معك!

معك!طه حسين

كنوز أكتوبر7-3-2022 | 14:28

على أن البهجة لا تدوم، فهو يحاول الصبر لكنه لا يتوصل إلى ذلك أبدًا؛ إذ إنه يستشعر بحدة أعرفها منه تمامًا مرارة الخيبات التى يلقاها غالبًا. ولقد ظل طيلة حياته ومع إدراكه للطبيعة البشرية ينسج الأوهام حول أولئك الذين يحبهم، ومنهم الآن لطفى الذى إذ لقيه فى سان ستيفانو، كازينو الرمل الشهير، حيث كانت الفئات الرسمية والطبقة الأرستقراطية ترتاده عند «العصر» لا تنتهى.

سلَّمَ عليه ببرود، كان بصحبة عدلى ومحمد محمود اللذين استقبلا طه بلطفهما المعهود. ولكن طه، بما عُرِفَ عنه مِنْ نفس أبية، سرعان ما ينسحب ويكتب إلى لطفى رسالة فى منتهى القسوة، ولابدَّ من القول أنه كان متعبًا وعصبيًّا، وأنه كان يبذل جهوده عبثًا فى سبيل دعم الأحرار «عجبًا! بينما يختبئ هؤلاء السادة الوجهاء، أدافع عنهم وتنصب على رأسى بسببهم ثلاث صحف فى الصباح وفى المساء دون توقف.. سنرى!

واعتذر لطفى:

أحتاج إلى رسائلك، تصورى كيف أننى وحدى فى كل مصر أرغم على أن أتحمل كل أنواع البؤس وكل الأحداث دون أن أجدك إلى جانبى.
ومن المؤكد أن أحدًا لم يكن ليتوقع أن يجد لدى هذا المجادل العنيف مثل هذه الحساسية المرهفة التى تجعله يكتب:
«لو قارنت نفسى بشىء ما، لقارنتها بهذه الأرض الرطبة على شواطئ النيل فى مصر العليا؛ تلك الأرض التى بمجرد أن يلمسها المرء، ولو مجرد لمسة خفيفة، يتفجر الماء منها».

ويستعيد بحنان ذكريات ١٩١٦ و١٩١٧: أعمالنا وترجماتنا اللاتينية وقراءاتنا ورسالتنا، متقاسمًا معى ما يخصه، ويتابع بالطبع العمل بدأب شديد:
إننى أعمل، وأفضل برهان على أننى أعمل هو أن كل الصحافة تقف ضدى وأننى أحتمل وحدى كل الصدمات بلامبالاة جديرة بالأب «جيروم كوانيار».
لكنه لم يكن لا مباليًا إلى هذا الحد.

وتمضى الأيام، ويحدث فجأة حدث كبير فى حياة صديقنا مصطفى: «فقد استيقظ فى الساعة الثامنة صباحًا عزبًا ليجد نفسه فى الساعة الرابعة بعد الظهر متزوجًا» بقرار من حسن باشا. لكن طه يتوهم.

فى بداية سبتمبر، كانت الاضطرابات تجتاح مصر بشكل خطير، وسيستمر الأمر على هذا النحو زمنًا طويلاً حتى يخيم استقرار نسبى فى ظل الاستقلال، فالملك ساخط؛ إذ إن الوزارة ليبرالية أكثر مما يجب، وكان الجميع يتوقعون الأزمة، فإن سقطنا فسيكون ذلك أفضل للحزب،٨٠ وسنعود للمعارضة وسيكون ذلك أسوأ للعرش.

لم يكن الملك شعبيًا، وأذكر وقوع حادثة نادرة الوقوع فى نظام ملكى، ففى إحدى أمسيات الربيع من تلك السنة كان الملك يعود من سباق الخيل فى الجزيرة، وكان الموكب يمر من تحت شرفتنا، ورأيت الفرسان يسيرون حاملين الرايات الحمراء والخضراء، والعربة التى يجرها حصانان والفرسان من ورائها. كان الملك ينحنى ويسلم يمنة ويسرة، غير أن أحدًا لم يكن يرد له التحية أو يهتف له، ومر الموكب فى صمت وبرود، كان ذلك أمرًا يثير الحنق!

ذلك الأسبوع، كان القصر كما كان يُقالُ آنذاك يركب رأسه؛ فقد كان يريد برلمانًا لا سلطة له ولا حقوق، ولم يكن يريد سيادة وطنية ولا مسئولية وزارية كانت الأزمة بعد كل شىء مدبرة.

