«الأب الروحى».. أمريكا الأخرى ترفض الاندماج

«الأب الروحى».. أمريكا الأخرى ترفض الاندماجمحمود عبد الشكور

الرأى12-3-2022 | 09:25

لم أفتقد الدهشة والإعجاب وأنا أشاهد النسخة المرممة من الفيلم الأمريكي الأيقونة "الأب الروحي"، والتي وزعت بمناسبة مرور 50 عاما على عرض الفيلم، بل لعل هذه المشاهدة الجديدة قد جعلتني أكتشف جديدا فى هذا البناء المعقد للحكاية وللشخصيات، وأن أرى الفيلم، الذي اقتبس عن رواية لماريو بوزو، واشترك بوزو فى كتابة السيناريو الخاص به، مع مخرج الفيلم فرانسيس فورد كوبولا، كعمل استثنائي، وكمستودع لمواهب كثيرة جعلته على هذا القدر من التفرد شكلا ومضمونا، كما أنه فيلم فى صميم معنى الأفكار التي صنعت أمريكا، برؤيته المدهشة والعميقة، بالإضافة بالطبع إلى تكامل عناصر الفيلم، وإضافته الى نوعية أفلام العصابات، وعالم المافيا، بل إنه أشهر هذه الأفلام على الإطلاق.

الآن يمكن أن أرى فى "الأب الروحي" مزيجا مختلطا متعدد المستويات، وكأنه يحاكي هذا المزيج المختلط الذي تمثله عائلة دون كوروليوني (مارلون براندو)، بحياتها الأمريكية، وبجذورها الإيطالية، ولكن العمل لا يجعل المزيج مكتملا تماما، لأنه يتحدث عن أمريكا الأخرى التي لم تحقق ذوبانا كاملا للمهاجرين فى بوتقة واحدة، والتي أخذت من العالم الجديد، ومن الأفكار التي صنعت أمريكا، ولكنها احتفظت بقيمها الخاصة، وبقانونها الخاص، ومن هذا الخليط غير المتجانس تنطلق الدراما فى كل الاتجاهات إلى تناقضات شتى.

يبدأ الفيلم بالحانوتي إيطالي الأصل الذي لم يأخذ حقه من خلال العدالة الأمريكية بعد أن انتهكت ابنته، وهو يقول فى البداية إنه مؤمن بأمريكا التي جعلته ثريا، ولكن دون كوروليوني يحدثه عن عدالة موازية، يحققها هو بصفته الأب الروحي، بل ويضع دون كوروليوني تعريفه الخاص للصداقة على أساس تبادل المنفعة والخدمات، إنه يفهم فكرة المنافسة والحلم الأمريكي على نحو براجماتي تماما، وبالتالي فإن الأب الروحي ليس مجرد زعيم عصابة، ولكنه الرجل الذي فهم أمريكا بطريقته، ولذلك سيضع السياسيين والقضاة فى جيبه، وسيرى أن قيم صقلية التي جاء منها، والتي لا تعترف إلا بالقوة، قد وجدت مكانها تماما.

مايكل (آل باتشينو)، أو الأب الروحي القادم، يدرك أيضا أنه سيواصل هذه الخلطة دون أي إحساس بالذنب، يقدم الفيلم مايكل فى البداية كبطل فى الحرب العالمية الثانية، دافع عن أمريكا، والآن سيخوض حربا جديدة داخل أمريكا نفسها، والمنطق فى الحالتين تديره القوة، وذلك العرض الذي لا يمكن أن يرفض، منطق التهديد والعنف، وعندما يتزوج مايكل فى صقيلة، يدرب زوجته على أن تعد نفسها لكي تكون أمريكية، ثم يعود من جديد ليستنسخ فلسفة والده، بل ويقدم الفيلم فى مشاهد متناثرة مقارنة ذكية بين عصابة النظام (أعضاء كونجرس وقضاة ورجال شرطة وصحفيين)، وعصابة دون كوروليوني، فكأن تحالف الطرفين طبيعي، بل إن هناك مقارنة صريحة يقدمها الفيلم بين التراجع أمام هتلر، والصمت أمام سيطرة المنافسين، وكأن قانون القوة يسري على كل المستويات، من النظام العالمي، إلى النظام الأمريكي، الى نظام المافيا.

