كهرباء الحياة «1»

كهرباء الحياة «1»الدكتور تامر جمال الدين

الرأى5-7-2022 | 15:21

نزلت كعادتها إلى قبو المنزل الذي يوجد به معملها هي وزوجها.. فى الطريق إلى القبو كانت تفكر فى عملية التشريح التي تقوم بها مع زوجها لمحاولة فهم تأثير ال كهرباء على الكائنات الحية.. كانت حياتهما فى السنوات الأخيرة قد تركزت حول هذا الموضوع فأصبح روتينهما اليومي، هو إجراء التجارب، ثم تحليل النتائج ثم مناقشتها، كانوا يقومون بذلك بشكل يومي حتى أنهم كانوا يختفون عن أعين الناس بالأيام.. كان الجو باردًا فى تلك الليلة والصواعق تضرب بعنف فى جنبات مدينة بولونيا الإيطالية، وكأن السماء أرادت أن تبعث رسالة خفية إليها لتخبرها أنه قد حان الوقت للإجابة عن السؤال الذي حيرها وزوجها لسنوات طويلة.. هل يمكن أن تكون هناك علاقة بين ال كهرباء وجسد الكائن الحي؟ هل يمكن أن تتواصل أجزاء الكائن الحي ببعضها من خلال الكهرباء؟ لا تعرف لماذا تذكرت والدها والتجارب التي كان يجريها فى تلك الليلة بالتحديد. كان والدها أستاذًا للتشريح فى جامعة بولونيا، وكان مهتما أيضا بالعلاقة ما بين الفيزياء والأحياء، وكانت وهي صغيرة تساعده فى إجراء بعض التجارب، ربما حانت ساعة الإجابة عن كل تلك الأسئلة.. الأسئلة التي حيرت أباها من قبل للدرجة، التي جعلت تلميذه النجيب، وزوجها فى نفس الوقت، يحب هذا المجال.. وصلت إلى القبو فوجدت زوجها قد انتهى بالفعل من تشريح الضفدع، سألها لماذا تأخرت! لم تجب، وبدت له وكأنها مشغولة بالتفكير فى شيء ما.. آثر هو الصمت واتجه إلى الجهاز الذي يتم تخزين ال كهرباء الاستاتيكية فيه، بينما أمسكت هي بمشرط لم يتم استخدامه أثناء عملية التشريح، ولأن الجو كان باردا كانت أدوات التشريح تحمل الكثير من الشحنات الكهربية، التي تتجمع بكثرة بسبب برودة الجو وانخفاض الرطوبة.. أمسكت بالمشرط ولمست به العصب الفخذي للضفدع الذي انتهى زوجها من تشريحه للتو.. انتفضت رجل الضفدع وكأنه عاد إلى الحياة. تبادل الزوجان النظرات الصامتة ولكنهما عرفا أنهما اكتشفا للتو ظاهرة جديدة، لقد اكتشفا ال كهرباء الحيوية أو كهرباء الحياة.

اكتشف لويجي جالفاني وزوجته لوتشينا ال كهرباء الحيوية فى عام 1791. لكنهما لم يكن أول من لاحظ وجود كهرباء فى أجساد الكائنات الحية فقد سبقهما الكثير بين العلماء الذين لاحظوا وجود ال كهرباء الحيوية، حتى وإن لم يستطيعوا أن يعرفوها على أنها كهرباء. دعونا نركب آلة الزمن ونعود بها إلى العصور القديمة لنحكي قصة ال كهرباء الحيوية من بدايتها.

كان المصريون القدماء هم أول من اكتشفوا وجود ال كهرباء فى الكائنات الحية، وذلك من خلال معرفتهم بسمك القط المنتشر فى نهر النيل. كانوا يشعرون بالصدمة الكهربية عند محاولة صيد هذه السمكة فكانوا يتوقفون عن اصطيادها.

تعد جدارية مقبرة المهندس المعماري «تي» عام 2750 قبل الميلاد، والتي يظهر فيها بعض المصريين يصطادون السمك، ومن ضمنها سمكة القط الكهربية أقدم تصوير لهذه السمكة الكهربية. بالطبع لم يفسر المصريون القدماء هذه الظاهرة على أنها كهرباء نشأت من جسد كائن حي، ولكنهم اعتبروا أن هذه السمكة من الأسماك المقدسة التي يمكن أن يستفاد منها فى علاج الأمراض وبالفعل ورد أنهم استخدموا الشحنات الكهربية الصادرة من تلك السمكة فى علاج بعض الأمراض، مثل مرض الصرع والتهابات المفاصل، وفى تسكين آلام المرضى. كان على المريض أن يقف فى حوض ماء مالح صغير به سمكة القط أو التربيدو، ثم ينتظر حتى تقوم السمكة بإطلاق شحنتها الكهربائية. يشعر المريض بعدها باختفاء الألم، وكان عليه أن يفعل ذلك من وقت إلى آخر حتى يتعافى من الألم المزمن الذي يعاني منه.