ربما بفضل الجنرال اللنبى، أو بوجه خاص بفضل كارثة يمكن أن تضع القصر فى وضع حرج.. لكنى لست على يقين من أنها لن تعود فى وقت قريب للظهور ثانية.. فالملك محاط بحاشية رديئة! ومن الطبيعى أنى مع الحكومة، ولست أنطلق فى ذلك عن روح حزبيةٍ إنما عن وعى، إننى لن أؤيد الاستبداد على الإطلاق.


كانت الدعوى الشهيرة ضد الوفد السعدى تشغل الجميع، وكان المهتمون يرفضون الدفاع عن أنفسهم أمام محكمة إنجليزية تستمر فى ادعاء الاختصاص لنفسها النظر فى الدعوى.

والمصريون منقسمون على أنفسهم أكثر من أى وقت مضى، وأكثرية الشعب لا مبالية أو أنها متعاطفة أو أنها تنظر للأمر باستحسان، لكنه تعاطف لا يتجاوز الشفاه إطلاقًا، فهو غير مفيد. فالسعديون يحقدون على الحكومة وأنصارها ويكيلون لها الشتائم والاتهامات من كل نوع، أما العدليون فهم مبتهجون كثيرًا، ولا يخفون رضاهم، لكنهم يخشون إصدار حكم بالبراءة، هذا جبن ودناءة! إننى لست مع الوفد، لكنى لا أستطيع أن أرى الناس يُعامَلون بهذه الطريقة؛ فيقفون أمام محكمة يرأسها الأجانب، لا أستطيع أن أبقى غير مكترث إزاء هذه الإهانة الكبيرة التى توجه إلى كرامتنا.

ويقلق وهو يفكر فى السيدة قرينة واصف غالى والسيدة قرينة مرقص حنا وأخريات من النساء «بعضهن لسن غنيات» ويعود إلى العدليين: «الجبناء! إننى عدلى، بل أكثر عدلية من هؤلاء الناس، ولكن هل المسألة مسألة عدلى أو سعدى؟ أو ليست هى قضية مصر؟! يقال إن سعد زغلول المسكين فى خطر، وإن زوجته تطلب اللحاق به.. ماذا ينتج عن كل هذا؟ لا شىء ولا شك.. فإذا أدين أعضاء الوفد فالبرلمان سيعفو عنهم، ولن يتأخر البرلمان عن ذلك؛ لذا فهناك من يستعجل لوضع حد لمطامح شريرة بدأت فى الظهور».

ويقرر طه رؤية رئيس الوزراء، ويذهب إليه. كان ثروت مرحًا عندما استقبله وسأله عن أخبارى؛ وما يكادان يبدآن طرق الموضوعات الخطيرة حتى يقطع حديثهما مجموعة من الزوار، فاستأذن طه بالخروج والذهاب، لكن صهر ثروت لحق به: «وتحدثنا فى السياسة، وعرضت له آرائى، فأجابنى: «معك حق، ولكن كيف حدث أنك لم تتحدث بذلك للرئيس؟!» فقلت: «كنت على وشك أن أفعل، لكنه لم يكن وحيدًا وأنا مسافر غدًا» فصرخ: «أنتظر إذن!» وتركنى لحظةً عاد بعدها ليقول لى إن الرئيس ينتظرنى، وعدتُ إليه وبقيت معه أتحدث فترة من الوقت».

ثم يجتمع بحسن باشا الذى يقنعه بعدم مغادرة الإسكندرية قبل أربعة أو خمسة أيام، كان حسن يريد استئجار بيت: «وقال لى: ستبقى معى حتى وصول سوزان؛ فرفضت، لكنه قال: إنك لا تستطيع الذهاب؛ فإذا سقطت الوزارة فإن عليك الاجتماع بثروت، وكان على حق، فبقيت»، وفى صباح اليوم التالى تصل الأنباء عن مهاجمة إنجليزى وزوجته، وكان من شأن ذلك أن يزيد الأمور سوءًا، ما الذى سيفعله الإنجليز؟ وبانتظار ذلك، فإن سعد سينتقل من جزيرة «سيشيل» إلى جزيرة أكثر رحمة: «فذلك يرضى السعديين وبعض العدليين أيضًا».