خطورة الفيلم أنه يتعامل مع أيقونات هوليودية شهيرة كالعائلة والدين والوطن، ولكنه يضعها جميعا فى نهر القوة، فتنقلب رأسا على عقب، فالعائلة/ العصابة هنا تقدم بصورة مؤثرة وممتازة، بل إن "الأب الروحي" هو بالأساس فيلم عن العائلة، ودون كورليوني أب رائع لثلاثة أولاد وبنت، وقام بتبني ابن رابع صار مستشاره القانوني، ونرى الأب فى حفل زفاف ابنته، ومع أحفاده، بل ويموت وهو يلعب مع أحد الأحفاد، والعائلة، و"العائلات الخمس" للمافيا، هي محور الحكاية، ومايكل أيضا يصنع عائلة .. الخ، وكل شيء مباح فى اللعبة، إلا هدم العائلة وتماسكها.

يمكن قراءة الفيلم أيضا باعتباره محاولة لاستعارة قداسة الدين إلى دائرة وعالم العنف والشيطان، القداسة بدأت من استعارة لقب الأب الروحي الديني، أو الأب فى العماد (العراب)، ونقله إلى عالم المافيا، دون كوروليونى نفسه أب للعماد لمغني ناجح، ومايكل سيكون الأب فى العماد لابن شقيقته كوني، وبينما يوافق فى مراسم التعميد على رفض الشيطان، فإن رجاله ينفذون مجزرة موازية، إنها قداسة من نوع جديد، قيم العائلة تخدم العصابة، وقداسة الدين تمنح مهمات شيطانية غطاء شرعيا.

تتردد فى الفيلم أيضا فكرة البيزنس الذي يجب أن يتجاوز المسائل الشخصية، والتي أخدها دون كوروليوني وأولاده إلى مداها الأقصى، فنستمع إلى جدل شهير بين سوني وشقيقه مايكل، بعد محاولة اغتيال والدهما، حول ضرورة معالجة الأمر بشكل عملي كبيزنس، لا تحويله إلى صراع شخصي، وسيكون ذلك أيضا منطق الأب بعد مقتل ابنه سوني، البراجماتية هنا تجد تجليا مفزعا ومخيفا فى عالم المافيا، والقادمون من صقلية وجدوا فيها وسيلة إضافية للتحقق، وحققوا هذا التزاوج بين ما جاءوا به من إيطاليا، وبين ما سمحت به قيم المجتمع الجديد.

ولكن الإيطاليين الأمريكيين احتفظوا أيضا بقيمهم الخاصة، بسطوة العائلة والأب، وبأفكار عن الشرف والانتقام والثأر، إنهم جزء من أمريكا بالقطع، ولكنهم أيضا، وفى نفس الوقت، يقدمون اجتهادهم الخاص، وتفسيرهم المستقل للخلطة الأمريكية، هم أقلية بحكم العدد، ولكنهم يستطيعون شراء صناع القرار والقانون، وهم يفهمون اللعبة، ويشعرون بالتميز عن غيرهم، فنسمع أحد زعماء المافيا وهو لا يمانع بأن يتم توزيع المخدرات للزنوج، فليمت هؤلاء بالسموم البيضاء، أما أسر الإيطاليين، فلابد من وضع قيود على ترويج المخدرات لهم، هذه رؤية جديدة للتمييز تهدم فكرة أمريكا كبوتقة انصهرت فيها كل جنسيات المهاجرين، وتحول الوطن إلى شركة مساهمة لا مساواة بين أعضائها، بل إن بعض هؤلاء يريدون إزاحة الشركاء، ولا يرونهم شركاء من الأساس.

هذه ليست قصة عصابات تتصارع فحسب، ولكنها قصة أفكار تتصادم فى محاولة للجمع بين المهاجرين والوطن الجديد، ولذلك تتجاور التناقضات، فنبدأ الفيلم بحفل زفاف، وننتهي بجنازة، وبينهما يقتل عريس الابنة وزوجها، وتتم إزاحة الورود لصالح الرصاص طوال الوقت.

يتراجع الأمريكي الصالح الذي ينشد العدالة فى المؤسسات، ليظهر الأمريكي العنيف الذي يحقق العدالة بيده، وكيفما يحب أو يريد، وتسيطر العائلة على المؤسسات نفسها، ويحلم دون كوروليوني بأن يكون ابنه مايكل مشرعا فى الكونجرس، أو رجل سياسة، ويثبت مايكل أنه سيكون أهم من ذلك بكثير: سيكون الأب الروحي الجديد، الذي يقدم للآخرين عرضا لا يمكنهم رفضه، فإذا رفضوه، حجزوا لأنفسهم مكانا فى المقابر.

"الأب الروحي" ليس فقط إنجازا فنيا عظيما واستثنائيا، ولكنه من أبلغ وأعمق الأفلام التي قرأت الفكرة الأمريكية فى تناقضاتها.

أضف تعليق

تدمير المجتمعات من الداخل

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2