هذا الفيلم الأمريكى البريطانى المشترك وعنوانه «انظر كيف يركضون؟» للمخرج توم جورج، يمتلك فكرة لامعة وذكية حقا، ولكن مشكلته فى بناء حبكة قوية تعادل هذه الفكرة.
ليست المسألة فى ضرورة إتقان الحبكة عموما فى كل الأفلام فقط، ولكن خصوصية الفيلم كعمل بوليسى يحاكى أعمال أجاثا كريستى بالذات، جعلت عملية الحبكة المتقنة أساسية ومحورية.
صحيح أن الفيلم كوميدى، وفيه بعض السخرية من نوعية الفيلم البوليسى، وخصوصًا من مسرحية «مصيدة الفئران» الشهيرة لأجائا كريستى، التى استمر عرضها على المسرح البريطانى لسنوات طويلة، رغم أنها ليست «هاملت» لشكسبير كما يقال فى الفيلم، إلا أن فيلمنا هو أيضا له حبكة بوليسية يجب ضبطها، وليس معقولا أن يكون هدف الفيلم السخرية من نفسه، والأقرب هو تقديم التحية للنوع من خلال السخرية.
بدا لى أن مشكلة الفيلم مرتبطة بقدرات مؤلفه مارك تشابيل، فقد تخصص فى كتابة حلقات السيت كوم، وهى دراما محدودة الوقت، تعتمد على الأفكار البراقة والمبتكرة القائمة على المفارقة، وتعتمد أيضًا على البناء الجيد للموقف القصيرة المرحة الخفيفة، ولكنها بعيدة عن مهارة البناء الكبير متعدد الخطوط والشخصيات، بزمن فيلم سينمائى روائى طويل.
بدا فيلم « انظر كيف يركضون ؟» كفكرة مدهشة محورها سؤال هو: ماذا لو وقعت جريمة فى المسرح الذى يقدم بنجاح مسرحية "مصيدة الفئران" لأجاثا كريستى فى الإختفال بمرور 100 يوم عرض؟ وماذا لو صار صناع المسرحية أنفسهم متهمون فى جريمة القتل؟
أى أننا أمام فيلم كوميدى للجريمة يتقاطع مع جرائم أجاثا كريستى ملكة روايات الجريمة، بل إننا أمام فيلم خرج من مسرحية، يعارضها، ويتفاعل معها، ويحاول أن يضيف للنوع، بأن تكون الرؤية كوميدية ساخرة، رغم استخدام نفس طريقة أجاثا كريستى فى بناء أعمالها، سواء بوقوع جريمة أو عدة جرائم، أو بوجود دائرة اشتباه فى عدد كبير من الشخصيات، أو فى وجود دوافع للقتل لدى كل شخصية، أو فى قتل شخصيات مكروهة، أو فى وجود محقق أو أكثر يباشر القضية، أو فى مفاجأة النهاية، باكتشف قاتل هو الأبعد عن الشبهات.
لكن فيلمنا، الذى يسير على خطى أجاثا وبنائها، سرعان ما بدا مفككا، يقفز من مشتبه إلى آخر بشكل غير مترابطة، رغم أن كل مشهد يبدو متقنا فى حد ذاته، ورغم طرافة الشخصيتين المحوريتين وهما المفتش ستوبارد (سام روكويل)، ومساعدته الكونستابل ستوكر (سيرشا رونان)، فالأول هاديء وخبير نسبيا، ومساعدته متسرعة فى القفز الى النتائج، بحكم خبرتها المحدودة جدا فى المهنة، وبحكم شغفها بأفلام السينما وحكاياتها، الأول يبدو حزينا بسبب خيانة زوجته له، مما أدى لانفصاله عنها، والثانية تكرس حياتها للعمل، وتكتب كل ما يحدث فى نوتة، وكانت قد فقدت زوجها فى الحرب، ولديها طفلان، يظهران عرضا، دون أن يستغل الفيلم حياتها الخاصة، ودون أن يضيف ذلك أى شيء، ولكن بشكل عام فإن المفارقة الحادة بين سذاجة الكونستابل ستوكر ورئيسها تبدو جيدة، وتثير الضحك.
مسألة قتل المخرج الأمريكى ليو كوبرنيك (أدريان برودي)، الهارب من هوليوود لعمل فيلم عن مسرحية "مصيدة الفئران" فى لندن، أيضا ظريفة، وخصوصا أن الفيلم يسخر من مخرجى أمريكا، ويقدم هذا المخرج بصورة سيئة جدًا، حيث يحاول ابتزاز منتج الفيلم بالإقامة فى فندق فاخر.