أرجئت الأزمة وعادت الأمور ثانية إلى وضعها الطبيعى تقريبًا، كان كازينو سان ستيفانو لا يفرغ أبدًا؛ فكل الناس يوجدون فيه: «البعض منهم لأنهم أغنياء، والبعض الآخر لأنهم فقراء؛ الفقراء يأتون لتناول فضلات الأغنياء، وبهذه الطريقة فنحن على يقين من أننا سنجد عالمًا ديمقراطيًّا فى هذه الأماكن الأرستقراطية أساسًا»!

وتوشك هذه الإقامة القصيرة فى الإسكندرية على نهايتها:

لم أفعل شيئًا هنا، ولابد لى من أن أفعل شيئًا ما! علي أن أكتب وأن أترجم وأن أحضر دروسًا للجامعة وربما لدار المعلمين التى تطلب منى ثلاثة أو أربعة دروس فى الأسبوع.

لكنه سيغرى بالبقاء فى الإسكندرية قليلاً؛ لأنها «فى هذه الآونة المركز السياسى الحقيقى للمرة الأولى فيما أظن منذ سنوات؛ فالعادة جرت على أن السياسة تصنع فى القاهرة، وأن يقضى الوزراء إجازاتهم الصيفية فى الإسكندرية».

وفى المساء الأخير يتلقى زيارة من عبد العزيز فهمى باشا الذى كان قد ذهب لرؤيته عشية اليوم السابق (أى تهذيب آنذاك؟!) كان عبد العزيز باشا محاميًا شهيرًا وشخصية ساحرة مؤثرة: «يدخل ويأخذنى بين ذراعيه ويأخذ فى معانقتى بعنف تقريبًا، ويسأل عن أخبارك لا بلطف إنما بحنان، أتعلمين أنه يحب زوجته كثيرًا ولم يتعز عن فقدانها منذ ١٩٠٧؟ إنه إنسان رائع، وأظن أنه يحبنى، فأنا فى نظره عالم مصر، إن مصر مدينة لكَ وأنتَ معلمى».

كان لابد لطه من أن يضطرب؛ إذ حين لَقِيَهُ ثانيةً فى المساء فى فندقه: «كان هناك جمع كبير من الناس، ومن الطبيعى أنهم احتفظوا له بأفضل مكان، لكنه أعطانى إياه، وكان من المستحيل أن أجعله يغيِّر رأيه، وعندما استأذنت فى الذهاب رافقنى حتى فندقي»، كان لطفى وعبد العزيز أصدقاء مقربين جدًّا، فقد كان طه يلتقى بهما غالبًا ويتبادل معهما الأحاديث بحرية الأصدقاء وإلفتهم.

وفى القاهرة، كان يثقل صدره ضيق حقيقى:

لم يكن ممكنًا لى أن أدخل غرفتك دون أن أضع يدى على صدرى بشكل غريزى، كما لو أن قلبى سيفر منى.. فأنا لا أراك، ولا أرى صورتك، ولا أستطيع أن أكتب إليك بنفسى.. آه! ومع ذلك، فإنى لا أحب أن أفكر فى مثل هذه الأشياء.

كانت هذه إحدى المرات النادرة التى يتحدث فيها عن حالته ويعترف فيها بعذابه، أمن الممكن أن يُقارن عذابى بمثل هذا العذاب؟!

وربما كان العشاء الذى دعا إليه الشيخ مصطفى بمناسبة زواجه مؤخرًا قد سلاه قليلاً، كان مصطفى قد دعا «الشخصيات السياسية من الدرجة الثانية والشخصيات الأدبية من الدرجة الأولى، فالسياسيون هم الطبقة الأرستقراطية التى تصيف فى الإسكندرية».

كان طه يخاف أن تدور الأحاديث فى السياسة ويخشى ألا يتمالك نفسه، لكنهم ضحكوا كثيرًا واستبعدوا الخوض فى الأمور الشائكة برغم حضور «صحفيين من كل الألوان (عدليين ووفديين ووطنيين بل حتى ملكيين) إذ لدينا الآن حزب جديد هو حزب الملك، وصحيفة الحرية، وهى صحيفة الملك، تبعَث من جديد بأمر ملكى، ربما لأن الأهرام ستعود للظهور بعد أن توقفت عن الصدور يومين»، لكنهم تحدثوا مع ذلك عن آفة جديدة: الوشايات التى بلغت نسبتها درجة تثير القلق.
نحن بحاجة إلى حكومة حازمة قاسية ومنظمة، هذه الحكومة ليست حكومة ثروت ولا حكومة الإنجليز، فهل تمنحنا إياها الحياة الدستورية؟ بانتظار ذلك أعلمكِ أننى انتويْتُ أن أتخلى عن السياسة، وسأكرس نفسى لعملى كعالم وكأستاذ تاركًا الميدان للثرثارين والوصوليين، ولكن هل سيتركوننى أفعل؟ لقد بلغ اشمئزازى أوجه.

