن أزهار الخوخ، غدت وهي فوق البيانو الأسود، جميلة بشكل غريب، كنا مذهولين إلى حدٍّ ما، وظنَّ أناس أنها نهاية العالم؛ فشهدنا اعترافات علنية، وكان جيد الذي أثار ذلك اهتمامه إلى حدٍّ بعيد يستمرُّ في متابعة هذا المشهد الغريب لا يصرفه عن متابعته شيء آخر؛ فقد اقتعد على دَرَج المدخل ولم يَرْضَ بالعودة إلا عندما عادت الشمس إلى الظهور ثانية بشكل تدريجي.

كان قد قرأ لنا في صالوننا الصغير ذات مساء روايته تريزباس، وقد تأثَّرْنا ولا شكَّ من نص كان يعتبره آخر أعماله كما هو معروف، لكننا تأثَّرْنا كذلك بالصوت العميق الذي كان يقرؤها به، وكان طه قد ترجم هذا النص على إثر ذلك مباشرة تقريبًا.

ولما كان يحبُّ المسرح فقد صحبناه إلى مسرح الريحاني، لستُ أذكر المسرحية التي كانت تُقدَّم آنذاك، كان جيد لا يفهم بالطبع كلمةً مما كان يُقال، بَيْدَ أنَّ طه كان يقدِّم له بعض التفسيرات، وكان لابد لتمثيل هذا الفنان الرائع من أن يؤثِّر فيه؛ فرغب في الذهاب إلى مقابلته في مقصورته بالمسرح ليُعبِّرَ له عن سعادته الكبيرة بما رآه، كان الريحاني سعيدًا جدًّا بهذه المقابلة، وكذلك أنا؛ لأنني كنتُ أُعْجَبُ به دون أن أفهم أكثر بكثير مما كان يفهم جيد.

ورغب مؤنس في باريس في لقاء هذا الصديق الجديد، فتلقَّى على إثر ذلك دعوة من جيد للحضور إلى شارع «فانو»، وجاء لزيارته وظلَّ مأخوذًا؛ إذ وجد الكاتب الشهير في زيِّه العجيب: بيريه باسكيه، وسترة عتيقة من المخمل الأحمر البنفسجي، وبنطلونًا ذا مربعات زرقاء وسوداء، وخُفَّيْن مستهلكين… هو الذي يبدو في منتهى الأناقة عندما يلتفُّ في عباءته (الكاب) الداكنة اللون! وسحبه جيد إلى غرفته، فرأى مؤنس على مكتبه دهشًا مسودات كتاب «الأيام» النص الفرنسي، كنا نعرف الموقف الذي وَقَفَه جيد في دار جاليمار للنشر بصدد الكتاب، لكننا لم نتصوَّر أن يصل به الأمر إلى أن يهتمَّ بتصحيح مسودات الطبعة الأولى! لا بل إنه كان يقوم بذلك بعناية وفهم دقيق، مبيِّنًا الأخطاء الطفيفة، سائلًا مؤنس عن المعنى الأدق لبعض الكلمات، ثم ينتهي به الأمر إلى أن يطلب من مؤنس أن يحمل معه بعض الصفحات ليسجِّلَ عليها ملاحظاته الخاصة.

كان جيد يوجِّه أكبر قدر من اهتمامه لما كان يكتبه طه، وقد طلب إلى مؤنس بعض الإيضاحات المفصَّلة عن «الشعر الجاهلي»، هذا الكتاب الذي كان له دويٌّ هائل، وكذلك حول تأملات أبيه في التصوف الإسلامي التي عرضها في مقدِّمته للنص العربي من كتاب جيد «الباب الضيق».

لقد خصَّ جيد مؤنس بلفتاته اللطيفة؛ فدعاه إلى التمارين على مسرحية «المحاكمة» وقدَّم إليه مقاعد لحضور حفلة موسيقية في مسرح الشانزيليزيه، كما أهدى إليه ترجمته لمسرحية «هاملت».

كانت الصداقة الحارَّة التي عبَّر عنها جيد بأسلوب بليغ برغم تحفُّظه المعروف والأخَّاذ، أمرًا عظيم القيمة في نظر طه على وجه اليقين.

