إن أفضال الله ونعمه، التى لا تعد ولا تحصى على الإنسان تبدأ من تسويته على الصورة، التى هو عليها فى أتم كمالها، إنها صورة تليق بآدميته وبالتكريم، الذى حظى به من خالقه، لقد خلقه الله من طين وتدرج فى التكوين من نطفة معلقة ثم مضغة إلى عظام ثم تكسى لحما.. هكذا تستوى صورة الإنسان فى أتم خلقه بجميع أعضائه وحواسه وعقله، وبهذا الاكتمال يكون قادرًا على أداء ما يطلب من عبادات وأعمال صالحة.
فالإنسان مأمور بالعبادة، مثل سائر المخلوقات، لكنه يمتاز عليها بتحمل مسئولية إعمار الأرض ونشر العدل والسلام واجتناب الفساد بجميع أشكاله.
وقد خلق الله الإنسان وميزه عن سائر الكائنات، فهو خليفة الله على الأرض وهو المكلف بالعبادة، فقد خلق الله عباده وخلق كل شىء لأجلهم قال تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فى السَّمَوَاتِ وَمَا فى الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) «لقمان 20».
وفى قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) «الإسراء 70».
فقد كّرم الإسلام النفس الإنسانية بصفة عامة ولم يجعل هناك استثناءات بسبب اللون أو الجنس أو الدين، فهو تكريم عام شامل، حتى إنه يشمل المسلمين وغير المسلمين، ونظر لكل البشر نظرة احترام وتقدير.
هذا وتحمل الآيـــــة الكريمة مفهومين هما التكريم والتفضيل، وقد بدأت الآية بالتكريم وانتهت بالتفضيل، فما هو الفرق بينهما؟
التكريم هو منح الشخص كرامته بمعنى إعطائه نوعًا من العناية والاهتمام بما يتناسب وينسجم مع شخصيته، بينما التفضيل هو ترجيح الشخص على غيره من الأشخاص، وفى الآية تكريم وتفضيل، الله تبارك وتعالى منح الإنسان كلا الدرجتين، وسام التكريم ووسام التفضيل.
وهناك آية أخرى تمنح المؤمنين من بنى آدم تفضيلًا خاصًا بهم لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) «البينة 7».
وقد أولى الإسلام الإنسان اهتمامًا خاصًا ومنحه من الحقوق ما يتوافق مع تكريم الله له، ومن أهم مظاهر تكريم الإسلام للإنسان، التى تبدأ من قبل ولادته، فقد أمر الشرع الحكيم بحسن اختيار الزوجة؛ لتكون بعد ذلك أمًّا ذات نسب معروف بطهره ولتكون قادرة على حمل أعباء التربية بعد الحمل والإرضاع، كما دعا إلى حسن اختيار اسمه، وأوجب له الرعاية والنفقة، وتتابع حقوقه بعد ذلك لتعظم أكثر فأكثر.
فالإنسان حقوقه مكفولة بالمساواة بين الناس كلهم دون تمييز لأى سبب كان مثل الدين واللون والعرق وغيرها.. كما حفظ الإسلام للإنسان حقه فى مياه آمنة ومكرمة، فجعل نفسه معصومة، قال تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ) «الإسراء 33».
وجعل الاعتداء عليه جريمة تستحق القصاص، فقال سبحانه: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) « المائدة 45».
وامتد التكريم ليشمل تحريم الاعتداء المعنوى على الإنسان مثل الغيبة أو النميمة أو الهمز واللمز، فقال الله عز وجل:
(وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ) « الحجرات 11».
وحمى الإسلام حق الإنسان بالتملك، وشرع من الأحكام والحدود، التى تضمن له ماله وحرية التصرف فيه بكل ما هو مباح ومشروع.
وفى خطبة الوداع أكد النبى صلى الله عليه وسلم هذه المعانى عندما قال: (اعلموا أن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، كحرمة شهركم هذا، كحرمة بلدكم هذا).
وشكلت التشريعات الإسلامية ضمانة للإنسان المحتاج فى عيشة كريمة، فأوجب له النفقة الشرعية، كما أوجب الزكاة والكفارات، كما أولى الإسلام عناية فائقة بحقوق الضعفاء، وشرع من الأحكام ما يكفل حمايتهم من شتى صور الاعتداء والظلم، خاصة حق المرأة واليتيم.
وقد حرص الإسلام على الإنسان حتى بعد وفاته، فقد دعا إلى حفظ حرمته، ونهى عن نبش قبره، كما نهى عن سبه أو ذكر معايبه، بل إنه أمر بذكر محاسنه وتعدادها.
إن الخطاب فى الآية الكريمة للناس جميعًا بدون تمييز بين جنسهم ولونهم ولغتهم ووضعهم الاجتماعى، فكلهم مطالبون بالالتزام بما جاء فيها، يعبدون الله وحده ويقرون بما أنعم عليهم من نعم ظاهرة وخفية، وبما رزقهم من الطيبات، ولا يعبثون فى الأرض فسادًا ولا يحرمون ما أحل الله ولا يحلون ما حرم، ولا يرتكبون الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا يقتلون النفس، التى حرم الله إلا بالحق.
وإذا كان المولى عز وجل قد كرّم بنى آدم وكرمه الإسلام فى أحكامه وتشريعاته، فينبغى على الإنسان نفسه أن يحرص على أن يعيش كريمًا، لأن الله قد رضى له الإكرام والتكريم.
فيجب أن يكرم الإنسان عقله من خلال تنميته بالعلم والمعرفة والتأمل والتدبر، والابتعاد عن الخرافات والأوهام، وأن يكّرم الإنسان قلبه بالإيمان والتوكل على الله ومحبته، وأن ينقيه من أمراض القلوب كالحسد والحقد والغل والكراهية.
وأن يكّرم الإنسان روحه بذكر الله تعالى وأن يسمو بنفسه عن الغفلة والزلل، ويتحلى بمكارم الأخلاق.
وأن يكّرم جوارحه بعمل الطاعات والابتعاد عن المعاصى والشهوات وأن يتخير أفضل الأفعال والأقوال.