لكنه بعد يومين فقط يهاجم القصر! لا لكى يدافع عن الحكومة التى لا تطلب أفضل من أن تراه هادئًا إنما لأن القصر يريد الحد من حرية المعتقدات، فهل يسع الإنسان الذى دافع عن كل الحريات، وفى المقام الأول حرية الضمير، أن يبقى لا مباليًا؟! وفى الوقت نفسه يحدثنى عن صراع، يبقى بالنسبة إلى غامضًا؛ بين أعضاء لجنة الثلاثين من جهة، ورجال الدين من جهة أخرى، فالجهة الأولى تريد أن يكون الواجب الوطنى قبل الواجب الدينى، فى حين تطالب الجهة الثانية بالعكس؛ ومن ثم، فإن الأعداء المحتملين لمصر سيكونون بالطبع إما مسلمين أو مسيحيين، إذا لم يرد المسلمون مقاومة الأتراك، وإذا لم يرد المسيحيون مقاومة الإنجليز! ولكنَّ أفكارًا بمثل هذه البساطة لا يمكن أن تمس جمهورًا جاهلاً ومتعصبًا و«المناداة بأفكار من هذا القبيل تثير عداوة الناس جميعًا».

أدين أعضاء الوفد واستاء طه استياءً شديدًا، وذهب لمقابلة رئيس الوزارة وصرَّح له بجلاء أنها إهانة لبلد يدَّعى الاستقلال، وأنَّ على الحكومة أن تحتجَّ على الأقلِّ: «إنَّ سلبيتكم تضعنا فى موقف يستحيل فيه الدفاع عنكم»، وكان الرئيس المسكين يرى ذلك أيضًا، ولكنَّ طه وهو الذى يعلم أن العمل وحده هو المهم لا يكتفى بالشكاة إنما يريد القيام بحملة لكى تتخذ لجنة الثلاثين إجراءات لصالح المعتقلين: «إن اعتقالهم لن يكون طويلاً؛ إذ بمجرد أن يجتمع البرلمان، يلغى الحكم العرفى فيفرج عنهم؛ إذ لابد من أن يتمكنوا من ترشيح أنفسهم فى الانتخابات القادمة، سوف أحاول».

وبعد عدَّة أيام، تنشر صحيفة الحرية، صحيفة الملك، مقالاً لكاسترو:

يجب أن أرد عليه؛ فإذا نشر مقالى، فإن من شأنه أن يكدر الملك، وربما تأثر منصبى من ذلك، لا يهمني، فلست أنا بالذى يشترى منصبًا مقابل عبودية البلاد وإنى لعلى ثقة من أنك ستحبِّذين موقفى.

وينشر المقال، غير أن مجلس الوزراء فى اجتماعه يوم ٣ سبتمبر لم يضع مسألة المنصب على جدول أعماله، ولا يهمُّ إن كان ذلك لهذا السبب أو ذاك، وفى السابع من الشهر يستقبله وزير المعارف العامة بودٍّ ويقول له: «تعلمون أنَّ مسألتكم ستُبحَث فى الجلسة المقبلة».

وهززت كتفي: لستُ على عجلة من أمرى يا صاحب المعالي، ولم آتِ إلى هنا من أجل ذلك.

كان الأمر بصدد الدروس التى يطلبون منه إلقاءها فى دار المعلمين: «لكنى سعيدٌ جدًّا لذلك، فسوف تدخل إليها روحًا جديدة فعالة، مثلاً، لا أريد أن تتعبك هذه الدروس وتشغلك كثيرًا عن عملك فى مكتب الترجمة»، وافترقنا عند هذه الكلمات اللطيفة.

لم يصبح طه على الإطلاق مديرًا لمكتب الترجمة! والأجدر أن نتساءل فيما إذا كان قد وُجِدَ هذا المكتب نفسه أصلاً!

على الرغم من الإرهاق العصبى الذى تُسبِّبه له هذه المراجعات الدائمة للوعود وما تُخَلِّفه من مرارة فإنه لم يستسلم للقنوط، وها هو ذا يُعِدُّ أعمالاً أخرى: درسيْن لدار المعلمين حول تاريخ الشرق القديم، ستة دروس فى أسبوع واحد! أما دروس الجامعة فستدور حول الهيلينية والعلاقات بين اليونان وروما، وفى الثالث من سبتمبر كان قد بدأ كتابًا حول حركة الاستقلال المصرية، وأملى فى ساعة واحدة ست صفحات كبيرة: «ذلك لأننى أنتظرك»، فضلاً عن المقالات والترجمات.

