فى الأسبوع الماضى صحا أهل مدينة كواكوف على صوت جنازير الدبابات الروسية تحيط بالمدينة، وأدرك الشعب البولندى أن حكومته ونقابات العمل قد استسلمت نهائيا للسوفيت. وأن ذلك حدث دون أن يدرى أحد!! إذن لقد انتهى كل شىء: الثورة المضادة وحركة التضامن النقابى واستعداء الغرب والكنيسة الكاثوليكية على الكرملين!..
ولكن الإذاعة أعلنت فى اليوم التالى أن الدبابات سوفيتية فعلا، ولكن تحركاتها جزء من فيلم عن الحرب العالمية الثانية من إخراج وإنتاج شركة أمريكية!..
فهل لهذا الحادث معنى آخر؟
إن فزع البولنديين ليس سببه أنهم يتوقعون الغزو السوفيتى فى أية لحظة، وإنما أن يقع الغزو دون أن تنبههم الحكومة والتضامن النقابى.. وإلا كان معنى ذلك أن الحكومة تضامنت مع النقابات فى التستر على هذه المأساة؟
فهل معنى – مثلا – أن الأمريكان هم الذين أتوا بهذه الدبابات السوفيتية أو أنه الغرب كله بخوفه وتخاذله أمام الزحف السوفيتى فى كل مكان هو الذى سيعيد بولندا إلى مكانها اللائق بها تحت الحذاء الأحمر؟
أو هل الأمريكان يأتون بالدبابات السوفيتية تروح وتجئ – تمثيلا – حتى إذا جاء الغزو الحقيقى يكون البولنديون قد اعتادوا على ذلك... ويكون الفضل للأمريكان. ويكون هذا التمثيل السينمائى استدراجا لواقع مرير – فهل هذا هو المعنى الجديد للوفاق الإمبريالى الاشتراكى؟
تكمن الإجابة عن كل هذه الأسئلة إذا عدنا إلى أزمة برلين.
ففى أواخر الخمسينيات زرعت البذور المريرة لكل شى بين الشرق والغرب فقد احتل الحلفاء نصف برلين واحتلت روسيا النصف الثانى وفجأة أعلن خروتشيف أن القوات الغربية يجب أن تخرج من برلين عاصمة ألمانيا الشرقية أو تكون برلين كلها مدينة حرة وابتلع الغرب هذا التحذير ثم عاد خروتشيف يعلن أن الغرب إذا لم يخرج بالذوق فسوف تلجأ روسيا إلى القوة ورد عليه دالاس وزير خارجية أمريكا، بأن أمريكا لا تطمع فى أكثر من ذلك، ثم مرض دالاس ومات. وكان الرئيس الأمريكى ايزنهاور يرى فيه عبقرية سياسية نادرة ولذلك فبعد وفاته لم يتخذ ايزنهاور قرارا حاسما فى مواجهة السوفيت، وكانت فلسفته أنه لا يريد حشودا عسكرية ولا مواجهة ترهق ميزانية الولايات المتحدة. وراحت روسيا تمنع عربات النقل العسكرية الغربية من دخول برلين.. ثم أقاموا حائط برلين سنة 1961.. ووضعوا الأسلاك الكهربائية لوقف المهاجرين من ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية..
وعندما سمع خروتشيف أن الأمريكان يريدون أن يعلموا السوفيت معنى "التعايش السلمى" مع الغرب لعل الحضارة الغربية أن تنتقل إليهم. لم تعجبه هذه العبارة، وقال: إذا كان الأمريكان يحلمون بذلك فعليهم أن ينتظروا حتى يتعلم الجمبرى كيف يعزف على البيانو؟!
وتضاربت اجتهادات وفلسفات كثيرة شرقا وغربا.. ولكن شيئا واحدا كان أوضح من كل شىء ومن كل عبارة، هو أن السوفيت قد امتحنوا أمريكا والغرب معا. وأنهم قد سقطوا فى هذا الامتحان. وكانت مفاجأة للسوفيت أن يجدوا العالم كله قاصرا عن فعل شىء وأن الخوف من الحرب ومن المواجهة العسكرية قد أعجز أمريكا وحلفاءها عن مجرد التفكير فى الحرب.
وأثناء أزمة برلين وبعدها.. زحفت القوات السوفيتية على المجر وعلى تشيكوسلوفاكيا.