لم نكن ننتظر زيارة «بيير بوردان»، وكنا نعرف جيدًا الصوت الذي كان يصلنا من لندن مع صوت موريس شومان وجان ماران أيام الفرنسيين الأحرار،٢١٢ لكننا لم نكن قد رأيناه إطلاقا، وعندما حضر لرؤية طه بقي عنده أكثر من ساعة ونصف الساعة، ثم جاء ثانية صباح يوم سفره، وكتب لنا رسالة من تونس التي ذهب إليها، وهي رسالة ما زلت أحتفظ بها، ولقد مات هذا الشاب المتواضع، الخجول إلى حدٍّ ما، والذي يفيض ودًّا… مات بعد وقت قليل لقد عبر سريعًا، لكن طه، شأنه في ذلك شأني، كان يعتبره دومًا صديقًا.

وجاء كوكتو بدوره إلى مصر، وقال لطه على الهاتف عندما اتصل به: «أنتظر بفارغ الصبر أن أُقبِّلك» ووصل وقبَّله، وتناول العشاء في البيت، ثمَّ قام بزيارتنا مرَّتيْن، واستمرت زيارته في كل مرة ثلاث ساعات، لم يكن ساكنًا على الإطلاق، بل كان حيويًّا في إشاراته وفي كلماته، وكان يختار الجلوس حين يدخل الصالون ليس على مقعد إنما على درجة طويلة من الخشب تحاذي الفتحة ذات الباب الزجاجي التي ننزل منها إلى الحديقة، كنتُ أجلس قربه وأبقى مأخوذة أستمع إليه وهو يلوِّح بيديْه الذكيَّتيْن اللتيْن كانتا تتحركان بشكل لا يُصدَّق، واللتيْن كانتا ترسمان أمامه أشكالًا غير مرئية.

ذات يوم، جلستْ إلى جانب طه على الأريكة ذات اللون الوردي الهادئ امرأةٌ صغيرةُ الحجم، وكانت هذه المرأة إديث بياف، كنا قد حضرنا حفلتها الغنائية، ولكني لم أكن أتصوَّر على كل حالٍ أنَّها بهذا الحجم، فقد كان العرض والإضاءة يزيدان من حجمها، كما لم أرَ أنَّ عينيها الزرقاوين على هذا القَدْر من الصفاء، هاتين العينين اللتين كادتا تَفقدهما ذات يوم، ولقد حدَّثتْنا عن ذلك.

ومرَّ «جوفيه» مع فرقته، ودُهِشْتُ إذ وجدتُه في منتهى الحرارة وهو يمثل في «أوندين»، ولعلَّ مردَّ ذلك إلى أنه كان من التعب بحيث لم يكن يسيطر على لهجته المعتادة ذات الطابع الحيادي إلى أقصى حدٍّ، والساحرة وبالتالى تناولنا الغداء معه في بحيرة قارون، بدعوة من جورج ديلو، وتحدَّثنا طيلة فترة الغداء، بيد أني لا أستطيع أن أُعيد ما تحدَّثنا به.

ولا أدري إذا كان بابلو كازال قد جاء إلى مصر، لستُ أظنُّ ذلك، ففي مونبلييه صافحناه بطريقة غير منتظرة، كانت جامعة مونبلييه قد اختارت عام ١٩٤٦ سبعة أشخاص لمنحهم دكتوراه الشرف، وكان طه أحد هؤلاء السبعة، أما بقيتهم فلا أذكر منهم سوى ستيفن سبندر، وبابلو كازال، ألقى ستيفن سبندر خطبة جميلة، أما كازال الذي كنا بالكاد نراه بسبب قامته القصيرة ومظهره المتواضع؛ فقد قال عندما جاء دوره: «إنني لا أعرف التحدث إلا بواسطة كماني، فإن شئتم استمعوا له»، وعزف لحنًا من مقام رِ5؛ فهام طه في عالم الملائكة.

كان لهذا الاحتفال الذي أُقِيمَ بعد الحرب مباشرة تقريبًا طابعٌ خاص وحميم وأخَّاذ.