لقد آنَ لى أن أعود؛ إذ إنه لم يَعُدْ قادرًا على الاحتمال، فهو مشغول البال من الناحية المادية، ولم يكن من الممكن الحصول على قرض كان يفكر فيه دون أن يكون مُعَيَّنًا بمنصب ما، لكنه لا يتكلم عن ذلك إلا لى أنا، ففى إحدى الأمسيات، كان «ج» يشكو مطولاً وضعه المالي، لكنه كان يعيش فى بحبوحة، ولما كان طه يعرفه فقد استُثِير: «لماذا يشكو؟! أعتقد أننى سأعتاد على أن أكسر: «اعذريني» كل الناس الأغنياء الذين يشكون فقرهم أمامي، فذلك يغيظنى ويسيء إليَّ لست غنيًّا، ولكنى بحمد الله لا أتفاخر بفقري، أولاً لأننى لا أستطيع، كما أنه سلوك يخلو من اللياقة».

أحبك وأنتظرك ولا أحيا إلا على هذا الانتظار.

تلك كانت آخر رسالة منه خلال هذه الأشهر الثلاثة من الفراق، لقد سبَّبَتْ له هذه الفترةُ كثيرًا من الآلام، لكنَّ ذكراها تظلُّ عزيزةً عليه وعليَّ؛ فقد تجرَّأ أخيرًا على أن يقول: «أنا قليل الإفضاء بمشاعري، بل إننى صموت، وإننى على وعى بذلك تمامًا، لكن ما أكثر ما حدثتك منذ رحيلك عن أشياء لا تطيقين سماعها! لم أكن أعتقد على الإطلاق بقدرتى على مثل هذا الحب، وستبقى دومًا فى أعماق نفوسنا زاوية كانت وستبقى دومًا وحشيَّة، ولن يمكن تقاسمها إلا بيْن كائنيْن، كائنيْن فقط، أو أنها لن تُقتسَم على الإطلاق، هذه الزاوية الوحشية المتوحدة هى أفضل ما فينا».

ليس هناك من بين هذه الرسائل التسعين رسالة واحدة لم تكن اعترافًا أو عطاءً، أقرؤها وأقرأ تلك التى وصلتنى منه بعد ذلك، خمسون عامًا مضت ولا أكاد أصدق ذلك إلا بصعوبة، أمن الممكن يا طه أننى كنتُ محبوبة على هذا النحو وأننى كنتُ المقصودة بهذا السيل من الحنان والعاطفة؟! لستُ فى المعادى على الإطلاق، وليس عمرى ثمانين عامًا، وعندما أغلق لفة الرسائل التى ربما تناولتها غدًا من جديد، أشعر أننى نشوى، خارج الزمن الحاضر، وخارج العالم.
هذا القَدْر من الحب الذى كان على أن أحمله وحدي، وحدي، عبئًا رائعًا، ما أكثر ما خفت ألا أتمكن من القيام بمتطلباته بجدارة!

من أين جئت أنتَ إذن؟ أنتَ الأقرب إلى نفسي، من أين جئت؟ وهل سيسمح لى الله أن ألقاك حيث أنت؟

للمرَّة الأولى، والوحيدة، لم نكن معًا فى ذكرى زواجنا، كانت رسالتك يومها مفعمة جلالاً: «أبى حاجةٌ إلى القول أنى أحبك؟! إنى لأقولها لك مع ذلك وإنه لعهدٌ لكِ منى جديد».

ولما كنا متحابَّين، فإننا سوف نسير من جديد، أقوياء بهذا الحب نحو المستقبل الذى ربما سيشبه الماضي، أو لعلَّه سيكون أفضل منه أو ربما سيكون أسوأ منه، ولكن ما همُّنا؟! سوزان، لنتابعِ المسير، أعطينى يدكِ.

«أعطينى يدكِ» لقد طلَبَها منى أيضًا فى الليلة الأخيرة، يدي، ولكنى لم أذهب معه.

تم نشر المقال فى مجلة أكتوبر، بتاريخ 4 سبتمر 1977، ونعيد نشره ضمن كنوز أكتوبر

أضف تعليق