وقد أوجز نيكسون رأيه فى السوفيت والأمريكان فى عبارة واحدة فى كتابه "الحرب الحقيقية" فقال: إن الطموح السوفيتى هو التحدى الجديد ل أمريكا وحلفائها: فلقد دخل السوفيت أنجولا وإثيوبيا وأفغانستان واليمن الجنوبية وموزمبيق ولاوس كمبوديا وفيتنام، استولوا على مائة مليون نسمة. فهذه الإمبريالية السوفيتية فى حاجة إلى مواجهة أمريكية من نوع جديد. وهناك عبارة مشهورة للينين تقول: استخدم العصا.. فإن واجهك أحد بالحديد فانسحب!..
والآن وقد أحاطت القوات السوفيتية – 40 فرقة – ببولندا من جهات ثلاث، ومحركات الدبابات تنفث دخانا أسود يجعله الجو بارد أبيض.. والعالم كله يعرف ذلك وينتظره..
وفى داخل بولندا يقف رجلان: السيد كانيا زعيم الحزب الشيوعى.. والسيد فاليسيا زعيم التضامن النقابى.. ثم الكنيسة الكاثوليكية.. وخارج بولندا: العالم الغربى ونحن فى الشرق الأوسط.. وطائرات الإنذار المبكر الأمريكية تؤكد أن روسيا قد أعدت كل شىء للقتال، وأن الغزو وشيك، ثم رحلة الرئيس بريجنيف إلى الهند يدعو للسلام ويدين الثورة المضادة – أى عمال النقابات والدول الغربية التى تسلل بأموالها ونفوذها إلى بولندا – ويدين التدخل الغربى فى الخليج وفى أفغانستان..
ومعنى ذلك أن الرئيس بريجنيف لا يرى دخول قواته إلى أفغانستان غزوا، ولا كذلك قواته فى بولندا.
وأمام الفزع من القوات السوفيتية نجد بوادر التشقق فى الحزب الشيوعى البولندى الذى يدعو القوات السوفيتية إلى الدخول حتى لا تنهار بولندا كلها..
والتضامن النقابى ظهرت فيه علامات التمزق، فالفلاحون يطالبون بنقابة لهم.. لأنهم يرون التضامن بزعامة فاليسيا قد فترت حدته، وخمدت ومضته.. ولذلك لم يعودوا يثقون فيه..
أما الكنيسة فهى لا تملك إلا الصلاة والدعوة إلى الاعتدال حتى لا يتغطى الجليد بدم الشهداء.. فتضيع الحرية التى توارثوها عن الآباء والأجداد – وكان ولا يزال ثمنها فادحا!
فهل يستطيع الحزب الشيوعى أن يشد لجام النقابات العمالية؟.. إنه يستطيع ذلك بقوة البوليس والمخابرات.. بل يستطيع أن يحشرهم فى المصانع والمعامل، وأن يسوقهم إلى الحقول.. ولكن هل يستطيع بعد ذلك أن يقنعهم بالعمل؟ إن الحزب الشيوعى لا يستطيع.. فهل التضامن العمالى يرى أن الكارثة الاقتصادية والجوع أهون من طاعة الحزب الشيوعى عميل السوفيت؟
إن الشعب فى بولندا جائع، ولكنه لا يريد أن يشترى الرغيف بكرامته، والنبيذ بحريته، ومجد أجداده بالهوان..
فهل يعرف الحزب الشيوعى والتضامن العمالى البديل لعدم التوافق بينهما؟
إن البديل هو الغزو السوفيتى الذى يسحق الجميع!
فهل يفعل الاتحاد السوفيتى ذلك؟
إن مستشار الأمن الأمريكى «برزنسكى» أعلن منذ أسبوع: أنه لا يتوقع غزوا سوفيتيا لبولندا – اعتمادا على ما لديه من معلومات دقيقة..
ولكنه بعد يومين أعلن: أنه لا يستبعد هذا الغزو..
فما الذى حدث فى ثلاثة أيام؟
لم يحدث شىء إلا أن السيد «برزنسكى» قد عاد إلى كتب التاريخ، وأنه قرأ ما حدث أثناء أزمة برلين والأزمات الأوروبية عندما هاجر أمام الدبابات السوفيتية كثر من أبناء المجر وتشكوسلوفاكيا وألمانيا.. وأخيرًا زوارق المهاجرين من بولندا إلى ألمانيا وكأن السوفيت لم يكتفوا بمدى معرفتهم بالأمريكان فاختبروهم مرة أخرى فى أفغانستان، فوقف الغرب المسيحى والشرق الإسلامى صفا واحدا يعلنون فشلهم عن عمل شىء.. وإنما فى صلاة واحدة: ركعوا وسجدوا للخوف من المواجهة بين الدولتين العظميين.
