جاء المسيح مولودا من فتاة عذراء فقيرة، يرعاها شخص مسن يعمل نجارا، ويولد فى مزود بقر، جاء فى قمة التواضع، متخذا صورة عبد (فيليبي٢: ٧)، فقيرا جدا، جعل من نفسه مثالا للبشر الأكثر احتياجا (لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى) مناديا بأن الديانة الطاهرة النقية هى افتقاد اليتامى والأرامل فى ضيقتهم، وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس، ومعلنا (طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات، وطوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض) "متى٥:٥"
ولم يطلب من الإنسان إلا طلبات يمكنه تقديمها، وينبهنا بولس الرسول: "إن سمعتم صوت الله فلا تقسوا قلوبكم" (عب٣: ١٥):
● يا ابنى اعطنى قلبك لأسكن فيه، ولا تستحى وتذكر أننى ولدت فى مزود بقر وليس فى قصر، لأنه مهما كانت خطاياك وآثامك، أنا أقبلك وأسكن فى قلبك وأخلصك، لأنى لا أسر بموت الخاطئ مثل ما يرجع ويحيا، وأنا يا ابنى "واقف على الباب أقرع من يفتح لى أدخل "
● حب الرب إلهك من كل قلبك، وقريبك كنفسك، ولما سألوه من هو قريبى؟
إنه كل إنسان فى العالم، دون النظر الى الجنس أو العقيدة أو أى اعتبارات عالمية أخرى، وقص عليهم قصة السامري الصالح، الذى رأى إنسانا يهوديا سلبه اللصوص وجرحوه وتركوه بين الحياة والموت، وعبر عليه بعض اليهود ومضوا غير مبالين بحالته، بينما هذا السامرى الذى أطلق عليه الصالح فى وقت كان هناك عداء بين البلدين، حمله وذهب لعلاجه تاركا للفندق تكاليف للعلاج ووعد بسداد كل ما يتم صرفه عند عودته، ثم تساءل السيد المسيح: من هوأقرب لهذا اليهودي؟!
لقد علمنا السيد المسيح: أن نمتلك روح الأخوة الإنسانية وأن نتمثل بهذا النموذج الحى فى المحبة، والرحمة
ونحن نحتفل فى مصربميلاد السيد المسيح، نقدم نموذجا حضاريا، نابعا من الإنسانية الروحية، حيث يحتفل الشعب المصرى جميعا به، فى عطلة رسمية للتفرغ للاحتفال معاً، تأكيدًا لاعتراف الإسلام فى جوهره بتعاليم السيد المسيح، وكم سعدت بتوجيه عديد من الفقهاء الأفاضل الأجلاء، إلى أهمية النظر بعين الخصوصية الى كيان السيد المسيح، باعتباره حالة منفردة جدا لم تحدث من قبل وحتى الآن، حيث ذكر القرآن الكريم:
"وجيها فى الدنيا والآخرة ومن المقربين" ( آل عمران ٤٥).. كما ورد بأنه (مولود بغير زرع بشر)، وبأنه قام بشفاء مرضى، وكثير من المعجزات الخارقة!! ،هذه هى الصورة العملية للتسامح الديني.
وكم يسعد كل أقباط مصر كمبادرة غير مسبوقة، ما انتهجه الرئيس الإنسان عبد الفتاح السيسي، رئيس كل المصريين، على زيارة شركاء الوطن شخصيا بالكاتدرائية الكبرى ليلة الاحتفال بعيد الميلاد المجيد لتهنئتهم، وتهنئة قداسة البابا تواضروس الثانى، ترسيخا لوحدة نسيج الشعب المصري، وفى هذا تأكيدًا أمام شعوب العالم أن مصر قلعة الوطنية مجسدة معالم القيم الإنسانية التى رسختها الأديان للتعايش السلمى وقبول الآخر، وستبقى دائما تضرب المثل العظمى والفريدة فى التعايش السلمى لكل من ينتمى لها، ونشر قيم المحبة والمساواة فى وحدة صلبه.
وما أجمل تهنئة فضيلة الإمام الأكبر الدكتور / أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف هذا العام:
"أهنئ أخوتي، وأصدقائى الأعزاء، البابا فرنسيس، والبابا تواضروس الثاني، ورئيس أساقفة كانتربري، وبطريرك القسطنطينية، وقادة الكنائس، والأخوة المسيحيين فى الشرق، والغرب بأعياد الميلاد، وأدعو الله أن يعلو صوت الأخوة والسلام، ويسود السلام فى كل مكان".
وهذا ليس بغريب على أصالة التراث الإسلامي، فنجد فى تراثنا مفكرون عظام مثل: الشيخ الأكبر محيى الدين ابن عربي (١١٦٤- ١٢٤٠م) الذى أصبح الجسر الواصل بين الشرق والغرب بأفكاره فى التسامح. حيث يقول:
"احترم كل أصحاب العقائد، واعتبر أن إيمان الإنسان بمن يؤمن به، هو إيمان كامل لأن العابد الحق يعبد الله فى أى صورة، فالله موجود فى كل شيء والعابد يبحث عن الله!!"
وقد جاءت مقطوعته الشهيرة عنوانا للتسامح بين الأديان كلها:
"لقد صار قلبى قابلا كل صورة، أدين بدين الحب، فالحب دينى وإيماني"
حقا، فالله محبة وكفى !!
إن للكون إله، الله وكفى، إننا كالخزف بين يدى الله، ولا نعلم ماذا نعمل لكن نحوه أعيننا، ليتراءف الله علينا ويرحمنا، ويفرح قلوبنا بعيد ميلاد يسوع.