وكان أكبر تأثير علينا منه الذكريات التي لنا في هذه المدينة؛ فقد عدنا إلى هذا المكان بعد واحد وثلاثين عامًا من لقائنا، وخلال هذه الأيام القليلة، وبمصادفة غريبة، كنا هناك يوم ١٢ مايو (يوم لقائنا الأول)، ذهبنا إلى «كاريه دوروا»، إلى المنزل الذي رأيت فيه طه للمرَّة الأولى؛ كان مغلقًا ولم يكن لدينا وقت للعودة إلى دروب أيامنا الأولى، لكنَّ مؤنس وأمينة كانا معنا؛ فبِمَ يسعنا أن نحلم بأفضل من ذلك؟!

وبعد زيارتنا لمونبلييه مباشرة كان موعد انعقاد مؤتمر الفكر الفرنسي والسلام، في باريس الذي دُعِيَ طه إليه، وكان عليه أن يلقي كلمةً فيه، وهكذا كان يجلس على منصة المؤتمر غير بعيد عن مورياك وإيلوار وقريبًا جدًّا من إلزا تريوليه، كان يشترك في المؤتمر كثيرٌ من كُتَّاب المقاومة، وكان ذلك في حدِّ ذاته أخَّاذًا، كان طه مضطربًا؛ إذ إنه كان دومًا يتعذَّب كلما وجب عليه إلقاء خطبة حتى ولو كان ذلك باللغة العربية. وقد وقف لإلقاء كلمته على إثر إلزا تريوليه التي رأت أنَّ عليها وهي تلقي كلمتها أن تعتذر عن لهجتها الأجنبية، فبدأ طه كلمته بقوله: «وأنا أيضًا أرجوكم معذرتي على فرنسيتي الرديئة…» فانفجرت إلزا ضاحكة، وكذلك آراجون الذي ضحك بودٍّ إذ كان يعرف طه جيدًا، وها هو زوجي، وقد جعله ذلك يضطرب بشكل مخيف، يحاول أن يستدرك ويغمغم: «لم أكن أريد أن أقول يا سيِّدتي، إنَّ فرنسيَّتك…» وبعد اعتذارات لطيفة، توصَّل إلى ما كان يريد أن يقوله، وصفَّق له الحاضرون بحرارة بالغة.

لم تكن الدكتوراه الفخرية التي منحتها له جامعة مونبلييه أول دكتوراه تمنحها فرنسا لطه، ففي عام ١٩٣٠ أنعمت عليه جامعة ليون بهذا الشرف، وقد ذهبنا معًا إليها، وكان ذلك في شهر نوفمبر، على متن الباخرة «شامبليون». كان طه يعرف «هيريو» إلى حدٍّ ما؛ إذ كان يلتقي به غالبًا في اجتماعات التعاون الفكري، ويلتقي معه من ثَمَّ في الوقت نفسه فاليري الذي كان طه يكنُّ له إعجابًا عظيمًا، ولم يكن يخفي هذا الإعجاب، حتى إن الراديو الفرنسي أرسل له، عندما أراد شكره على الحديثيْن اللذيْن قدَّمهما للمستمعين العرب، كتاب فاليري الجميل «السيِّد تيست» المزيَّن بقلم فاليري نفسه.

استقبلنا عمدة ليون في مدينته كأصدقاء، وكان حديثه، كما هو معروف، عيدًا، كان كل ما يقوله مثيرًا، بل إن طريقته في قول ما يقول كانت أكثر إثارة، وأُقِيمَتْ بالطبع عدَّة ولائم، غير أن وليمته كانت ممتازة، وكان أيضًا ذوَّاقة شهيرًا للأكل، ولقد حدَّثني بإطناب عن الحدائق خلال الغداء، وكان يقول إنَّ في عالم النباتات كما هو الأمر في العالم الإنساني نباتات وأشجار غير متحابة بوضوح، لقد قرَّر أن يبتكر زهرة في مزرعة الورد التجريبية حيث كانت تُجرى تجارب علمية عظيمة، وسوف يُطلَق على هذه الوردة «سوزان طه حسين»، والحق أنَّ مدير المختبر أعلمني بعد ذلك بسنة واحدة تقريبًا عن ولادة زهرة شاي مهجَّنَة تحمل اسمي، لم أَرَها قطُّ؛ فقد قامت الحرب ولم نَعُدْ إلى ليون.