بينما الدولة العظمى السوفيتية ماضية فى تحقيق طموحاتها..
وإذا استعرنا عبارة نيسكون فإن السوفيت لم يخسروا شبرا منذ قيام الثورة السوفيتية حتى اليوم، أما الأمريكان فقد خسروا عشرات الألوف من رجالهم والعشرات من أصدقائهم.. وأهم من ذلك كله: الصورة المثالية التى علقها العالم كله ل أمريكا عالية بعد الحرب العالمية الثانية.. إنها لم تعد هناك.. والسبب كما يقول نيكسون: إن أمريكا لا تفتقر إلى الرجال، إنما إلى «الرجل» الذى يقول ويفعل فى مواجهة السوفيت الذين يفعلون مالا يقولون.. فهم يرفعون أعلام السلام على دبابات الغزو فى القارات الأربع.. إنهم لم يقتربوا بعد من أستراليا.. وهى القارة الخامسة، ولكن بدأوا فقط ببعثات استكشافية فى القارة القطبية الجنوبية، ثم إن لهم أساطيل تصيد الأسماك من المياه الأسترالية!
إن كاتبا بولنديا عظيما اسمه «سينكفتش» حائزا على جائزة نوبل فى الأدب له رواية اسمها «كوفاديس دومينيه» وهى عبارة لاتينية معناها: أين تذهب أيها السيد؟..
وهو سؤال وجهه القديس بطرس عندما تراءت له صورة السيد المسيح، وكان بطرس هاربا من اضطهاد الرومان، فما كان من السيد المسيح إلا أن رد عليه ساخرا: إننى ذاهب إلى روما!
أى إلى روما التى هرب منها القديس بطرس، فعاد القديس إلى روما ليقف إلى جانب المسيحيين المضطهدين.
فإلى أين تذهب أيها الإمبراطور بريجنيف.. وكانيا.. وفاليسيا.. والرئيس ريجان وبقية سادة الغرب وملوك ورؤساء العرب وسادة عدم الانحياز؟
إن من يقرأ الصحف العربية يجد أننا غارقون فى لعبة الكلمات المتقاطعة.. أو فى وضع فوازير رمضان، مثلا: إذا كان بريجنيف بقواته فى أفغانستان واليمن وليبيا وسوريا الإسلامية وإثيوبيا الأرثوذكسية وبولندا الكاثوليكية، ألا يخشى من تحالف الأديان ضد؟ ألا يخشى من تمرد المسلمين فى الولايات السوفيتية المجاورة لباكستان وأفغانستان وإيران؟..
هل كان العالم الغربى يعلم ما سوف يحدث فى بولندا.. فاختار الفاتيكان بدهائه التقليدى البابا بولندى الأصل، واختار الرئيس الأمريكى مستشارا للأمن القومى برزنسكى البولندى الأصل، واختارت إسرائيل بيجن البولندى الأصل، واختارت جائزة نوبل للأدب باشيفاس سنجر البولندى الأصل؟..
هل نستطيع أن نمضى فى البحث عن وجه الشبه بين الجميع، فتقول إن أسماءهم جميعا تبدأ بحرف الباء مثل بولندا تماما؟!..
فهل استفدت شيئا من هذه المقارنات أو من ربط هذه الخيوط بعضها ببعض؟..
ألا يمكن أن ترى شيئا آخر.. هو أن السوفيت محقون إذا وجدوا فى كل ذلك مؤامرة مدروسة مرسومة محبوكة ضدهم؟..
ألست ترى أن أخطر وأعجب وأكثر العبارات سذاجة هى التى قالها الرئيس كارتر عندما سمع عن الغزو السوفيتى لأفغانستان: لقد كان مفاجأة لى؟..
بل هذه العبارة هى أكبر مفاجأة فى القرن العشرين.. كيف يفاجأ أكبر رجل فى أكبر دولة لها أكبر أجهزة مخابرات بحشود سوفيتية تدخل أفغانستان، أى حشود تجمعت وتنظمت شهورا، ومهدت لها الحكومة العميلة سبل الدخول، وجمعت لها السحب ستارا يحميها من أقمار التجسس الأمريكية؟.. ثم كيف يعلن ذلك الرئيس الأمريكى دون أن يناقش مثل هذه الفضيحة مع مستشاريه؟.. كيف لا تكون هذه العبارة اتهامات مردودة إلى الإدارة الأمريكية؟..
