الفتيان مقابل الفتيات:
يختلف الفتيان والفتيات بعضهم عن بعض، إلا أن معظم الفروق السيكولوجية بين الجنسين ضئيلة من الناحية الإحصائية. فعلى سبيل المثال، تُعَد فروق الأداء العقلي، والتعاطف -وحتى بعض أنواع السلوك العدواني- طفيفة إذا ما قورنت بالاختلاف في طول القامة؛ إذ يزيد طول الذكر العادي عن 98% من الإناث.
اكتشف الباحثون بعض الاختلافات في تركيبة المخ لدى كل من الأولاد والبنات؛ منها أن أمخاخ الأولاد أكبر في الحجم، ولكن أمخاخ البناتتسبقها في النمو. وعلى الرغم من ذلك، لم تعط تلك الفروق المذكورة تفسيرًا لكون الذكور أكثر نشاطًا، أو لتفوق الإناث على الذكور في طلاقة الحديث، ولا تضع كذلك أساسًا مفهومًا للفروق الإدراكية والعاطفية بين الجنسين.
كما تغير الخبرة المكتسبة من تركيبة المخ وطريقة عمله. فالفروق بين الجنسين تبدأ في معظمها صغيرة، على هيئة تفضيلات بسيطة في التعبير عن الحالة المزاجية وأسلوب اللعب، ولكنها تأخذ في الازدياد حين تقابل ثقافتنا المتشبعة بالتباينات بين الجنسين.
ورغم أن الآباء يفرضون وجود فروق مميزة بين الجنسين حتى قبل ولادة أطفالهم، إلا أنهم يندهشون حين يرون مدى تحمس أولادهم مثلًا للعب بالعربات، أو إصرار بناتهم على ارتداء اللون الوردي فقط. ورغم أن الفروق بين الفتيان والفتيات شديدة الوضوح في كثير من الحالات، إلا أن القوالب النمطية لتلك الفروق لا تنطلي على الدراسة العلمية. فهل الفتيان على سبيل المثال أكثر عدوانية في مقابل كون الفتيات أكثر عاطفة؟ أم أننا نتوقع منهم فحسب أن يكونوا كذلك؟ وهل الفروق الحقيقية بين الجنسين تولد مع الطفل عند ولادته أم أنها تتشكل وفق البيئة المحيطة به، والتي تتمثل فينا؟ يُعَد المخ هو المكان الطبيعي للبحث عن إجابات لتلك الأسئلة.
إذ لو كانت هناك فروق في التركيبة العصبية بين الجنسين، فربما تفسر الاختلافات السلوكية البارزة بينهما. ولكن المثير هو أن العلماء لم يجدوا سوى فروقًا ضئيلة بين أمخاخ الفتيان والفتيات؛ بل إن الاعتقاد الشائع بوجود تباين بين أمخاخ الرجال و النساء -كالقول بأن الاتصال بين الشقين الأيمن والأيسر من المخ لدى النساء أقوى منه لدى الرجال- لم تؤيده الأبحاث الدقيقة.
صحيح أن أمخاخ (ورؤوس) الأولاد أكبر حجمًا منذ الولادة وحتى الشيخوخة، وأن أمخاخ البنات تسبقهم في النمو؛ ولكن تلك الفوارق المذكورة لا تعطي تفسيرًا لكون الفتيان أكثر نشاطًا، أو لتفوق الإناث على الذكور في طلاقة الحديث. ولا تبني أساسًا مقبولًا للتباين الدائم بين الجنسين في مهارات القراءة، والكتابة، وتحصيل الدرجات في الاختبارات العلمية التي يوليها الآباء والمدرسون الانتباه.
لا جدال في أن الفروق العقلية بيولوجية بالأساس، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أنها متأصلة وثابتة. والحقيقة التي كثيرًا ما يجري إغفالها، هي أن الخبرة المكتسبة تغير من تركيبة المخ وطريقة عمله، أو ما يصفه علماء الأعصاب بـ"عملية التشكيل"، والتي تشكل أساس كامل عملية التعلم والتطور العقلي لدى الأطفال. فمثلاً عملية الإبصارعلى بساطتها، تعتمد على الخبرة البصرية الطبيعية في المراحل الأولى من حياة الطفل، ومن دونها لا تتشكل منظومة الإبصار لدى الطفل بشكل سليم، بما يتسبب في إصابته بالعجز البصري الدائم.
إذًا، هل يؤدي النمو كفتى أو كفتاة إلى تشكُّل المخ في صورة معينة؟ ف الفتيان والفتيات لا يولدون متطابقين من ناحية التركيبة الجينية والهرمونية، والاختلاف على هذين المستويين يدفع عملية تطور المخ لدى كل منهما إلى مسار مختلف. ولكننا بتنا ندرك الآن أن الخبرات المبكرة التي يكتسبها الأطفال في بداية حياتهم، تبدل بشكل دائم من التركيبة الكيميائية وطريقة عمل الجينات بداخل الخلايا، بشكل يترك تأثيرًا ملحوظًا على السلوك.
توصل عالِم الأعصاب مايكل.ج. ميني، وزملاؤه بجامعة ماكجيل وآخرون، إلى أن عناية الأم بطفلها تترك عدة آثارعصبية ونفسية؛ إذ تؤثر على إنتاج الخلايا الجديدة بالمخ، سواء بالسلب أو بالإيجاب. وردة الفعل تجاه الضغوط، وأداء الذاكرة. فطرق تربية الآباء للأبناء -على اختلافها- تترك بصمة على عملية نمو المخ لدى الأطفال. وتبدأ الفروق بين الجنسين في معظمها صغيرة، على هيئة تفضيلات بسيطة في التعبير عن الحالة المزاجية وأسلوب اللعب، ولكنها تأخذ في الازدياد حين تصطدم أمخاخ الفتيان والفتيات بثقافتنا المتشبعة بالتباينات النمطية بين الجنسين، وما تشملها من حفلات الشاي، ومباريات المصارعة، وساحات اللعب، والمواقف الدرامية التي تقع بين الأطفال وأقرانهم. ومع فهم تلك التأثيرات المحيطة بصورة أفضل، يصير بالإمكان إذابة الفوارق بين الأولاد والبنات فيما يتعلق بالتحصيل الدراسي، والاستعداد للمجازفة، والتحكم في النفس، والرغبة في المنافسة، والتعاطف، والإصرار.