كان هيريو أيضًا مرحًا بقدر ما كان بليغًا عندما منحته جامعة القاهرة الدكتوراه الفخرية، وبدأ ينادي طه منذ ذلك الوقت: «يا عزيزي العميد».

رأيناه ثانية في نهاية الحرب، فقد قضى أربعًا وعشرين ساعة في القاهرة في طريق عودته من روسيا إلى فرنسا، وقد تلطَّفَ وزير فرنسا المفوض؛ فدعانا لتناول الغداء بصحبته في جلسة خاصة، وعندما لمحته في الحديقة حيث كان يتمشى إلى جانب الوزير بدا لي إنسانًا متغيِّرًا كليًّا، متهالكًا، قد شاخ بشكل لا يُصَدَّق، وعندما التقى طه به تعانقا، وانفعلتُ من لقائي به فعانقته بدوري، فقال لي السيد لى، مبتسمًا: «إنَّ الرئيس محظوظ» أما زوجته السيِّدة هيريو فقد بدَتْ لي أقلَّ إنهاكًا، وكان زوجها يردِّد: «لقد كانت رائعة رائعة؛ فبفضلها ما زلتُ أعيش، إنها بطلة!»

وفي العام التالي، كان مؤنس يحضر في باريس محاضرة لهيريو الذي كان قد استعاد صحَّته، وعندما تقدَّم لتحيَّته، قام هيريو بتقديمه مطولًا إلى كل من كان حوله، متحدثًا بإطناب عن أبيه، كان مؤنس عفوي الإعجاب بهذا الرجل المسنِّ المُتْعَب الذي كان يجد في غمرة هموم الحياة السياسية الوسيلةَ للذهاب إلى المكتبة الوطنية لمراجعة المخطوطات.

ثمَّ ذهبنا في أحد الأيام لزيارته، كان رئيسًا للمجلس النيابي، لكنه كان مريضًا جدًّا، كان ينتقل بصعوبة، وكنا مضطرين لمساعدته على المشي، وكان لقاؤنا ذاكَ به هو لقاءنا الأخير.

ما إن عادت أمينة من الريف بعد جولة التطعيم ضد الكوليرا حتى تقرر مصير حياتها، وكان لابد من إعلان ذلك، فمنذ ثماني سنوات وهي، فيما يبدو، تبادل محمد الزيات المودَّة دون أن تلتزم نهائيًّا بالارتباط به، ومع ذلك فإنَّ محمدًا لم يكن يشكُّ قطُّ في مشاعره، منذ تقديم «إليكترا»، نحو الفتاة الطويلة الشامخة الرأس، والتي كانت تقف باستقامة أخَّاذة وسط ثنيات سترتها البيضاء ذات الحزام الفضِّي.

كانا يدرسان في الكلية نفسها، كان هو مختصًّا بالدراسات الفارسية، وقد دفعه طه في هذا الاتجاه مثلما كان يوجِّه بعض طلابه نحو اليونانية والبعض الآخر نحو اللغات السامية، وقد قصَّ عليَّ صهري أنه بعد أن تقدَّم بطلب منحة دراسية (ولم تكن مسألة الخطوبة قد طُرِحَتْ بَعْدُ آنذاك) دُهِشَ من إعطاء المنحة لطالب آخر؛ فسأل طه: «ولماذا؟» فأجابه طه: «لأنه أفقر منك»، وأعلنت الخطوبة، ولما كانا قد انتظرا طويلاً فقد أصبحا مستعجليْن! وهكذا كنا نسرع في الإعداد للزواج، وزوَّجناهما في فترة فصلت بين مؤتمريْن كان علينا حضورهما في الخارج، فقد عدنا من المؤتمر الأول في الرابع من يونيو وتمَّ الزواج في الثاني عشر منه، ثمَّ رحلنا في السابع عشر ثانية.