ولكن إذا عرفنا أن الرئيس الأمريكى قد أعلن وهو يرقص مع الشاهبانو ليلة رأس السنة فى طهران "أن إيران جزيرة أمان؟، بينما كانت وزارة الخارجية و المخابرات الأمريكية تمهد لسقوط الشاه.. وفى نفس الوقت لسقوط هيبة أمريكا، ولكى تطفو خيبة أمل الحلفاء فى صداقة أمريكا والاعتماد عليها عند الضرورة!..
وكل ما كانت تحتاج إلى أمريكا بعد سقوط الشاه هو أن يساعدها أحد على أن تخفى وجهها بعض الوقت لتطل به بعد ذلك.. فأدركها الرئيس السادات عندما أعلن أنه يعطى ل أمريكا تسهيلات عسكرية إذا أرادت إنقاذ الرهائن، وإذا أرادت أن تدافع عن العرب فى الخليج والمسلمين فى أندونيسيا والملايو.. وكان ذلك إنقاذا عظيما، وعلى الرغم من فشل المحاولة الأمريكية فى إنقاذ الرهائن، فإن رجلا واحدا امتدح هذه العملية العسكرية البارعة بجميع المقاييس الفنية.. هذا الرجل هو أنور السادات مرة أخرى..
حتى الدول الغربية لم تستطع أن تقف إلى جانب أمريكا فى مواجهة المحنة الإيرانية والفضيحة الأفغانية، وكل ما فعلوه هو مقاطعة الدورة الأوليمبية.. ولم تستطع الأرجنتين أن تمنع القمح عن روسيا، وإلا تكدس فى أسواقها وانخفض سعره فساد الكساد البلاد.. وكل ما فعلته الدول الغربية هو الوقوف بباب هرمز..
ولكن الدول العربية وجدت فى التسهيلات المصرية قرارا شجاعا، ولذلك وافقت السعودية على نزول القوات الأمريكية فى مطاراتها والوجود الدائم لطائرات الإنذار المبكر فى سماواتها، ووافقت سلطنة عمان على أن تكون ل أمريكا قواعد عسكرية فى إحدى جزرها..
وذهبت مصر فى تشجيع أمريكا إلى خطوة أبعد، وهى أن وافقت على التدريبات العسكرية المشتركة فى صحراء مصر وهى مختلفة تماما عن الصحارى الأمريكية، لصحارينا بها رمل ناعم يجعل الرؤية صعبة، ومع ذلك فالطيارون المصريون لا يحتاجون إلى أجهزة كثيرة لتضمن سلامتهم، بينما يحتاج الأمريكان إلى أجهزة أكثر وأعقد، وسوف تؤدى التدريبات المشتركة إلى تعديل فى أساليب الأداء الأمريكى..
ولكن قوات الانتشار السريع الأمريكية لن تصبح قادرة على فعل شىء قبل سنة 1985، وقبل أن توافق الإدارة الجديدة على أن تنفق عليها ستة مليارات من الدولارات!..
أى يجب على كل المشاكل أن تنتظر حتى توافق الإدارة الجديدة على الميزانية، وحتى تتدرب هذه القوات على النزول والطلوع فى رمال صحارى مصر والسعودية والكويت!
ثم كان الرئيس السادات أسبق من أمريكا فى تشجيع الحلفاء الغربيين على أن يكون لهم موقف أكثر إيجابية بعد إعلانهم بيان البندقية، فأعلن استعداده لإعطاء تسهيلات لأية دولة أوروبية بما فيها بريطانيا التى كانت تحتل مصر أكثر من سبعين عاما، بشرط ألا ترفع علما!..
وفى الكتب السياسية يذكرون نكتة أطلقها السوفيت على الصين، تقول النكتة أن فلاحا صينيا وجد فى فراشه رجلا يرقد إلى جوار زوجته، فأمسك مسدسه مهددا قائلا: إننى أنذرك للمرة المائة، إذا لم تقفز بعيدا عن زوجتى فسوف أطلق عليك الرصاص!..