المخرج يبحث طوال الوقت عن الجميلات، ويشرب الكحوليات بشراهة، ولكنه يريد أن يقدم مسرحية «مصيدة الفئران» بشكل سينمائى، يعتمد على الفلاش باك، وينتهى الفيلم الذى يتخيله بمعركة يستخدم فيها السلاح، ولذلك يظل المخرج كوبرنيك فى صراع مع كاتب سيناريو الفيلم مرفن كوكر.
هذه بدايات جيدة وذكية، ولكن تم التعامل معها فى تطوير المعالجة بسطحية وخفة أدتا إلى ثغرات كبيرة، كأن تبدأ تحقيقات جريمة قتل المخرج بالتحقيق مع كاتب السيناريو، وليس مع الممثل الشهير ريتشارد أتنبرو بطل المسرحية، الذى اشتبك فعلا مع ليو كوربرنيك فى الإحتفال بمرور 100 يوم على المسرحية، ومثل سذاجة افتراض قتل كاتب سيناريو لمخرج سخر من النص الذى كتبه مؤلف الفيلم، ومثل شك المساعدة ستوكر فى رئيسها بسبب حكاية زوجته السابقة الخائنة، وارتباط ذلك بعشيقة للمخرج الأمريكى حشرت فى الأحداث، واعتماد التحقيقات على ملامح وهيئة رجل يتشابه مع الكثيرين، ومثل عدم استغلال ظهور شخصية أجاثا فى النهاية بشكل متقن، خاصة أن اكتشاف القاتل الحقيقى يتم أيضا بطريقة ساذجة ومفاجئة.
يعنى ذلك أن السخرية من الأجواء البوليسية ليست مبررا لعدم إتقان الحبكة، والفكرة الرائعة بأن يخرج فيلم مختلف من قلب مسرحية جريمة كلاسيكية، لا تجعلنا نتغاضى عن خفة فى بناء العمل كله، أساسها فى رأيى ضعف حرفة الكتابة، وليس روح السخرية والفكاهة، ودليل ذلك أن خط العلاقة بين المفتش ستوبارد ومساعدته، لم يتم تعميقه عاطفيا بشكل جيد، ولكنه ظل فى إطار العلاقة المهنية فقط، مع أن هذا الخط يعد بالكثير لو تناولته كتابة محترفة.
عادت الفكرة اللامعة من جديد فى مشهد النهاية، حيث يطلب المفتش ستوبارد من جمهور الفيلم، ألا يعلن عن اسم القاتل، وهو نفس طلب مفتش مسرحية «مصيدة الفئران» من جمهور المسرحية الشهيرة، كما عادت الفكرة اللامعة باكتشافنا أن فيلم «انظر كيف يركضون؟» حقق تقريبا رؤية المخرج الأمريكى المقتول ليو كوبرنيك، بأن يعتمد على الفلاش باك، وبأن ينتهى اكتشاف الجريمة بمشهد مثير للحركة، يتم فيه إطلاق النار.
هنا نموذج لفيلم كان يحتاج إلى إعادة كتابة كاملة، وتعميق لخطوطه وعلاقاته، وتطوير لشخصياته، والإستفادة منها، بدلا من أن تتناثر شخصيات متعددة هامشية، مثل والدة مديرة المسرح، ومثل الممثلة شيلا.
هذه العناصر ليست أساسية فقط فى أى عمل درامي، ولكنها أيضا مصدر قوة حبكة أعمال أجاثا كريستى، التى كانت تؤسس جيدا للشخصيات، ولدور كل منها فى الحبكة، وهذا بالتحديد سبب شعبية وبقاء أعمالها، رغم معرفة اسم القتلة، إنه سحر لعبة البناء التماسك، وسحر الشخصيات أيضا، وهو أمر مفقود فى مناطق كثيرة من فيلمنا الكوميدى.
ورغم اجتهاد كل الممثلين فى تقديم أداء مرح و خفيف، وخصوصا الجميلة سيرشا رونان وأدريان برودي، إلا أنك تلاحظ أن الشخصيات مقيدة بمسار محدد، ينتهى فجأة، أو يحده سقف الخيال، وكأننا أمام حلقة من مسلسل سيت كوم، تضحك معه جدا، ثم تنساه بعد نهايته بدقائق.