وتركناهما وراءنا متألقيْن، وبعد عدَّة أيام تُوفِّي والد صهري فجأة… وقد تألمنا من ذلك كثيرًا، أما ابنتي فقد كانت مبلبلة، لكنها وجدت لدى حماتها تفهمًا نادرًا؛ فقد تمكَّنَتْ هذه المرأة الشجاعة الطيبة من كبت حزنها الشخصي كي لا تكدِّر سعادة وليدة.

وفي التاسع والعشرين من أبريل في السنة التالية، احتفلنا بميلاد أول حفيد لنا، وكنا نحتفل عشية ذلك اليوم أيضًا بعيد ميلاد الملك، وكان على طه، بصفته عضوًا في المجمع، أن يكون في مسجد الرفاعي مع بقية الهيئات الأخرى فضلاً عن أنه تلقَّى جائزة فؤاد في الأدب، ولما كان مكلفًا بإلقاء خطاب فإنَّه ألقاه بسرعة وبفراغ صبر مهموم؛ ذلك أنَّ الطفل كان قد وُلِدَ، أما بالنسبة إليَّ، فقد عشت ساعة غريبة لا تمَّحى ذكراها من خاطري ولا تغشاها الظلال، كنتُ وحيدة في الغرفة بالقرب من ابنتي التي كانت لا تزال تحت تأثير المنوِّم، وبالقرب منها وليدها صامتًا مثلها، وكان أفراد الأسرة يُحْدِثون ضوضاء على بُعْدٍ منا في المستشفى وهم يتبادلون التهاني، وكانوا سعداء، كنتُ أعرف في تلك اللحظة أنَّ أختي قد تُوفِّيَتْ، وأخذت أفكاري تتنقَّل بين تلك الحياة التي كانت تبدأ وتلك الحياة التي كانت تنتهي، وبقيتُ على هذا النحو ساعة من الزمن مستغرقة في تأمل موضوع لا أظنني مذنبة فيه.

فعندما وصلنا باريس، كانت «أندريه» لا تزال تَأْمَلُ، كانت مضطرمة النشاط تضفي على كل ما تقوم به فيضًا من الحيوية! وكانت تردِّد: «أعبد الحياة» وكان ذلك يُحطِّم قلبي، وفي العاشر من شهر أغسطس، لم تكن قد تخلَّصَتْ بَعْدُ من آثار المورفين على وعيها عندما مدَّتْ إليَّ مع ذلك يدها بباقة من الورود الحمراء، وهمست لي: «عيد سعيد!» ولا تزال وريقات هذه الزهور المسودة والمسحوقة معي حتى الآن.

ماتت في الليل، كنا نسرع في البحث عن تاكسي عندما اتصل بنا بيير هاتفيًّا، وكانت هناك راهبة قد ألبسَتْها ومشَّطَتْ شعرها، وعُدْنا إلى الفندق في الصباح الباكر، وعندما وصل مؤنس، وكان قادمًا من معهد المعلمين العالي، ورأى وجوهنا… لا أرى حاجة لوصف مشاعرنا في تلك اللحظة، ضغطني على صدره بدون أي كلمة من جانبه أيضًا، وكان هو الذي ذهب لإخطار أمِّنا.

كان قد قُبِلَ لتحضير شهادة الأستاذية، وكانت أندريه تعرف ذلك، ولما كانت بلا أطفال فقد كانت فخورة به جدًّا.

منذ ستة وعشرين عامًا وأنا أتألم كلما فكرت فيها، ومع ذلك فإنَّ الرجفة لا تزال تعتري كياني كله عندما تنفجر الأنشودة الطاهرة «هليلويا» في جناح كنيسة نوتردام دي فيكتوار حيث تمَّت المراسم الدينية: «إلهي، امنحني أن أُحِبَّ حتى يومي الأخير، ولا تدَعْ قلبي يا إلهي أبدًا، أتوسَّل إليك لا تدعه أبدًا قلبًا جافًّا أو قلبًا أصم!»