ويمكن أن تعاد صياغة هذه النكتة وتعليبها وإرسالها إلى أى ساكن للبيت الأبيض منذ ثلاثين عاما! فقد اتخذت أمريكا سياسة معروفة هى: التهديد بالقوة دون استخدامها!..
نعود إلى دهشة الرئيس الأمريكى كارتر، ومعناها: أن الرئيس الأمريكى وكثيرين من مستشاريه كانوا يعتقدون أن السوفيت لا يحاربون خارج بلادهم – أى على عكس أمريكا – وفجأة وجدوا أن القوات السوفيتية زحفت وهدمت وقتلت وتقدمت بناء على طلب الحكومة الأفغانية الشيوعية، وسوف تفعل روسيا نفس الشىء عندما تطلب دول حلف وارسو من السوفيت أن يدخلوا بولندا دفاعا عن الوحدة الاشتراكية، وحتى لا تكون بولندا منشقة مثل رومانيا أو يوغوسلافيا وألبانيا.. والصين!..
وفى القاموس الشيوعى تجد كلمة جديدة هى "المذهب التحريفى" أو "التصحيفى" أو "المراجعون" – وهذه الكلمة أطلقها السوفيت على المحاولات البولندية المستمرة لتحريف كلام لينين، وتصحيف كلام ماركس و"مراجعة" الحزب الشيوعى السوفيتى ولى أمر الأحزاب الشيوعية فى كل مكان!..
فهل نراهن على دخول السوفيت اليوم أو غدا واحتلال بولندا؟
قبل ذلك يجب أن نعود إلى كتاب من أمتع الكتب فى عالم الحيوان اسمه "عن العدوان" للكاتب النمساوى لورنتس، يقول: إن بعض الحيوانات المفترسة ليست فى حاجة إلى أن تغتال فريستها بأنيابها أو بأظافرها.. أو تلقى بنفسها عليها.. أو تلتف حولها فتحطم ضلوعها.. أو كما تفعل بعض الزهور عندما تستدرج بألوانها وعطورها الحشرات، فإذا دخلت بين وريقاتها اعتصرتها حتى الموت.. لأن هناك بعض الوحوش تنظر إلى الفريسة فتكون لعيونها قوة أشعة الموت.. فتسقط الفريسة مشلولة من الخوف.
ويقول لورنتس أيضًا: إن الأسد يقتل ضحاياه دون أن يراها أو حتى يعرف مكانها أو يشم رائحتها.. فهو عندما يزأر يتردد صدى زئيره فى كل جوانب الغابة.. فلا تعرف الحيوانات أين هو.. فتقف جامدة فى مكانها بل إن بعض الحيوانات يدفعها الخوف إلى الانتحار، فتظل رؤوسها فى الأشجار أو الأحجار حتى تموت.. فإذا ماتت فإن الأسد لايقترب منها لأنه لا يأكل الموتى.. فكأنها فضلت الانتحار على الموت!
والعالم الكبير لورنتس عندما يتحدث عن الحيوان فهو لا يرفع عينيه عن الحياة الاجتماعية وعن تاريخ عدوان الإنسان على الإنسان والأعلبية على الأقلية.. و روسيا تلتفح حول بولندا وتنتظر حتى يقع من داخلها وتتساقط ممزقة.. العمال والفلاحون والمثقفون.
وفى نفس الوقت تصيب الغرب بالارتباك، لأن صوت السوفيت يدوى فى آسيا وأفريقيا وأوروبا وأمريكا، فلا يعرف أحد أين هى ومتى وكيف تكون فريستها القادمة؟.
هل الضحية القادمة بعد بولندا هى إيران؟
قال لى شاه إيران: هذا مؤكد!
ولما سألته قال: لأن الذين يحكمون إيران فوضويون جهلاء.. متعطشون للدماء.. فقد شغلوا الناس عن العمل وحشدوهم فى الشوارع يسرقون وينهبون ويهتفون للخومينى.. فإذا جاء الروس فسوف يعطونهم شيئين: النظرية والعمل، أى النظام والرغيف، وسوف يأخذون منهم شيئين: الحرية والكرامة.
فليس بعيدا عنا ما يحدث فى بولندا، لأنه يتكرر فى سوريا وليبيا واليمن وأفغانستان.