تعرف هذه السمكة علميا باسم (Malapteruruselectricus)
وهي من عائلة الأسماك الكهربية وتنتشر فى مياه النيل وفى بحيرات إفريقيا الاستوائية.

تنشط أثناء الليل وتتغذى على الأسماك الأخرى. تعتمد طريقتها فى القنص على إصدار شحنة كهربية ذات جهد عال جدا، حوالي 300 إلى 400 فولت، مما يؤدي إلى قتل الفريسة فى الحال.

نقل اليونانيون، ومن بعدهم الرومان، عن المصريين القدماء، معرفتهم بتأثير ال كهرباء الصادرة من أسماك القط النيلية وغيرها من الأسماك البحرية فى علاج الأمراض واستخدموه فى تخدير المرضى وتسكين آلامهم. وصف أرسطو سمك التوربيدو، أحد الأسماك الكهربائية، بأنها تقوم بتخدير فريستها عن بعد باستخدام قوة مروعة ولكنه لم يتعمق فى دراستها.

حاول الطبيب اليوناني الشهير جالينوس تفسير قدرة هذه الأسماك على التأثير على فريستها عن بعد بأنها تطلق سما يشل الفريسة عن بعد دون أن تلمسها..المثير للاهتمام أن أول من فسر استخدام بعض الأسماك للصواعق الكهربية على أنها آلية دفاعية للأسماك، هو الفيلسوف والخطيب الروماني الشهير شيشرون.

مضت سنوات كثيرة قبل أن يأتي أول توصيف فيزيائي لهذه الظاهرة على يد العالم الفيزيائي هيرو السكندري، وذلك فى بدايات القرن الأول الميلادي.

كان هيرو يقوم بالتدريس فى مكتبة الإسكندرية الشهيرة، وهناك أجرى أبحاثه على أسماك القط والتربيدو الكهربائية. وصف «هيرو» ال كهرباء المنبعثة من بعض الأسماك على أنها قوة صدمية غير معروفة قادرة على اختراق المعادن كالحديد والنحاس، ولكنه لم يصل إلى أبعد من ذلك فى تفسير تلك الظاهرة. فى العصور الوسطى، قام الطبيب والعالم الشهير ابن سينا بإدراج العلاج من آلام الصداع والصرع باستخدام الأسماك الكهربية فى كتابه الشهير القانون فى الطب.

مرت سنوات أخرى كثيرة قبل أن يدلو العالم والفيلسوف والطبيب العربي الشهير ابن رشد بدلوه، فيوضح فى كتابه الطبي الشهير «الكليات»، بأن القوة الصادرة من الأسماك الكهربية هي أشبه بالقوه التي يؤثر بها الحجر المغناطيسي على الحديد، وهو ما يعتبر أول توصيف بوجود مجال غير مرئي كالمجال المغناطيسي يؤثر على الأشياء عن بعد.

بعدها استخدم الطبيب الأندلسي ابن سيده بعض الأسماك الكهربية فى علاج بعض أنواع الصرع، كما فعل المصريون القدماء.

أصبح العلاج الكهربائي باستخدام الأسماك الكهربية، منتشرا فى بلاد أوروبا والشرق الأوسط على السواء، حتى وإن لم يتم حتى ذلك الحين تعريف صحيح للظاهرة على أنها تيار كهربائي صادر من الخلايا العصبية لتلك الأسماك.

استطاع العالم الهولندي ليوفنهوك بعد ذلك أن يرى التفاصيل الدقيقة للأعصاب الطرفية والنخاع الشوكي من خلال اختراعه للميكروسكوب، وعلى الرغم من أن مفهوم وجود جهاز عصبي يتحكم فى جميع أجزاء الجسم من خلال المخ كان موجودا بشكل ما منذ عصر جاليونوس، إلا أن التقدم فى العلوم الأساسية واختراع الميكروسكوب وغيره من الأجهزة الأخرى، التي مكنت العلماء من رؤية التفاصيل الدقيقة للخلايا العصبية، مهدت الطريق للباحثين فى القرن الثامن عشر لكي يكتشفوا سرعمل الجهاز العصبي، وهي ال كهرباء التي تسري فيه لتنقل المعلومات والأوامر من وإلى المخ. يعبر بنا الزمن سنوات أخرى كثيرة قبل أن يأتي العالم والطبيب الإيطالي جالفاني لينقل الظاهرة من عالم الميتافيزيقا والسحر إلى عالم الفيزياء الحيوية،
وهو ما سنتكلم عنه بالتفصيل فى الحلقة القادمة.

أضف تعليق