حورية عبيدة تكتب: بلد العُميان

حورية عبيدة تكتب: بلد العُميانحورية عبيدة تكتب: بلد العُميان

*سلايد رئيسى5-1-2018 | 19:26

هم مجموعة مِن الفارِّين مِن نَير الحاكِم الظالم، وحالَ وصولهم إلى أحد المرافِئ  تصدَّعتْ القشرة الأرضية، وأُصيبت بانهيارات صخرية هائلة عزلتهم بوادٍ غريب، حالتْ دون وصول أحدٍ إليهم، تمر السّنون وينسي الناس أمرهم، خاصةَ بعد أن أُصيبوا بداءٍ غامضٍ أفقدهم البصر وتوارثته أجيالهم المتعاقبة.

يسوق إليهم القدَر "نيونز" -المستكشف وبطل تسلق الجبال- حين يتسلق ذات مَرة مرتفعاً شاهِقاً، فتزلُّ قدماه ويهوي إلى قاع "وادي العُميان"، ينهض "نيونز" ليستكشف الوادي وبيوته الخالية مِن النوافذ؛ والجدران المطلية بألوان غير متناسقة؛ ينادي على أهليها فيأتون إليه زُرافات وأجفانهم مُغمضة، يتفحَّص كبراءهم وصغارهم، ويشرح لهم كيف أنه يُبصرهم ويراهم من حيث لايرونه، فتصادفه أول العقبات أنهم لا يفقهون معنى كلمة "يبصر" بل وكل مايخص عالم الإبصار ومصطلحاته، لذا تركهم يتحسسونَ وجهه، ويغرسون أصابعهم في مقلتيه؛ علَّهم يفهمونَ معنى امتلاكه لشيئين مُنتفخين يسميهما "العَينين" بأهدابٍ متحركة!

راح يتعرَّف على فلسفتهم، وكيف أنهم يسمعون الملائكة ولايرونها (يقصدون الطيور)، والزمن عندهم بارد ودافيء (الليل والنهار)، حينها تأكد أنه سيسودهم بيسرٍ ويتربَّع على عرش الملك بسهولة، فطفِق يحكي لهم عن جَمال الجبال، والشروق، والغروب، والمروج الخضراء، وهم يصغون له غير مُصدقينه، بنهاية الأمر اقتنعوا أنه يحكي أشياءً غريبة، وأنَّ حواسه ضعيفة، فتجمعوا حوله لمعاقبته إدراكاً منهم أنه يهزأ بهم محاولاً تغيير قناعاتهم التي ورثوها عن آبائهم الأولين.

حاول الهرب فلم يستطع؛ فأمسك جاروفاً ليضربهم مدافعاً عن نفْسه، لكنه متدافع والإيقافه، وزادوه رعباً وتخويفاً؛إذ أنهم مرهفوا الحس، حادوا السَّمع؛يتسمعون وقْع أقدامهم هما خَبت، ويتشممون رائحته في الهواء بمهارةٍ عاليةٍ، ويتنصَّتون بشدةٍ لحركة الجاروف في الهواء فيعرفون مَوطئ قدميه بسهولةٍ فائقة، وحين أعياه الفشل اعتذر لهم، مُعترفاً بأنه غير ناضجٍ، ولا يوجد شيء اسمه البصر، والأمر كله مَحض دعابةٍ سخيفةٍ ابتدعها كيينجو مِن براثنهم، فسامحوه معتبرين ثورته ضد همبر هان غبائه وتفاهته، ثم تركوه حتى إذا ما أشرف على الموت مِن شدة الجوع والتعب، سمحوا له بحِفنة طعام وكثير مِن العمل الشاق، بعد أن لقَّنوه الدرس بألا سبيل ليصير مواطناً صالحاً بغير طاعتهم.

يمتَثل "نيونز" لواقعه البئيس؛ إلى أن يُغرم بفتاةٍ جميلةٍ، ويُهيّأ له أنَّها قادرة على أن تُبصر ثانيةً، لكن الأهل يرفضون تزويجه إياها لقلة مهارته وذكائه، وكي يصبح عاقلاًمثلهم- عليه أن يتخلص مِن ذلك العضو الغريب الذي يحمله في وجهه، وهنا ترتمي فتاتُه على صدره تستحلفه أن يوافق، بعد أن صار "العَمى" شرطاً لترتفع مكانته مِن الانحطاط  والخَرف إلى مرتبة المواطنة الكاملة.

يخرج "نيونز" -ولآخر مرة- يُملّي عينيه بسِحر القمر وانسيابية الأنهار وروعة الغابات وزرقة السماء ولألأة النجوم، ويروض رُوحه كي تنسى  دفاتر الماضي وزمان الوصل مع الأهل والأصدقاء القدامى، في عَين الوقت طفِقَ عقله يشاكسه ويُحاجيه مُغالباً: كيف أقنعوه بأن الخطا هو الصح، وأن عينيه عضو غير طبيعي، وأنه غير مؤهل مثلهم ووحدهم هم الطبيعيون؟! وحال غروب الشمس؛ ظل عقله ينفخ بخور الحِكمة حتى اتجه صوب الجبال، وقرر أن يتسلقها مهما كان الأمر بالغ الخطورة، وبعد جُهد جَهيد وقد نزفتْ كفاه، وتمزَّقتْ ثيابه، لكن ابتسامةً ارتسمتْ على وجهه وهو يرمق السماء بفرحٍ فيفرُّ هارباً مِن "وادي العميان" مصطحباً حالةً من الرضا والارتياح... اختار اتش جي ويلز مؤلف قصة "بلد العُميان" - 1904- أن ينجو "نيونز" بنفسه وحريته على أن يصبح مواطناً أعمى "متقولباً"،.

هناك لحظة يدرك فيها المرء أنَّ الخطا ينتشر حوله، وأنَّه غريبٌ عن مُحيطه؛ لأنه "عاقل" في زمن الجنون، و"فاهِم" في زمن الجهل، و"مُبصِر" في زمن العُميان، فيصير كالقابض على الجمر، يشعر الغربة والاختلاف، وليس أمامه إلا أن يتماهى مع الخطأ كي يبدوطبيعياً متناغماً، لكنه حتماً سيكون محظوظاً إذا أشرقتْ روحه ورأى فجرَها، وعرفَ فَداحة خُسرانه إذا ما خَسر نفسَه، إذ كيف يعيش دون قناعاته وعالمه الحقيقي أو الذي يروق له؟ وقديماً قالوا لا خير للمرء في حياةٍ إذا ما عُدَّ مِن سَقط المتاع.

في "دولة العُميان" العَمى موتٌ للضميربقرارٍ مِن أصحاب الرؤية والفِكرالواحد، ساعة يسود الغباء، والنفاق، والتهليل، والتهويل، والتصفيق، والتصديق، والتخويف، والترهيب، ويضحى  الجميع مضطراً لأن ينحو ذات النَّحو، وينتهج نفْس النَّهج لأن النقد والنقاش والتقييم وتقديم الاطروحات والرؤى الجديدة والبديلة والمختلفة فدليل قِصر النَّظر وقلة الفهم وسوء الإدراك!.. وأخيراً فقد ينهار الحق رغم سطوعه أمام الباطل الأكثر والأوسع انتشاراً إن لم يجد مَن ينصره.

[email protected]

أضف تعليق

إعلان آراك 2