سؤال أخير هو: هل ينتهز الرئيس برجنيف فترة تغيير الحرس فى البيت الأبيض ويدخل بولندا بنصف مليون جندى؟
إذا فعل ذلك فهى خدعة قديمة نراها فى كثير من أفلام الجاسوسية والجريمة ولكن لأنها معروفة فالناس – عادة – يستبعدونها. وبسبب ذلك الاستبعاد فإنها تتكرر، وتكون مفاجأة رغم أنها قديمة.. ولكن الرئيس برجنيف ليس فى حاجة إلىهذه الخدعة فقد دخل أفغانستان قبل أن يتغير حراس البيت الابيض.
فهل يفتتح الرئيس برجنيف أولى معاركه مع الإدارة الامريكية الجديدة، التى اختارها الشعب الأمريكى بسبب ضعف الإدارة السابقة، واختارها لأن ريجان وعد بأن تكشف أمريكا عضلاتها وأنيابها وأظافرها، فتكسب الأصدقاء الذين خسرتهم، وتستعيد الهيبة التى أضاعتها؟ هل الرئيس برجنيف يريد أن يتعجل الخلافات الكبيرة مع أمركيا وينهى اتفاقيات استراتيجية معطلة، واتفاقيات تجارية مع أوروبا الغربية؟ ألا يخشى أن يؤدى هذا التحدى المبكر إلى رد فعل أعنف فى أمريكا وأوروبا الغربية؟
إن الرئيس السوفيتى أكثر حرية من الرئيس الأمريكى وأقدر على اتخاذ القرار الذى لا نعرف المراحل التى يمر بها.. بينما الأمريكى مكشوف الفكر عريان القرار: فالذى يخفيه الكونجرس تفضحه الصحف وتخذله الدول الأوروبية!..
فهل كان خروتشيف قليل الذوق عندما خلع حذاءه وراح يدق به المنصة فى الأمم المتحدة؟.. ألم تكفه كلمة "فيتو" ينطقها بفمه فقالها بجزمته؟!..
إن فليسوفا إغريقيا قد سبق خروتشيف إلى ذلك، فعندما قرر أن يلقى بنفسه فى ركان اتنا.. وابتلعه البركان ولكنه أطار حذاءه فى الهواء.. فاستدل الناس من حذائه على وفاته. فقد أراد الفيلسوف أن يموت أرفع وأسمى ميتة.. أراد أن يجعل قبره فى قمة جبل من النار والنور.. احتجاجا على البشرية كلها.. ولم يسعفه البركان أن يقول شيئا، فتكفل حذاؤه بإهانة الأرض والسماء!
إن السوفيت الآن قد أخفوا حذاء خروتشيف، ولكنهم استخدموا أساليب أخرى للدلالة على نفس المعنى!
فهل تعجل الخلافات المنتظرة فى داخل بولندا بالغزو السوفيتى؟.. أو هل يؤدى التهديد الأمريكى والأوروبى إلى أن يؤكد السوفيت للعالم كله أن هذا كله لا يخيفهم اليوم، كما لم يكن يخيفهم بالأمس؟.
من الممكن ألا يقع غزو السوفيت لبولندا، ويكون ذلك شيئا مدهشا مذهلا.. وعلى ذلك فمن الواجب أن نعتذر للرئيس الأمريكى كارتر على دهشته التى جاءت فى غير موضعها..
ومعنى ذلك أيضًا أن السوفيت قد غيروا أسلوبهم فى التوسع والغزو.. وأنه ليس صحيحا أنهم "دوجما طيقيون" أى أنهم متزمتون فى تطبيق الماركسية اللينينية وإنما هم أكثر مرونة وحيوية مما نتوهم.
ولا شىء يصدق على الحال فى بولندا إلا عبارة قالها لينين: وهى أن الأزمات السياسية لا تؤدى إلى أزمات اقتصادية.. إنما الاقتصاد هو الذى يربك السياسة!
وربما كانت هذه هى أصدق نصيحة يمكن توجيهها إلى شعب بولندا بحزبه الأوحد ونقاباته المتضامنة، فليعملوا بسرعة على الإنتاج إنقاذا لهم من الجوع المادى سبيلا إلى تحررهم من القهر السياسى!.. حتى لا يضطرهم الجوع إلى أن يزحفوا مثل الرئيس نيريرى.. وأن له عبارة مشهورة يقول فيها: إذا لم يكن عندى حذاء وفى جنوب إفريقيا حذاء واحد فإننى أفضل أن أعيش وأموت حافيًا.. ولكن إذا كان لديهم قمح وعندى حذاء، فسوف أزحف إليهم حافيًا من أجل القمح!