عندما عُدْنا لمصر كان هناك حشد حقيقي بانتظارنا في الميناء، وكان طه الذي كان لا يزال مغضوبًا عليه مِنْ قِبَل السلطة، ممسوكًا مِنْ قِبَل صهره من جهة ومِنْ قِبَل الأصدقاء والصحفيين من جهة أخرى، يواكبهم طلبة ومجهولون حتى وصوله إلى السيارة.

وفي منزل ابنتنا وجدنا «حفيدنا» قد كبر، كان طه يطلبه غالبًا، وكانت أجمل صفعات الصغير مخصصة له، وكان سعيدًا.

لم نكن نتوقَّع أن يصبح طه وزيرًا في يوم من الأيام، فقد كنا نرى دومًا أن ثمة موانع حاسمة تقوم عقبة في وجه ذلك بسبب عاهته وأفكاره المتحررة الجريئة وطبعه المستقل والحاسم، فبوصفه مستشارًا فنيًّا كان يكتب لرئيس المجلس، حيث هُوجِم بعنف، على هذا النحو:

نعم؛ إنني أدافع عن سياسة الوزير وسوف ألازمه في ذلك، وسألقي خُطَبًا من أجل الدفاع عن الوزارة؛ ذلك لأنني أدافع عن سياستها التعليمية التي هي سياستي، ولن يستطيع أي إنسان أن يَحُول بيني وبين ذلك سواء كنتُ موظفًا أم لم أكن.

كان دون أي شكٍّ سعيدًا لاستطاعته أن يحقِّق عددًا من مشاريعه، فقد اجتاز بنضال عنيف الخطوة الحاسمة من أجل تحقيق مجانية التعليم التي كان قد طالَبَ بها منذ عام ١٩٤٢، وكان قد تقرَّرَ قبول المبدأ غير أنَّه لم يُطبَّق، وكان الناس في الخارج على وعي كامل بما كان يعنيه هذا التحوُّل الهائل، أما في مصر فقد سبَّبَ الأمر هيجانًا، وقد تسلَّى طه عندما نقلت له كلمة تاجر بسيط لامرأته: «فلنأتِ بأولاد يا امرأة؛ فالآن يسعنا أن نعلمهم!»

وأمكن بعد ذلك المساعدة في تغذيتهم؛ وذلك عن طريق تقرير وجبة مجانية في المدرسة.

كما تأسست كلية جديدة للطب، وكذلك جامعة جديدة هي جامعة إبراهيم — جامعة عين شمس حاليًّا — وأُنشِئ المعهد الإسلامي في مدريد، وفي أثينا أُنشِئ كرسيٌّ جامعيٌّ للغة وللثقافة العربيتين، وكان يأمل تأسيس معهد في الجزائر.

وقد استخدم كل الوسائل الممكنة كي يزيد من عدد المدارس الابتدائية التي لم يكن عددها كافيًا حتى وصل به الأمر أن قام بجولة مخيفة في محافظة الدقهلية وأراد أن يقوم بجولات أخرى أيضًا، كانوا يريدون الاستماع إليه، وكان يَقْبَل الكلام شريطة دفع مبلغ معيَّن لبناء مدرسة، وكان بعض الوجهاء المأخوذين به يدفعون بشكل عفوي؛ فكان يعود إليَّ في حالة نفسيَّة ممتازة.

لم يكن ثمة أبنية كثيرة في أكتوبر من أجل افتتاح المدارس، وكنتُ متوترة النفس قلقة؛ إذ كيف سيتدبَّرون أمرهم أمام هذا المدِّ، هذا السيل من الأطفال الذين كانوا ينتظرون هذا الوعد الرائع؟ هذا دون حسبان الطلبة الذين قُبِلوا بكثرة في الكليات، خاصة في كلية الطب، وبسبب انشغاله بالأبنية الجديدة وبالأساتذة الجدد لم يكن طه ينام مطلقًا.

وتمَّ افتتاح المدارس، وبدأت الآلة تمشي، لم تكن تتحرَّك دون هزَّات بالطبع، لكنها لم تكن تتوقف.

تم نشر المقال فى مجلة أكتوبر، بتاريخ 1 يناير 1978، ونعيد نشره ضمن كنوز أكتوبر

أضف تعليق